قراءة متمعنة في كتابين “مذكرات هاشم الشبلي” و “محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث”

كاظم حبيب

الكاتب: هاشم الشبلي
الكتاب الأول: مذكرات هاشم الشبلي (عام 2016)
الكتاب الثاني: محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث 1936-2017 (عام 2017)
دار النشر: دار دجلة، عمان – الأردن
الحلقة الأولى
صدر للكاتب والحقوقي العراقي الأستاذ هاشم الشبلي كتابين في عامي 2016 و2017. وهما كتابان قيّمان يبحثان في وقائع وأحداث ونضالات ونجاحات وفواجع ونكبات العراق الحديث، العراق الملكي وعراق الجمهوريات الخمس المتتالية. كما أن الكتابين يكملان أحدهما الآخر. في الكتاب الأول، الذي يطرح فيه الكاتب مذكراته الشخصية، يمر بسرعة نسبية على الكثير من الأحداث التي عاصرها وعاش مراراتها، ليعود في كتابه الثاني ليركز على أهم تلك الأحداث وأكثرها مأساوية للشعب العراقي كله أو لأجزاء منه، ومنهم الفئة المثقفة التي عانت بدورها وعاشت مخاضات أحداث العراق العصية على الفهم أحياناً لمأساويتها وحجم الفواجع فيها من موت واسع ودمار شامل وخراب ورثاثة، تلك الأحداث المريرة التي تسببت بها النظم السياسية العراقية غير الديمقراطية والاستبدادية، وكذلك دور المجتمع الإقليمي والدولي في التسبب بها أو إشعال فتيل حروب العراق. يصعب فصل الكتابين عن بعضهما، وبالتالي لا بد من قراءة متفاعلة مع الكتابين وبتكثيف شديد.
هاشم الشبلي شخصية حقوقية وسياسية ذات وعي ونهج ديمقراطيين عميقين، نهل من تاريخ العراق الحضاري والفكر النضالي فيه، ومن معين الفكر التقدمي والديمقراطي العالمي، والتزم بهما وبالعدالة الاجتماعية والسلام في مسيرته السياسية المديدة، هذه المسيرة التي بدأت عملياً مع بداية الخمسينيات من القرن العشرين واستمرت حتى الوقت الحاضر، وأتمنى له المواصلة والصحة والعافية وطول العمر.
شارك هاشم الشبلي في نضالات شعبه قبل ثورة تموز 1958 وما بعدها وعانى، هو وأفراد عائلته، الكثير من المشقات والسجون والتعذيب، دون أن يصيبه اليأس أو الإحباط، وحافظ على علاقته الوطيدة بالشعب وأهدافه وطموحاته من جهة، وبالأرض التي ولد عليها وعاش مع عائلته الكريمة والمناضلة ومع اقرانه فيها وتحمل وزر انتماءاته السياسية الوطنية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والدولة المدنية العلمانية. لم أتعرف عليه عن قرب، ولكني عرفته من خلال اربع وقائع:
أولاً: مقالاته التي كان ينشرها في أعقاب سقوط الدكتاتورية البعثية والصدامية الغاشمة التي تسنى لي قراءتها والاستفادة منها، والتي يمكن العثور عليها في موقع الحوار المتمدن.
ثانياً: نهجه الديمقراطي المستقل وسياساته ومواقفه المميزة حين أصبح وزيراً للعدل في ثلاث وزارات بين 2004-207 ممثلاً عن الحزب الوطني الديمقراطي.
ثالثاً: عبر أحاديثي مع شخصيات ديمقراطية صديقة له، منهم الدكتور عبد الأمير العبود وأستاذي الفاضل نجيب محي الدين والدكتور الطيب الذكر مهدي الحافظ، إضافة إلى ما ورد عنه في كتاب الأستاذ نصير الچادرچي الموسوم “مذكرات نصير الچادرچي” الصادر في العام 2017 عن دار المدى ببغداد والذي تسنى لي الكتابة عنه.
رابعاً: من خلال الكتابين اللذين اسعى لممارسة قراءة نقدية موضوعية لهما والتي اعطتني الكثير من المعلومات المهمة عن شخصيته وأفكاره وممارساته الديمقراطية في مختلف مراحل حياته ومواقفه السياسية.
إن قراءتي للكتاب الأول منحني الثقة بأني أمام كاتب يتسم بالصدقية التامة وبوضوح الرؤية والفكر المستقل القادر على اتخاذ الإجراء والموقف المناسب مهما كانت الأوضاع الحرجة التي يمر بها أو يواجهها، إضافة إلى قناعته العميقة بقدرة الشعب العراقي، رغم كل المرارات التي يعيش تحت وطأتها، على يتجاوزها يوماً، ويغذ السير لبناء العراق الديمقراطي والتقدمي والعلماني الجديد. يتلمس القارئ ذلك من خلال صفحات الكتابين والتي سأحاول تناولهما معاً، رغم صعوبة ذلك. كان بإمكان الكاتب أن ينجزهما في كتاب واحد، ولكن الحصيلة ستكون على حساب المضامين الواسعة للأحداث في الكتاب الثاني الموسوم “محطات سوداء..” أو أن يصبح الكتاب الأول كبيراً جداً بحيث يصعب طبعه في كتاب واحد، وحسناً فعل.
يتضمن الكتاب الأول ثلاثة عشر فصلاً بدءاً من الولادة ومروراً بالدراسة وبواكير العمل السياسي، فثورة تموز 1958، ثم الانقلابات السياسية والعسكرية المتتالية، فالنظم الاستبدادية والحروب، والحصار والدمار واحتلال العراق، الذي انتهى إلى إقامة نظام سياسي طائفي ومحاصصة طائفية مقيتة بالبلاد. أما الكتاب الثاني الموسوم “محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث 1936-2017″، وجاء الكتاب في اثني عشر فصلاً، بدءاً من تأسيس الدولة العراقية الملكية الدستورية، ومروراً بالانقلابات المتتالية تفصيلاً، ثم الحروب المتتالية والاحتلال الدولي للعراق بقيادة الولايات المتحدة، والحكومات التي تشكلت خلال الفترة الواقعة بين إسقاط الدكتاتورية الغاشمة واجتياح داعش للموصل ونينوى، فالحشد الشعبي العقائدي، وأخيرا معنى أو مفهوم الوطنية الحقيقية مع مجموعة من الوثائق والصور.
ولد الأستاذ هاشم الشبلي في عائلة بغدادية عريقة برز فيها العديد من الشخصيات الفنية والديمقراطية المعروفة في الأوساط العراقية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الفنان المسرحي، الممثل والمخرج، حقي الشبلي وشقيق الكاتب الأستاذ المناضل قاسم الشبلي. تهيأت للجيل العراقي الذي ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأنا منهم، فرصة العيش في العقدين اللاحقين بشكل خاص أحداثاً كبيرة، منها نهوض النازية والفاشية والعسكرية وإشعال الحرب العالمية الثانية وانهيار مشعليها في العام 1945 ثم بروز المنظومة الاشتراكية على الصعيد العالمي. كما توفرت المزيد من الكتب الحديثة والروايات الديمقراطية والاجتماعية لكتاب بارزين عربياً وعالمياً مثل سلامة موسى وجورج حنا وشبلي شميل وجون شتاينبك وهمنغواي وتولستوي ودستويفسكي وغوغول وغيرهم، التي ساهمت كلها في نشر الوعي التقدمي وفي توفير الأجواء المناسبة لتبلور وبروز حراك سياسي متميز للقوى الديمقراطية العراقية منذ العام 1946، بعد ركود نسبي في أعقاب انقلابين عسكريين بقيادة بكر صدقي العسكري ( من مواليد مدينة عسكر) في العام 1936 وانقلاب رشيد عالي الگيلاني في العام 1941، والذي تجلى في انطلاقة الوثبات والانتفاضات المتتالية لمواجهة سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي والتي غيبت الحياة الديمقراطية والحريات العامة وانخراطها في الأحلاف العسكرية. في هذه الفترة بالذات، حيث كان عمر هاشم الشبلي قبل بلغ الثالثة عشر سنة، حين حصلت وثبة كانون الثاني 1948 التي رفضت الأحزاب الوطنية والديمقراطية والقومية، العلنية منها، مثل الحزب الوطني الديمقراطي وحزب استقلال، والأحزاب السرية، الحزب الشيوعي وحزب الشعب وشخصيات مميزة مثل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشخصية الديمقراطية التقدمية عبد الفتاح إبراهيم.. الخ، استبدال معاهدة 1930، التي أطلق الشعب العراقي عليها بـمعاهدة “الاسترقاق”، بمعاهدة بورتسموث، في فترة رئاسة صالح جبر لمجلس الوزراء. وقد شارك الصبي هاشم الشبلي بها، والتي ساهمت في بدء تفتح وعيه السياسي المبكر. وقد كان للدماء التي سالت والرصاص الذي لعلع من بنادق الشرطة في مواجهة المتظاهرين دورها في إدراك طبيعة الحكم القائم بالعراق.

تميزت الفترة الواقعة بين 1948-1952 بنشاط سياسي وثقافي واسعين، إذ يشير في كتابه الأول إلى ذلك بقوله: “كانت تلك الحقبة تمور بنشاط سياسي وفكري وثقافي واسع، تقوده وتحركه الأحزاب الديمقراطية واللبرالية والقومية وفي مقدمتها (الحزب الوطني الديمقراطي) و(الحزب الشيوعي العراقي) و (حزب الاستقلال)، وكانت جريدة (الأهالي) الناطقة باسم -الحزب الوطني الديمقراطي) في مقدمة الصحف التي توجه النقد الشديد لسياسات الحكومات المتعاقبة وتطالبها بإطلاق الحريات العامة وإطلاق سراح المعتقلين والإفراج عن السجناء والسماح بتشكيل النقابات والمنظمات المهنية والعمالية وتحقيق الديمقراطية وإيجاد فرص عمل للعاطلين وخاصة المثقفين منهم.” ثم يشير هاشم الشبلي أيضاً إلى مساهمة “نشرات (الحزب الشيوعي) السرية بنقد سياسات السلطة ومطالبتها بإطلاق الحريات العامة والإفراج عن السجناء ومعالجة الأوضاع الاقتصادية التي كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم”. (الكتاب الأول ص 39). فكان من نتائج ذلك، وإصرار الحكم على سياساته الرجعية المعبرة عن مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين ومصالح بريطانيا بالعراق إن انطلقت انتفاضة 1952 التي أجبرت النظام على وضع شخصية عسكرية على رأس السلطة هو الفريق نوري الدين محمود وإعلان الأحكان العرفية (الطوارئ) بالبلاد واعتقال الالاف من المناضلين في سائر أنحاء العراق وزجهم في المعتقلات وإصدار الأحكام القاسية بحق المئات منهم.
كان تنامي الحس الوطني والديمقراطي لدى الشاب هاشم الشبلي قد دفعه إلى الارتباط بالحزب الشيوعي العراقي والانتماء له، إذ رفض من دعاه لدخول حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان قد تأسس في العام 1952 ببغداد، إذ كتب يقول: ..، لأنني لم أقتنع بما قرأت من أدبيات الفكر القومي، ووجدته هشاً وضبابياً، وتجاوبت مع الفكر الماركسي والديمقراطي التقدمي،..” (الكتاب الأول ص 41).
وخلال الفترة الواقعة بين 1936-1952 وقعت مجموعة من الأحداث التي يمر عليها الكاتب في كتابه الأول ويبحث فيها في كتابه الثاني، منها انقلاب 1936 وانقلاب 1941 والفرهود ضد اليهود في العام 1941 ومن ثم تقسيم فلسطين والاعتراف بإسرائيل في العام 1947 وحرب فلسطين عام 1948، وقرار إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين في العام 1950 وعواقبه. وسنحاول أن نتناول بعضها فيما يلي:

انقلاب بكر صدقي
يتوقف الكاتب جيداً ويبحث بعمق في أسباب انقلاب بكر صدقي. ففي العام 1936 وقع انقلاب عسكري قاده الفريق بكر صدقي العسكري وبالتعاون والتنسيق مع حكمت سليمان وجماعة الأهالي وجمعية الإصلاح الشعبي. وكانت أفكار جماعة الأهالي (1932)، ومن ثم الإصلاح الشعبي (1934) تنتمي جزئياً إلى الاشتراكية الديمقراطية الإصلاحية، وذات برنامج تقدمي مشترك لخصت فيه الأهداف والمهمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تسعى إلى تحقيقها. وكان حكمت سليمان عضواً في هذا الجماعة. وكان هذا الانقلاب أول تدخل فعلي لفصيل من القوات المسلحة في الحياة السياسية العراقية وبالتعاون مع جماعة وطنية وديمقراطية عراقية مثل جعفر أبو التمن وكامل الچادرچي وعبد الفتاح إبراهيم. وإذ رفض في البداية كل من محمد جعفر أبو التمن وعبد الفتاح إبراهيم استخدام القوات المسلحة للوصول إلى السلطة، إلا إن محمد جعفر أبو التمن قد تراجع عن موقفه ووافق المشاركة في الانقلاب، في حين استمر عبد الفتاح إبراهيم رافضاٌ مبدئياً وعلياً وبإصرار مشاركته ومشاركة الجماعة في تنفيذ الانقلاب، باعتباره خرقاً للدستور وتجاوزا على الديمقراطية ومهمات القوات المسلحة العراقية، إضافة إلى إنها بادرة ستجر بعدها انقلابات أخرى، وكان على حق كبير. علماً بأن حكومة ياسين الهاشمي حينذاك لم تمارس سياسة ديمقراطية بل “ارتكبت أخطاء أساءت إلى الحكومة كالفساد واستغلال النفوذ ورعاية المنافع الخاصة وتفشي المحسوبية والرشوة وإهمال مصالح الشعب واستخدام القوة المفرطة في قمع احتجاجات العشائر المطالبة بحقوقهم وتمرد الآشوريين وزج الجيش في قمع الاضطرابات الداخلة وملاحقة الصحافة والأحزاب والنقابات بإجراءات مخالفة للقانون، لهذه الأسباب فقد عمّ الاستياء والتذمر والملل من الحكومة.” (الكتاب الثاني، ص 24). ومع ذلك لم يكن الانقلاب طريقاً سليماً لتغيير الأوضاع. وهو الدرس الذي استفاد منه فيما بعد السياسي العراقي الكبير كامل الچادرچي. لقد شارك في حكومة الانقلاب التي ترأسها حكمت سليمان أربعة من جماعة الأهالي بضمنهم أبو التمن والچادرچي. إلا إن الحكم الفعلي لم يكن بيد الحكومة بل بيد بكر صدقي العسكري، إذ يشير الكاتب “وقد أساء بكر صدقي للشعب وللبلد حيث فرض سيطرته وأساء استعمال السلطة وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد”، مما أدى إلى رفض هذه السياسات من قبل القوى الديمقراطية ومن جماعة الأهالي المشاركة في الحكم ومن أوساط عسكرية وشعبية واسعة، إضافة إلى مقاومة أجزاء من الفئات الحاكمة، مما استوجب استقالة وزراء جماعة الأهالي. وقد سقط النظام بعد اغتيال قائد الانقلاب بكر صدقي بالموصل في العام 1937. يشير الأستاذ هاشم الشبلي إلى سياسة بكر صدقي بقوله “ومن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الفريق بكر صدقي هو قتل الفريق جعفر العسكري ( وهو من نفس مدينة عسكر التي ولد فيها بكر صدقي العسكرين، ك. حبيب) وزير الدفاع عندما حاول الأخير إيقاف زحف قوات الانقلابيين إلى بغداد حيث اتصل بقائد الانقلاب بكر صدقي وأبلغه بأنه يحمل رسالة من الملك غازي ووزير الخارجية نوري السعيد، إلا إن بكر صدقي وقبل أن يستلم الرسالة أرسل من يقتل العسكري فجردوه من سلاحه وقتلوه، وبهذا فقد ألَّب الفريق بكر صدقي الجيش عليه لأن جعفر العسكري كان شخصية متوازنة وحبوبة ومسالمة ومن مؤسسي الجيش والدولة الحديثة.” (المصدر السابق نفسه، ص 25). كما أنه قد مارس ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث نهج: الاستبداد والعداء للقوى اليسارية وخاصة الشيوعيين والديمقراطيين، وأسقط لأول مرة أيضاً الجنسية عن شخصيات شيوعية عراقية معروفة عبد القادر إسماعيل وأخيه يوسف إسماعيل وإبعادهما على خارج العراق. ويؤكد الكاتب، وهو شخصية حقوقية ووزير عدل سابق، بأن بكر صدقي قاد “أول انقلاب ضد الشرعية وضد الدستور والقوانين المرعية وضد القيم والمبادئ الديمقراطية التي تستلزم أتباع الطرق والأساليب الديمقراطية والسياسية عند المطالبة بالتغيير..” (الكتاب الثاني، ص 26)، وهو يرفض العنف والقوة للاستيلاء على السلطة.

انقلاب رشيد عالي الگيلاني
عالج الأستاذ هاشم الشبلي بتوسع مناسب انقلاب الأول من مايس/أيار 1941 من حيث العوامل والأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب، والصراعات التي كانت تدور بين قوى المعارضة السياسية والفئات الحاكمة والبلاط الملكي، وانحياز الحكومة في الحرب التي نشبت بين دول المحور والحلفاء الثلاث (المانيا وإيطاليا واليابان) من جهة، والدول الأوروبية المتحالفة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، إلى جانب التحالف الدولي المناهض لدول المحور، مؤكدا إن الخلاف قد انصب على ثلاثة عوامل:
1) رغبة المعارضة في ألّا يزج العراق في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل؛ و2) رفض إملاءات الدولة البريطانية على الحكومة العراقية وتزايد مطالبها في وضع القواعد العسكرية البريطانية في خدمة الحرب ضد دول المحور؛ و3) تزايد النقمة الشعبية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة بسبب تعاونها مع الحكومة البريطانية. لا شك في أن هذه التكثيف للمسألة سليم من حيث مجرى الأحداث بالعراق حينذاك. إلا إني أختلف بعض الشيء مع الأستاذ هاشم الشبلي في تشخيص الموقف وموقف أكثر القوى المعارضة حينذاك، والتي تمثلت بمجموعة القوى القومية العربية العراقية، إذ إن ما ذكره من الأسباب بقدر ما هي صحيحة ليست كافية للتعبير عما حصل بالعراق حينذاك. فعلى وفق قناعتي ودراستي المستفيضة لحيثيات الانقلاب وقواه الفعلية وعلاقاته الداخلية والخارجية، أوكد فعل عوامل أخرى لتنفيذ الانقلاب المذكور، وألخص رأيي بما يلي:
كان القوميون العراقيون العرب حتى ذلك الحين ينتظمون في نادي المثنى الثقافي، ولكنهم كانوا يتحرون عن فرصة مناسبة لتشكيل تنظيم حزبي سري يساعدهم على تحقيق الأهداف التي كانوا يسعون إليها. وراودت هذه الفكرة أذهان العسكريين والمدنيين الذين قادوا الحركة فيما بعد، وخاصة صلاح الدين الصباغ، محمد يونس السبعاوي ومحمد حسن سلمان منذ عام 1937. (راجع: عبد الله الجيزاني، حزب الاستقلال العراقي 1946-1958 التجربة الفكرية والممارسة السياسية. الطبعة الأولى 1994. ص 42). وتكرست هذه الرغبة أكثر فأكثر منذ مجيء الحاج أمين الحسيني، مفتي الديار الفلسطينية، ومجموعة من الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة فلسطين، إلى بغداد. وتحت تأثيره ودوره المباشر وتأثير الوضع المتأزم بفلسطين حينذاك اتخذت حركة القوميين العرب مساراً جديداً بعدة اتجاهات أساسية، وهي:
1. تشكيل لجنة للتعاون مع البلدان العربية التي ضمت في عضويتها “رشيد عالي الگيلاني وناجي شوكت وناجي السويدي ويونس السبعاوي والعقداء الأربعة والعقيد إسماعيل حقي من العراق، وشكري القوتلي وعادل أرسلان وزكي الخطيب من سورية، ويوسف ياسين وخالد الهود من العربية السعودية”. (راجع: عبد الرزاق الحسني، الأسرار الخفية في حركة السنة 1941 التحررية، ص 9). وهي لجنة علنية اعتبرت قاعدة لنشاطها العلني بين الأوساط العراقية ولتعزيز تحركها الشرعي على الأقطار العربية الأخرى.
2) تأمين غطاء حزبي سري ينظم ويوجه العملية السياسية بالعراق لصالح أهداف الجماعة. وفي ضوء ذلك تقرر في شهر شباط من عام 1941، وقبل تسلم رئاسة الوزراء من قبل رشيد عالي الگيلاني، تشكيل حزب سياسي سري باسم حزب الشعب، كما منح كل عضو في هذا الحزب اسماً حزبياً سرياً. (المصدر السابق نفسه، ص 109). وأعطيت القيادة لمفتي الديار الفلسطينية الحاج أمين الحسيني (مصطفى)، كما كان في عضويته كل من رشيد عالي الگيلاني (عبد العزيز) وصلاح الدين الصباغ (رضوان) ويونس السبعاوي (فرهود) وفهمي سعيد (نجم) ومحمود سلمان (فارس) وناجي شوكت (أحمد). (ناجي شوكت. سيرة وذكريات…. الجزء الثاني. مكتبة اليقظة العربية. بغداد. 1990. ص433/434 و510-514).
وضم الحزب أيضاً المجموعة التالية من الأعضاء: محمد علي محمود وداود السعدي ومحمد حسن سلمان وعثمان حداد. وكانت المجموعة، التي أقسمت اليمين على الإخلاص للقضية التي تناضل من أجلها وللحزب الذي أسسته سراً حتى النهاية، تجتمع باستمرار لاتخاذ القرارات المناسبة، وهي التي قررت تنفيذ الانقلاب الذي وقع في الأول من مايس عام 1941. وشكل الحزب القومي السري جناحاً عسكرياً ضم في عضويته صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وغيرهم. (عبد الله الجيزاني، مصدر سابق، ص 42). وهي أول بادرة في حزب مدني عراقي يشكل جناحاً عسكرياً فيه. ولا شك في أن جماعة الأهالي قد ربطت بها بعض العسكريين من قادة الانقلاب، ولكنها لم تشكل منهم جناحاً عسكرياً تابعاً للحزب. كما إن الحزب الشيوعي العراقي كان يضم في صفوفه ضباطاً وجنوداً، ولكنه لم يشكل حينذاك تنظيماً عسكرياً خاصاً وتابعاً للحزب، رغم وجود دعوات لتشكيل مثل هذا التنظيم ومنه الرفيق زكي خيري، عضو اللجنة المركزية حينذاك. وجدير بالإشارة إلى أن المجموعة المدنية من هذه التشكيلة القيادية والأعضاء، وهم رشيد عالي الگيلاني، ناجي شوكت، علي محمود الشيخ علي، يونس السبعاوي، محمد علي محمود، داود السعدي، والدكتور محمد حسن سلمان، قد قدمت طلباً رسمياً في أعقاب القرار السري الذي اتخذ بتشكيل الحزب ولجنته السرية، أي بتاريخ 27 آذار/مارت من عام 1941، إلى وزارة الداخلية لتكوين حزب سياسي باسم “حزب الشعب” قبل استقالة وزارة العميد طه الهاشمي دون أن يجاب الطلب. (راجع: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، الجزء الخامس، ص 194). ويلاحظ بأن الأسماء التي غابت عن طلب التأسيس الرسمي هي الجماعة العسكرية والمفتي الحاج محمد أمين الحسيني، أي احتفظوا بالكادر العسكري سرياً.
3) وعلى غرار كتائب الشباب الهتلرية عمد قادة حزب الشعب السري أو اللجنة السرية، وفي خضم تنامي السيطرة على السلطة، إلى تأسيس “كتائب الشباب” لتأخذ على عاتقها تعبئة الشباب وراء الحركة ودعم حكومة الگيلاني ومساعدتها في قبول متطوعين لمواجهة التعبئة العسكرية البريطانية وعملياتها العسكرية بالعراق، وضمان تقديم المساعدة لأسر الشهداء والجرحى. “وكان نواة كتائب الشباب، كما يشير إلى ذلك السيد عبد الجبار حسن الجبوري وفق الوثائق المتوفرة، طلاب كليتي الحقوق والطب ودار المعلمين” وكان يشرف على هذه الكتائب “محمد درويش المقدادي (الرئيس) وإبراهيم شوكت وواصف كمال وسليم محمود الأعظمي وعبد الرحمن البزاز وعباس كاشف الغطاء وحسن الدجيلي وعبد الكريم كنونة وعبد المجيد القصاب”. (عبد الجبار حسن الجبوري، الأحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي 1908-1958. مصدر سابق. ص 106). وقامت الحكومة بإرسال ضابط عسكري للقيام بتدريب أفراد الكتائب، وهو الرئيس الأول سامي عبد القادر.
4) انتهاج سياسة مناهضة بالكامل لبريطانيا وحرمانها قدر الإمكان من تعاون العراق معها في الحرب ضد ألمانيا ودول المحور الأخرى، (الصباغ، صلاح الدين، فرسان العروبة، ص 130/131)، رغم أنها كانت تشير في أدبياتها العامة إلى ضرورة المحافظة على العلاقات التقليدية الطيبة مع بريطانيا. وفي الوقت ذاته إقامة الروابط المستمرة مع ألمانيا وإيطاليا واليابان لصالح استقلال الدول العربية ووحدتها. وكان الحاج أمين الحسيني قد أقام قبل ذاك علاقات سياسية مع ألمانيا وساهم في إرسال صحفيين عرب يشاركون في العمل في إذاعة برلين الهتلرية الموجهة ضد الحلفاء ومن أجل تحريض العرب لدعم ألمانيا، إضافة إلى تحريض العرب ضد النظم السياسية القائمة فيها، وخاصة ضد تلك الدول المتحالفة مع بريطانيا وضد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا وإيطاليا بناء على طلب بريطانيا. (راجع: نجم الدين السهروردي، التاريخ لم يبدأ غداً، حقائق وأسرار عن ثورتي رشيد عالي الگيلاني 41 و58 بالعراق، ط 2، شركة المعرفة، بغداد_ 1989، ص 220).
5) ربط المصلحة العراقية بالمصلحة الفلسطينية والانطلاق منها في تحديد سياسة العراق إزاء بريطانيا.
6) العمل على تسلم السلطة بالعراق وإزاحة المتعاونين مع بريطانيا كلية.
ويشير ناجي شوكت إلى ما يلي: “وقد أقسم أعضاء اللجنة السرية السبعة على أن يعملوا كل ما في وسعهم من قوة وإيمان خالص لإنقاذ العراق وسائر البلدان العربية من الاستعمار وأذناب الاستعمار، وتحقيق الاستقلال لها على أن تراعي ما يلي:
1. المحافظة على الوضع الراهن، وعدم التعرض للمعاهدة العراقية – البريطانية في الوقت الحاضر، حتى ينجلي الموقف نتيجة تطور الأحداث العالمية، والسير في الأمور بروية وتبصر.
2. إذا كان لا بد من قطع علاقات العراق السياسية بإيطاليا، فيجب أن يستند القرار في ذلك إلى موافقة مجلس النواب بحرية كاملة.
3. يجب السعي لإبعاد أذناب الاستعمار وعملاء الإنكليز، أمثال نوري السعيد، وجميل المدفعي، وعلى جودت، وأمثالهم إلى خارج العراق بتعيينهم كسفراء في لندن، وواشنطن، والقاهرة، وغيرها، وذلك للتخلص من شرورهم في هذه الحرب الطاحنة.
4. تعديل الدستور العراقي في أول فرصة ممكنة لتحديد صلاحيات الوصي واستصواب أحلال مجلس وصاية بدلاً منه”. (ناجي شوكت، سيرة وذكريات، الجزء الثاني، مصدر سابق. ص 434/435).
وقد أضاف صلاح الدين الصباغ أهدافاً أخرى لمهمات اللجنة السرية للحزب السري، كما وردت في كتابه المعروف “فرسان العروبة”، والتي اعتبرها ناجي شوكت قضايا غير جوهرية. ويؤكد صلاح الدين الصباغ إلى أن القرار الذي تضمن النص التالي: “لما كان الإنكليز قد أقدموا بتشجيع أذنابهم على فرض مطالب مجحفة تتوخى زج العراق في الحرب، وإرغام باقي الأقطار العربية على السكوت وعدم المطالبة بحقوقها، فأن عزم طه (والمقصود طه الهاشمي، ك. حبيب) على قطع العلاقات السياسية مع إيطاليا بصورة فجائية وبدون استشارة المجلس النيابي أو الجيش لن يرضي الإنكليز، ولن يقعدهم عن تحقيق غاياتهم كاملة. لذلك، فأن الإنكليز سيعملون على إقصاء قادة الجيش المخلصين، ليسيطروا عليه ومن ثم ينقاد العراق لهم كما يشاءون”. (صلاح الدين الصباغ، فرسان العروبة، مذكرات الشهيد العقيد الركن صلاح الدين الصباغ. تقديم ومراجعة سمير السعيدي. ط1، تانيت للنشر، الرباط، المغرب، 1994، ص 267).
وبصدد الملك غازي فان المعلومات المتوفرة لا تشير إلى إنه كان عنصري النزعة أو نازي الفكر أو مناهض لليهود العراقيين. ولكن ربما كرهه الشديد للإنجليز هو الذي كان قد دفعه للتنسيق مع أعداء بريطانيا والنخبة الحاكمة العراقية المتعاونة والمساندة للوجود البريطاني بالعراق. وعلينا هنا أن نشير إلى التعاون بين يونس بحري، وهو ضابط بدرجة رائد في الـ “أس أس „SSباسم يوحنا بحري، وبين الملك غازي قد استند إلى موقف الملك غازي من مسألتين أساسيتين هما:
أ. كراهية الملك غازي للبريطانيين باعتبارهم مستعمرين للعراق ومسيطرين ومتحكمين بسياسة البلاد من جهة، وإنهم لم يلتزموا بما وعدوا به العرب وجده الحسين بن علي شريف مكة بتحقيق الوحدة وإقامة الدولة العربية الواحدة من جهة أخرى، إضافة إلى استعمارهم للكويت ومطالبته الصريحة بكون الكويت جزءاً من ولاية البصرة التي هي جزء من العراق. وقد تبنت إذاعته في قصر الزهور هذه المواقف من جهة ثالثة، وربما كان يعتقد بأن البريطانيين قد أجهزوا على والده في سويسرا حين كان تحت المعالجة الطبية من جهة رابعة.
ب. ويحتاج أمر آخر إلى مزيد من التحري والتدقيق في الوثائق الألمانية والبريطانية حول مدى العلاقة التي كانت احتمالاً تربط بين الملك غازي بالألمان عبر يونس بحري وصحيفته “العقاب” التي نسق إصدارها مع غوبلز منذ العام 1931 وعاد لهذا الغرض إلى العراق وبمهمة محددة. وهل كانت هناك علاقة تنسيقية بين يونس بحري والوزير المفوض الألماني فرتز غروبا مع الملك غازي بشأن الموقف من بريطانيا. علماً بأن فرتز غروبه قد لعب دوراً كبيراً في تعزيز العلاقات بين نادي المثنى ومن ثم حزب الشعب بالنظام النازي بألمانيا وإرسال الكثير من فرق الكشافة إلى المانيا ودعوة المحاضرين لإلقاء محاضرات في نادي المثنى.
كما لا بد من الإشارة إلى أن يونس بحري كان قد عين مسؤولاً عن الجواسيس الألمان من العرب الذي يرسلون إلى الدول العربية للتجسس على القوات البريطانية وعلى أوضاع البلاد العربية وقواها السياسية. لقد كان ليونس بحري ثلاثة مسؤولين عملياً من قيادة النظام النازي الأول هو غوبلز المسؤول عن الدعاية النازية، والثاني هو المسؤول عن جهاز الأمن الألماني الـ “أس أس” هاينريش هملر، والثالث هو المسؤول عن “الغستابو” هيرمان غورينغ.
وباختصار شديد فأن الحركة القومية العربية كانت حينذاك ذات طابع يميني متشدد ومتأثرة بالفكر النازي القومي الذي روج له بعض السياسيين القوميين من خلال وجودهم المشتركة في نادي المثنى بن حارث الشيباني، الذي تأسس عام 1935 ببغداد، ومنهم ساطع الحصري وسامي شوكت وأبرز الشخصيات التي كانت تعمل في نادي المثنى. وإذا كان سامي شوكت قد أهتم بشكل خاص في الجانب العملي، فأن ساطع الحصري قد أبدى اهتماماً أكبر بالتثقيف الفكري، إذ ألقى سلسلة من المحاضرات حول القضايا القومية والوطنية والموقف من الكوسموبوليتية، ومن ثم من الأممية ومعاداته للأممية والشيوعية والفكر الاشتراكي. وقد استقى، كسلفه سامي شوكت، الكثير من أفكاره من ترسانة الفكر القومي الألماني ومن فكر الفيلسوف الألماني “يوهان غوتليب فيخته (1762–1814)” على نحو خاص، واعتمد على الأول في تبيان أهمية القومية والتعصب القومي. ففي محاضرة له برّز وقيَّم عالمياً أفكار فيخته بهذا الصدد حيث كتب يقول: “إن خُطب فيخته تنم عن روح وطنية متأججة، وتدعو إلى نزعة قومية متعصبة. ولا سيما الخطبة الختامية، فأنها تعتبر آية من آيات التحميس والاستنهاض: يوجه فيخته في خطبته هذه بعض الكلمات إلى الشباب، ثم إلى الكهول. ثم إلى رجال الدولة والمفكرين والأدباء، وأخيراً إلى الأمراء، مصدراً كل واحدة من هذه الكلمات بقوله: “إن خطبي تستحلفكم وتبتهل إليكم …”. وبعد ذلك يضطرم حماسه فيقول لهم جميعاً: “إن أجدادنا أيضاً يستحلفونكم معي ويضمون صوتهم إلى صوتي”، ويأخذ في تصوير صوت الأجداد بأسلوب حماسي جذاب. ثم يعقب ذلك بقوله: “أن أخلافكم أيضاً يتضرعون إليكم …”. (الحصري، أبو خلدون ساطع. الأعمال القومية لساطع الحصري. القسم الأول. في ثلاثة أقسام. مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة التراث القومي. الطبعة الثانية: بيروت. 1990. ص 49). ثم ينهي ساطع الحصري خطبة فيخته بالمقتطف التالي: “… ولو تجاسرت، لأضفت إلى كل ما تقدم، قائلاً: “إن القدرة الفاطرة أيضاً تستحلفكم وتستنهضكم. لأنه لم يبق على وجه الأرض أمة حافظت على بذور قابلية التكامل البشري بقدر ما حافظت عليها أمتكم المجيدة فإذا سقطت الأمة الألمانية، سقط معها الجنس البشري، ولا يبقى له أدنى أمل في السلامة”. (المصدر السابق نفسه). وكان هذا هو الفكر الذي يروج له ساطع الحصري ليقترب من نفس الفكر الذي تحدث به ألفريد روزنبيرغ، مفكر وفيلسوف النازية وموجه الدولة الهتلرية فكريا، الذي تجلى في كتابه الشهير الموسوم “الدم والشرف – نضال من أجل إعادة بعث ألمانيا-” الصادر في ألمانيا/ ميونيخ في عام 1934، وهي عبارة عن خطب ألقاها في الفترة الواقعة بين 1919-1933.
، (Rosenberg Alfred. Blut und Ehre. Ein Kampf fuer deutsche Wiedergburt. Reden und Aufsaeze von 1919-1933. Zentralverlag NSDAP).،Frz. Eber Nachf.،Muenchen. 1934.
كما أنها تصب في بعض الاتجاهات الفكرية التي دعا لها نيتشه وهيردر وتشمبرلن في ألمانيا. وهي الأفكار التي تبنتها المجموعة القومية النازية بالعراق، ومجموعة غير قليلة من تلك القوى التي شاركت في حركة شباط-مايس 1941 أيضاً، إذ لم يكن كل من شارك في هذه الحركة من أتباع أو مؤيدي الفكر النازي الألماني أو الفاشي الإيطالي على الصعيدين العراقي والعربي. ومن كتاب ألفريد روزنبيرغ المشار إليه وكتاباته الأخرى استقى ميشيل عفلق، وبقية القيادة البعثية حينذاك، فكرة واسم حزب البعث العربي الاشتراكي وشعاراته الأساسية مثل “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” و”شعب واحد، وطن واحد، وجيش واحد”، وكذلك الدعوة إلى “الاشتراكية الوطنية” النازية، التي سميت في العالم العربي بالاشتراكية العربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن يونس السبعاوي، الذي كان على اتصال وثيق بنادي المثنى, كان من بين المعجبين بتجربة هتلر ونشاطه ومواقفه من رجال المعارضة والمخالفين له في ألمانيا, كما قام بترجمة كتاب هتلر المعروف “كفاحي” إلى العربية عن الإنكليزية لأول مرة في البلاد العربية. ثم بدأ بنشره على شكل مقالات متسلسلة في جريدة العالم العربي ابتداءً من تشرين الأول/نوفمبر 1933. (راجع: العمري, خيري، يونس السبعاوي سيرة سياسي عصامي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، سلسلة الأعلام المشهورين 12، دار الرشيد للنشر، بغداد. 1980. ص 41). وكتب في مقدمة هذه المقالات ما يلي: “… الهتلرية حركة تشغل العالم اليوم , أظهرها في ألمانيا الضيق ونشاط الشبان , فكانت حركة قوية اندفعت بين صعاب عظيمة فشقت طريقها واستطاعت أن تأخذ بزمام الأمور في البلاد. وجدير بالعالم ولاسيما في بلادنا أن يعرف كنه هذه الحركة ومراميها , ونحن لا نجد محدثاً صادقاً عنها مثل موجدها وحامل لوائها أدولف هتلر زعيم ألمانيا اليوم , ونحن نعرب لقراء الكتاب الذي وضعه عن مبادئه وكفاحه…”. (المصدر السابق نفسه). ولنتذكر أيضاً بأن يونس السبعاوي أطلق على نفسه اسم (فرهود) السري كاسم حزبي له في حزب الشعب، وهو الفرهود الذي حصل في العام 1942 ضد المواطنين والمواطنات العراقيين من اليهود.
ويفترض الإشارة في هذا الموقع إلى أن أغلب القوى السياسية الديمقراطية العراقية لم تشجب في حينها الانقلاب العسكري الجديد بسبب كراهيتها للاستعمار البريطاني وسياسات الحكومة البريطانية بالعراق، بل أيدته، إذ لم تتوفر في حينها المعلومات الكافية عن العلاقات التي نشأت حينذاك بين الجماعة القومية العربية بالعراق والنظام النازي بألمانيا، علماً بأن الحزب الشيوعي العراقي قد اتخذ موقفاً أخر وقدم مذكرة إلى حكومة رشيد عالي الكيلاني بسبب السياسات القومية المتشددة التي اتخذت في حينها، ولاسيما ضد اليهود. لقد كان نوري السعيد حينذاك رئيساً للوزراء وكان حليفاً مخلصاً لبريطانيا يستند في ذلك لا إلى عمالة مباشرة لها بقدر ما كان يلتقي معها في الفكر والسياسةً والمصالح، رغم أن المستفيد الأول من كل ذلك كانت بريطانيا والمتضرر الرئيسي في مثل هذا التحالف والطريقة التي كانت تتم بها هو الشعب العراقي. واتخذ نوري السعيد موقفاً محدداً من الحرب مناهضاً لدول المحور، أي ضد ألمانيا ومن ثم إيطاليا واليابان من جهة، ومسانداً لبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى. وفي هذا كان على خلاف شديد مع بعض أعضاء وزارته الذين انقسموا إلى مجموعتين إحداهما تؤيده والأخرى تناهضه وتريد أن يكون الموقف العراقي حيادياً في الحرب وتنفذ المعاهدة على وفق ما كانت تراه في الصالح العراقي. ومع أن موقف نوري السعيد كان صائباً بشكل عام، وبعيداً عن تفاصيله، من الحرب ومن تأييد بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد الاتحاد السوفييتي، في الحرب ضد ألمانيا الهتلرية وبقية دول المحور، فأن هذا الموقف كان مرفوضاً من جانب الشارع العراقي وكل القوى القومية والغالبية العظمى من القوى الوطنية العراقية بسبب مواقف بريطانيا من القضايا العراقية والعربية. لقد كان الموقف الرافض لمساندة بريطانيا ينطوي على موقفين، رغم كونهما كانا يدعوان إلى الحياد في الحرب، أي موقف القوى القومية التي كانت تدعو إلى الحياد، ولكنها كانت تريد الوقوف عملياً إلى جانب دول المحور، وموقف الحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى التقدمية التي كانت تدعو إلى الحياد أيضاً وكانت تعنيه فعلاً، إذ أن الحزب الشيوعي العراقي اعتبر الحرب، قبل دخول الاتحاد السوفييتي الحرب ضد ألمانيا الهتلرية، بمثابة حرب استعمارية تستهدف إعادة تقسيم مناطق النفوذ لا غير. إلا أن هذا الموقف قد تغير بعد دخول الاتحاد السوفييتي إلى جانب الحلفاء في الحرب ضد الهتلرية بعد أن غزت جحافل النازيين اراضي الاتحاد السوفييتي، رغم الاتفاقية التي وقعتها حكومة ستالين مع حكومة هتلر في عام 1939 في ميونيخ. لقد غير الحزب الشيوعي العراقي موقفه في ضوء التبديل الذي أجرته الأممية الشيوعية (الأممية الثالثة) على موقفها إزاء الحرب والدولة النازية بعد دخول الاتحاد السوفييتي طرفاً في الحرب.

محنة اليهود العراقيين سنة 1941 (الفرهود)
قلة نادرة من الكتاب العراقيين الديمقراطيين الذين نشروا سيرهم الذاتية كتبوا شيئاً عن فاجعة اليهود التي وقعت في يومي الأول والثاني من حزيران/يونيو ،1941 أو بحثوا في قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق الذي صدر عن وزارة توفيق السويدي في العام 1950. ومن هؤلاء القلة يأتي أسم الأستاذ هاشم الشبلي، حيث شخص طبيعة المسألتين، الفاجعة والقانون، والموقف منهما وأدانهما بشدة. فقد كتب بشكل مكثف عن فاجعة الفرهود ببغداد يقول: “هاجمت مجموعات من الأوغاد والرعاع بيوت ومحلات اليهود فنهبتها وقتلت ساكنيها واغتصبت نساءها وفتياتها ولم يتركوا لهم شيئا، وجرى كل ذلك في اليوم الثاني لتكليف السيد المدفعي بتشكيل حكومته في 2/6/1941 واستمر القتل والنهب والاغتصاب يومين ولم تقف الأعمال الإجرامية إلا بعد تدخل الجيش للقضاء على هذه العصابات الإجرامية.” (الكتاب الثاني، ص 39). والصحيح إن الجرائم التي ارتكبت في الفرهود قد بدأت في اليوم الأول من حزيران واستمرت في اليوم الثاني من حزيران أيضاً، حيث تدخل الجيش لإيقاف تلك الجرائم البشعة، بعد أن تم تشكيل الحكومة الخامسة للسياسي العراقي جميل المدفعي، الذي كان من بين المناهضين للانقلاب وضد “حكومة الدفاع الوطني” التي ترأسها رشيد عالي الگيلاني، كما إنه هرب إلى البصرة والتحق بالوصي على العرش عبد الإله بن علي الذي كان ذد هرب هو الآخر إلى البصرة واحتمى بشيوخها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن الجماعات التي شاركت في هذا الفرهود لم تكن من الرعاع والأوغاد فحسب، بل كان بينهم جمهرة من الجنود المقهورين في الحرب ضد القوات البريطانية وكذلك مجموعة من “كتائب الشباب” التي شكلها يونس السبعاوي، وكذلك من منظمة “فدائيي السبعاوي”، إضافة إلى أولئك العنصريين الحاقدين على اليهود ممن ترسخت في أذهانهم الدعاية النازية التي انتشرت بشكل واسع جداً في النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين. ورغم التباين في تقدير عدد القتلى من اليهود في فاجعة الفرهود، فقد ثبت بأن عددهم بلغ 144 شهيداً عدا الجرحى وحالات الاغتصاب ونهب الأموال والأثاث والسلع من البيوت والمحلات. (كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 1915). وتؤكد بعض المصادر و المعلومات المتوفرة أن السفير البريطاني كنهان كورنواليس حينذاك، ورغم علمه بما كان يحصل من فرهود في شوارع وأزقة بغداد ضد العائلات اليهودية المسالمة، لم يتخذ أي إجراء لوقف هذه المجزرة البشعة ورفض دخول الجيش البريطاني، الذي كان عند أبواب بغداد، من الدخول إليها وزجه في الدفاع عن العائلات اليهودية وانقاذها من براثن الأوغاد والعنصريين والنهابة. كتب الباحث الدكتور سلمان درويش في كتابه الموسوم “كل شيء هادئ في العيادة” يقول: “بدأت مذبحة الفرهود في يوم 1 حزيران في باب الشيخ من قبل الأكراد الشيعة الفيلية بعد أن دس المفوض الألماني فريتز غروبه سمومه النازية وحرض ضد اليهود وبث دعايته العنصرية بين أفراد الشعب والجيش العراقي خلال عدة أشهر مما هيأ الأجواء للإيقاع بهم. ثم جاء اندحار الجيش العراقي، الذي ضمّ بعض الأطباء والضباط اليهود، أمام القوات البريطانية ورفض “مختار محلة الكريمات” السفير البريطاني السر كنهام كورنواليس السماح للجيش البريطاني المحتل بدخول بغداد وإن كانت تقع على عاتقه مسؤولية الحفاظ على الأمن فيها. (راجع: سلمان درويش، كل شيء هادئ في العيادة، منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، رقم 2، مكتبة الدكتور داود سلمان- سالا لمؤلفات يهود العراق، 1981، ص 60-62).
أما بصدد قانون إسقاط الجنسية فقد أكد الكاتب وبتشخيص وتقدير سليم ما يلي: “وقبل أن ينسى اليهود أثار هذه الجرائم، (ويقصد بها فاجعة الفرهود في مدينتي بغداد والبصرة، ك. حبيب)، قامت الحكومة العراقية بإصدار قانون إسقاط الجنسية عن اليهود في سنة 1950 الذي تم بموجبه إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود ومصادرة أملاكهم وممتلكاتهم وأموالهم وتسفيرهم إلى الخارج حيث سفّر أغلبهم إلى إسرائيل وبعضهم الآخر إلى دول أخرى.” (الكتاب الثاني، ص 39). وكان للكاتب تقديره الصائب حين أكد بأن هذا الإجراء غير الإنساني بحق يهود العراق قد “قدم خدمة لإسرائيل لا مثيل لها وذلك لأنه كان من بينهم علماء وأدباء وصحفيون وأساتذة ومصرفيين خسرهم العراق واستفادت منهم إسرائيل”. (المصدر السابق نفسه). لقد ارتُكبت جريمة ضد الدستور العراقي وضد الإنسانية وتم تنفيذها بمؤامرة ثلاثية اشتركت فيها حكومات ثلاث دول هي بريطانيا وإسرائيل والعراق وبدعم كثيف من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الأستاذ الشبلي على حق كبير حين أكد بصواب ما يلي:
اليهود في العراق ليسوا لاجئين أو مستوطنين وإنما هم من سكنة العراق منذ آلاف السنين وكان لهم دور مشهود في بناء حضارة وادي الرافدين وفي الحضارة العربية الإسلامية وفي بناء العراق الحديث” (المصدر نفسه، ص 39).
كان بودي أن يتوسع في البحث في هذه القضية المهمة، ولاسيما في هذه الفترة من تاريخ العراق المعاصر، حيث يتهدد نفس المصير، ولو بأساليب أخرى أكثر همجية وعدوانية، إذ أن هناك مخططاً بشعاً يراد به إفراغ العراق من القوميات وأتباع الديانات الأخرى بالبلاد، كما هو حاصل منذ سنوات ما بعد سقوط الدكتاتورية البعثية وإقامة النظام السياسي الطائفي بالعراق، ضد المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين على سبيل المثال لا الحصر، والذين هم ليسوا لاجئين ولا مستوطنين بل هم من أصل أهل البلاد ومنذ آلاف السنين أيضاً. فقد هُجّر من العراق قسراً عبر أسقاط الجنسية عن اليهود، على وفق التقارير الرسمية 118,000 يهودي ويهودية من العراق، وفي الواقع بلغ العدد أكثر من 130,000 نسمة من أتباع الديانة اليهودية. أما في السنوات الأخيرة ومنذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر ارتفع عدد المهجرين قسراً من مسيحيي العراق ومن مناطق وجود المسحيين بالبصرة وبغداد والموصل وسهل نينوى وإقليم كردستان العراق ما يتراوح بين 800,000 -1,000,000 نسمة، كما هُجّر من الصابئة المندائيين ما يزيد عن 50,000 نسمة ولم يبق منهم بالعراق غير عدد يتراوح بين 10,000-15,000 نسمة. كم إن أعداداً غفيرة جداً من الإيزيديين والإيزيديات قد نزحوا إلى الإقليم أو غادروا البلاد وعانوا من إبادة جماعية مرعبة. لقد كانت وما تزال مخاطر جمة تهدد المزيد من العائلات العراقية، لا بسبب عصابات داعش وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ضد هذه المجموعات السكانية العراقية بعد اجتياح الموصل وسهل نينوى فحسب، بل وتلك الجرائم التي ارتكبتها المليشيات الطائفية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد، وكذلك قوى القاعدة الإرهابية وتنظيمات إرهابية أخرى معادية لأتباع الديانات والمذاهب بالعراق، وما يمكن أن يحصل في الفترة القادمة.

الحلقة الثانية
يتناول هاشم الشبلي الفترة التي أعقبت عام 1952 حتى ثورة تموز 1958 باعتبارها سنوات كانت حافلة بالتغيرات السريعة والمثيرة. فبعد ممارسة القمع والإرهاب في أعقاب انتفاضة 1952، وجد النظام الملكي نفسه مجبراً على تخفيف الأجواء الضاغطة على المواطنين والخانقة للعمل السياسي والقوى والأحزاب السياسية، فكانت فترة انتعاش ديمقراطي نسبية، إذ صدر العديد من الصحف والمجلات، ومنها جريدة “الأهالي” ومجلة “الوادي”، وقد وضعتا صفحاتهما تحت تصرف القوى الديمقراطية والتقدمية، كما نشطت حركة السلام ومنظمات الشبيبة الديمقراطية والمرأة والطلاب، ثم اجبر الحكم على إجراء انتخابات نيابية عامة حيث، حيث دخلت القوى الديمقراطية والقومية تلك الانتخابات وبتأييد جماهيري فاعل وحازت، بالرغم من كل التزوير الفاضح الذي مارسته الحكومة، على 12 مقعداً في المجلس الجديد. فارتعب الحكام من هذا الحراك الديمقراطي الشعبي ولم يتسع صدرها لهذا العدد القليل من النواب المعارضين، فتقرر وبالاتفاق بين السفارة البريطانية والبلاط الملكي والفئة الحاكمة، وعلى رأسها نوري السعيد، تقديم أرشد العمري استقالة وزارته ليفسح ي المجال تشكيل نوري السعيد وزارة جديدة، إذ كان لهذا التحالف خطط جديدة للعراق. فشكل نوري السعيد، رجل الملمات والمهمات الخاصة، الوزارة الجديدة وحل مباشرة مجلس النواب، وبدأ بشن حملة ظالمة، منظمة وهادفة إلى تصفية القوى الديمقراطية. قاطعت كل الأحزاب والشخصيات السياسية المستقلة انتخابات، فأفرزت مجلس نوابٍ موالٍ للتحالف الثلاثي المناهض لمصالح الشعب، وسمي بـ “مجلس التزكية لفوز أكثر من مئة نائب بالتزكية، كما حل الأحزاب والنقابات وأغلق الصحف وزج بالسجون والمعتقلات زعماء الأحزاب والشخصيات السياسية والطلاب والمحامين والكسبة، واتخذ الخطوات الحثيثة لعقد اتفاقية (حلف بغداد) مع إيران وتركيا وباكستان وبريطانيا وحظي بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية”. (الكتاب الأول، ص46). كما أسقط الجنسية العراقية عن عدد من أبرز الشخصيات الوطنية والديمقراطية والشيوعية العراقية وأعضاء في حركة السلم العراقية حينذاك، وهم عزيز شريف عبد الحميد، وعدنان فتحي الراوي، والشاعر كاظم جاسم فرج السماوي، والدكتور صفاء الحافظ. لقد أطبق نوري السعيد ثانية على صدر العراق وخنق أنفاس الشعب. وكانت هي البداية الفعلة لانتفاضة 1956 التي تفجرت بسبب ذلك الضغط الإرهابي الحكومي أولاً، وبسبب رفض العراق تأييد مصر في تأميم قناة السويس وحصول العدوان الثلاثي على مصر، والتي أعدَمَ فيها الحكم الجائر مناضلين شيوعيين هما علي الشيخ حمود وعطا الدباس في مدينة الحي التابعة للواء الكوت (محافظة واسط حاليا) بتاريخ 10 كانون الثاني عام 1957 انتقاماً من انتفاضة الحي الباسلة، ومناهضة لحلف بغداد رابعاً. وكانت انتفاضة 1956 وإجراءات السلطة هي التمرين الفعلي لثورة تموز 1958. إذ إن سياسة الدول الملكية لم تعد تحتمل من جانب قوى المعارضة والجماهير الشعبية الواسعة. فالظلم الإقطاعي من جهة، والحكم السياسي المدافع عن الإقطاع والكومپرادور التجاري والعقاريين من جهة أخرى، والبطالة والفقر والحرمان من جهة ثالثة، قادت إلى سعي القوى الوطنية إلى تشكيل جبهة الاتحاد الوطني والاتفاق مع حركة الضباط الأحرار في إسقاط الملكية وإقامة الجمهورية العراقية. واتذكر هنا هوسة (أهزوجة) الفلاحين المنتفضين على الإقطاعيين وكبار الملاكين حين جاءت الشرطة لتقمعهم فرددوا أمام مفوض الشرطة المدعو كريم:
كريم يركب كاديلاك وأنه بليه نعال اسمع يا مفوض (سيارة الكاديلاك)
كريم يأكل عنبر وأنه بلية دنان اسمع يا مفوض (رز العنبر، والدنان حبيبات ضارة تختلط بالرز)
وفي الفصل الرابع من الكتاب الأول يتحدث الكاتب عن أحداث شخصية وعامة مؤلمة وأخرى عامة سارة، منها وفاة والدته التي فقدت فيها العائلة الخيمة كانت تجمعهم، ثم تخرجه من كلية الحقوق قبل الثورة بأيام، ثم جاءت الفرحة الكبرى بثورة 14 تموز عام 1958، والتي نغصتها حادثة قتل أفراد من العائلة المالكة بمن فيهم الملك فيصل الثاني والوصي على العرش عبد الإله ومن ثم رئيس الوزراء نوري السعيد وابنه صباح نوري السعيد، وقد قام الجماهير الحاقدة بسحل الثلاثة الأخيرين في الشوارع!، والتي أعطت دون أدنى ريب للثورة غصة العنف غير المحمود، حيث يقول الكاتب “..، ولكن مقتل العائلة المالكة قد اغضبني وآلمني”. ولكن رفض هذا الأسلوب الهمجي في القتل لم يكن، مع الأسف الشديد، شعور جميع العراقيين، ولكن لم يكن من أهداف الثورة والقوى الديمقراطية فيها تصفية العائلة المالكة بل ترحيلها. ولم تظهر الحقيقة حتى الآن، ألا إن ما هو ثابت أن الضابط عبد الستار العبوسي هو الذي وجه النيران إلى المستسلمين من نسا ورجال العائلة المالكة، وقتل أربعة منهم، هم الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله والملكة نفيسة والأميرة عالية.، علماً بأن اتهامات وجهت لعبد السلام عارف بأن الشخص الذي أعطى الأوامر، ولكن لم تظهر وثائق تؤكد ذلك أو تنفيه.
يشير هاشم الشبلي إلى إن منجزات الثورة كانت كبيرة ومهمة، ويبرّز بشكل خاص الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية وقانون 80 لعام 1961 الخاص باستعادة الأراضي التي كانت تحت تصرف شركات النفط الاحتكارية..، كما يشير إلى الأجواء الإيجابية التي نشرتها وعبأت لها الجماهير الشعبية الواسعة، إلا إن أجواء الحرية والديمقراطية لم تستمر طويلا “إذ احتدم الخلاف بين العقيد عبد السلام عارف الرجل الثاني في الثورة ومؤيديه من القوميين والبعثيين من جهة، والزعيم عبد الكريم قاسم ومناصريه من الديمقراطيين الوطنيين والشيوعيين والتيارات اليسارية الأخرى من جهة ثانية. وامتد الصراع إلى الشارع ورفعت شعارات غير ناضجة واستفزازية وسالقة لأوانها كالوحدة الاندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة..” من جانب القوى القومية والبعثية، (الكتاب الأول، ص 52). لقد كان التقدير صائباً إذ إن القوميين والبعثيين هم الذين بدأوا، وبدعم مباشر من بصراع أثار الشارع ودفع الديمقراطيين والشيوعيين إلى رفع شعار الاتحاد الفيدرالي وليس الوحدة، وكلاهما لم يكن ناضجاً لتلك المرحلة. لقد كان الشارع العراقي والأحزاب السياسية، كما أرى كلها غير ناضجة ولم تدرك طبيعة المرحلة ومهماتها وما ينبغي تحقيقه حينذاك، كما إن قاسم هو الآخر أراد الاستفراد بالسلطة ولم يكن موفقا في هذه التوجه. وقدر الكاتب بصواب أن محاولة اغتياله في العام 1959 قد ارعبته ودفعته إلى التراجع التدرجي في العلاقة مع الديمقراطيين ولاسيما الشيوعيين، واندفع باتجاه سلبي أضعف من الشحنات الثورية عند الغالبية العظمى من المجتمع وخاصة لدى القوى السياسية التي كانت تسانده. ويتحدث الكاتب إلى أن المهمات الوظيفية لم تعقه عن العمل السياسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي والحيوية التي تمتع بها الشيوعين في هذه الفترة. لم يوجه هاشم الشبلي نقداً مباشراً لسياسة الحزب الشيوعي ولم يشر إلى نواقص العمل وأخطاء في السياسة، إلّا إنه أورد حادثاً بسيطاً له دلالته المهمة أراد من خلاله الإشارة إلى ضعف في ممارسة حرية الرأي والتفكير والحق في المناقشة الحرة في داخل تنظيمات الحزب الشيوعي. وهي ملاحظة ذكية ومهمة في آن واحد. لقد كان له رأي خاص في النقاش السجالي حول الوضع السياسي بالبلاد حينذاك والذي جرى بين صحيفة “الرأي العام” لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ الشاعر محمد مهدي الجواهري، وجريدة “الأهالي” لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ كامل الجادرجي، حيث لاحظ ميل جريدة الحزب الشيوعي العراقي “اتحاد الشعب” إلى جانب رأي جريدة “الرأي العام”، وتحدث في الاجتماع الحزبي المخصص لمناقشة الوضع السياسي وأشار إلى أنه من غير الصائب وقوف جريدة الحزب إلى جانب الجواهري، بل كان يفترض أن تتخذ موقف الحياد بينهما. وبسبب هذه الملاحظة أرسلت قيادة الحزب مشرفين لثنيه عن رأيه، ولكنه أصر وحسناً فعل. ووقد لاحظ وجود عدم ارتياح من ممارسة حقه في التعبير عن رأيه المستقل. ولكن الأمر الجيد هو أن الحزب لم يصدر عقوبة بحقه!
وفي الفصل الرابع من الكتاب الثاني، حين يبحث في موضوع ثورة 14 تموز 1958، يشير، إضافة لما ورد في الكتاب الأول، إلى العوامل التي قادت إلى تحالف أعداء الثورة ضد حكومة قاسم، إذ يلخصها بما يلي:
1. التوتر الذي نشب بين عبد الكريم والقيادة الكردية والتراشق بالاتهامات ومن ثم أرسال قوات جوية لقصف مقر قيادة ملا مصطفى البارزاني وبدء الحرب وإعلان الكرد ثورتهم والتي أطلق عليها بـ “ثورة أيلول 1961” وتحالفهم السلبي والخاطئ مع القوى المعادية لقاسم.
2. أضعاف القوى الحليفة له باعتقال من نادى بـ “الديمقراطية للعراق والسلم لكردستان” ولاسيما اعتقال الشيوعيين وإصدار أحكام قاسية بحقهم من حكام قوميين معادين للشيوعيين ولحكومة قاسم.
3. إعلانه الكويت قضاءً تابعاً للواء البصرة وإثارة الحكومة البريطانية ضده
4. الموقف المعادي لحكومة قاسم بسبب سياساته النفطية.
5. الدولة المجاورة المناهضة لحكومة قاسم بسبب خروجه من حلف بغداد.
6. موقف القوى القومية والبعثية المناهضة لقاسم وحكومته واتهامها بالشيوعية ورفض الوحدة مع مصر وسوريا.
7. إضافة على موقف القوى الرجعية التي تضررت من ثورة تموز وقانون الإصلاح وقانون الأحوال الشخصية، مثل الإقطاعيين وكبار الملاكين ورجال الدين الذين أصدروا فتاوى ضد حكومة قاسم والشيوعيين.
8. وضع القوى القومية والبعثية المعارضة له ولحكمه في مواقع المسؤولية المدنية والعسكرية.
وقد تمكن هذا التحالف الواسع من الإجهاز على حكومة الثورة إسقاطها وتسلم السلطة بانقلاب 8 شباط 1963.
وفي الفصل الخامس من الكتاب الأول والكتاب الثاني يطرح الكاتب التقدمي هاشم الشبلي بوضوح طبيعة وقوى انقلاب 8 شباط عام 1963، وما نتج عن هذا الانقلاب من مآسي وكوارث عانى منها الشعب العراقي في غالبيته، ولكن وبشكل خاص قادة وأعضاء وكوادر وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي وبقية القوى الديمقراطية والتقدمية وأنصار عبد الكريم قاسم والمستقلين، وكذلك كل الذين رفضوا الانقلاب وقاوموه، ومنهم الكرد الفيلية، سواء أكانوا من الشيوعيين أم الديمقراطيين المستقلين وسكان الكاظمية وغيرها مناطق بغداد، علماً بأن الحملة شملت العراق كله. لقد كانت الأرضية قد تهيأت للانقلاب على حكومة قاسم بعد أن تضافرت له جهود قوى وأحزاب عراقية وأحزاب دول عربية، ولاسيما الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر، ودول أجنبية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، إضافة إلى دول حلف بغداد، كل أولئك الدين تضرروا من ثورة تموز 1958 من الداخل والخارج. وقد تم تشخيص الراعي الأول لهذا الانقلاب من جانب قوى الانقلاب ذاتها. لقد جاء في اللقاء الذي تم بين هاشم الشبلي وعلى صالح السعدي صدفة بلندن، وكان أبرز قياديي البعث حينذاك، وجرى الحديث عن فترة انقلاب شباط 1963، وليس كما جاء في الكتاب سهواً 1962، وقال السعدي بالحرف الواحد: هاشم جئنا إلى الحكم بعربة أمريكية تقودها “خيول عربية”. في العام 1965، وحين تحضيري لرسالة الدكتوراه، سافرت إلى القاهرة والتقيت هناك بعدد من الباحثين السياسيين والاقتصاديين، ثم زرت مجلة الطليعة المصرية والتقيت بهيئة التحرير ورئيسها لطفي الخلفي والصديق ميشيل كامل وفؤاد مرسي، فاطلعوني على محضر اللقاء بين هيأة التحرير وعلي صالح السعدي، والذي جاء فيه بالنص: لقد جئنا بقطار أمريكي …”. ثم كشفـ تلك الأوراق فيما بعد مؤكدة دور الولايات المتحدة الريادي والقيادي في هذا الانقلاب. لقد نجح الانقلاب، رغم المقاومة الضارية التي قام بها المناضلون الشيوعيون والديمقراطية بصورة عفوية وبناء على البيان الذي أصدره حينذاك سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، والذي دعا فيه إلى مقاومة الانقلابيين. ولكن الانقلاب فشل بسبب رفض قاسم تقديم السلاح للذين طالبوه بها، إذ كان يخشى، كما يبدو، نشوب حرب عراقية-عراقية، أو لأي سبب كان، وكان يعتقد بأن الشعب سينتفض دفاعاً عنه ويسقط المتآمرين، واحتمى بوزارة الدفاع وكان الفخ الذي حشر نفسه فيه. ويصف الأستاذ هاشم الشبلي هذه المحطة المريعة من تاريخ العراق ما فعله الانقلابيون وخلال أشهر قليلة من قتل واعتقال وسجن وتعذيب جماهير واسعة، إضافة إلى جمهرة كبيرة تعد بالآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي من العسكريين والطلبة والمثقفين والمختصين بالطب والهندسة والاقتصاد والسياسة والصحافة وبقية العلوم، حيث أنتج هذا الانقلاب ندوبا وتقرحات وتمزقات في جسد المجتمع العراقي لا زال العراق يعاني منها وزادتها المحطات الأخرى عمقاً واتساعاً” على حد قول الكاتب. (الكتاب الثاني، ص 53). لقد قتل عبد الكريم قاسم وصحبه وجلال الأوقاتي وقادة الحزب الشيوعي العراقي والمئات من الوجوه الخيرة التي لعبت دوراً نبيلاً في تاريخ العراق الحديث.
إلّا إن أهم ما في هذا الفصل ليس واقع وطبيعة الانقلاب الفاشية وقتل عبد الكريم قاسم والمهدوي والأوقاتي وسلام عادل وغيره من المناضلين، فحسب بل وإشارة الكاتب إلى حادث قطار الموت، هذا القطار الذي حمل من تقرر إعدامه من النخب العراقية المثقفة والواعية. إذ كتب يقول”
“.. وقد اعتقل شقيقي قاسم الذي كان ضابطاً في الجيش برتبة ملازم واقتيد إلى السجن رقم (1) الرهيب، وقد منعوا الأهل من اتصال به, وكان معتقلاً معه مجموعة من كبار الضباط والسياسيين والمثقفين، وبعد أحداث 3/تموز 1963 التي انتفض فيها بعض الشيوعيين العسكريين ضد النظام، اقتيد قاسم مع المعتقلين بقطار الموت إلى سجن (نقرة السلمان) الواقع في أعماق الصحراء. وقطار الموت له قصة مرعبة لا مجال لذكرهافي هذا المكان لبشاعتها ووحشيتها، ..”. (الكتاب الأول، ص 64/65). وكنت أتوقع أن يتوسع بالحديث عن هذه الجريمة في الكتاب الثاني، ولكنه خلا منها أيضاً.
من المعروف أن العسكري الشيوعي حسن سريع قاد حركة مسلحة جريئة ضد نظام البعث، كان في الإمكان نجاحها لو كانت قد درست بعناية أكبر وخطط لها وأشركت قوى أخرى بها. ولكنها فشلت واعتقل المشاركون بها إضافة إلى عدد كبير من الضباط والسياسيين الشيوعيين وغيرهم ممن لم يشارك فيها. يقول الكاتب عبد الكريم العبيدي “في ساعة متأخرة من تلك الليلة (ويقصد 3-4/7/1963، ك. حبيب) اتفق الجميع على تشكيل (محكمة عسكرية) لمحاكمة المشاركين والمتهمين بحركة حسن سريع العسكرية، وإغاء فكرة الإعدام العشوائي وتقليصها إلى مجزرة دموية (محددة) تشمل إعدام عدد من الضباط والمدنيين من السجن رقم واحد .. ولكن العدد تصاعد فيما بعد ووصل إلى (520) معتقلاً بعد أن شمل معتقلين من ذوي التعليم العالي يمثلون كل خريطة المجتمع العراقي القومية والدينية والسياسية، تم انتقاؤهم من قبل المجلس نفس (ويقصد مجلس قيادة الثورة، ك. حبيب)، وشكلوا ما عرف ب، (قطار الموت) حين تقرر إبعادهم خارج بغداد، بعد نقلهم على سجن (نقرة السلمان) قرب الحدود العراقية السعودية.” (راجع: عبد الكريم العبيدي، ذاكرة عراقية، ملاحق جريدة المدى اليومية، بتاريخ 6/5/2012). ثم يشير الكاتب في بداية المقال فيقول: ” هكذا فجأة، تحولت خمس عشرة عربة من قطار حمولة قديم يستخدم لنقل الاغنام والماشية والاخشاب والحديد، الى قطار موت ورعب، قاده المرحوم عبد عباس المفرجي (أقدم سائق قطار عراقي) من المحطة العالمية في بغداد الى السماوة، في رحلة غرائبية، اختصر زمنها من عشر ساعات الى ستة (قرون) حمر مشحونة بكل اصناف الالام والرعب والضياع، ومليئة بالمفاجآت والمعجزات الكبار التي حالت دون وقوع ابشع جريمة سياسية واخلاقية في تاريخ العراق الحديث والقديم في آن واحد!!” (المصدر السابق نفسه). ثم يواصل الكاتب عبد الكريم العبيدي في مكان آخر فيذكر: ” خيرا وصل قطار (الجريمة الميسرة) الى السماوة قبل ثلاث او أربع ساعات على الموعد المقرر له.. كان سائقه الشهم عبد عباس المفرجي قد اختصر الكثير من التوقفات الطقوس المعتادة في رحلة قطار حمولة، وكان كلما مر بمحطة وعرف من وجوه المحتشدين واشاراتهم انهم على علم بسر حمولته، ازداد اصرارا على زيادة سرعة القطار امام رصيف المحطة القصير، وتعالى الصراخ من داخل العربات وخارجها حتى هرع صوب ناظر المحطة وطلب منه بسرعة ان يفتح الابواب. كان الجميع بمن فيهم سائق القطار بانتظار ظهور (المخلوقات الاسطورية) التي ستتهاوى امام اعينهم في مشهد اعجازي لن يتكرر ابدا.. كانوا اشباحا وهياكل عارية تطلق حشرجات واهنة، وتزحف ببطء من ظلام القبور نحو الماء والهواء والضوء.. كانوا موتى احياء يحركون اصابعهم ويطلبون العون المتأخر جدا في لحظة هي الاقرب الى الموت في تلك الزنازين المظلمة.. سقط بعضهم على الرصيف وتمدد آخرون قرب القطار فيما زحف قسم منهم نحو (حنفية الماء) اما المغمى عليهم فظلوا على نومتهم حتى بعد رش الماء على وجوههم مما تطلب ارسال سبعة منهم بسيارة اسعاف الى المستشفى توفي أحدهم وهو الرائد يحيى نادر. كان العنصر الامني والحرس جميعا في حالة ذهول تام وهم يرون (المواد الحديدية) وقد تحولت فجأة الى مخلوقات ادمية زاحفة من اول عربة، وعندها صرخ رجل الأمن بأعلى صوته (هاي رادوا يخلوها براسي) ثم امر بفتح كافة العربات فورا فتساقطت بقايا اشباح بشرية، وراحت تحبو على الرصيف كأسراب النمل، عارية الا من (الفانيلة واللباس)!! تظاهرة عفوية. هرع المحتشدون في محطة السماوة، من رجال ونسوة واطفال، من دون اذن لمساعدة الحراس على فتح الابواب ومساعدة السجناء على السير واعطائهم الماء مع (لهمة) ملح بأمر من أحد الاطباء المسجونين (هو الضابط الطبيب رافد صبحي اديب)، ثم اقاموا لهم الولائم التي تكفي لأضعافهم، ورشوا على وجوههم الماء واحاطوهم بالرعاية، وراح عددهم يتزايد بعد توافد الآلاف من اهالي السماوة الذين سمعوا بخبر القطار ومحنة ركابه.” (المصدر السابق نفسه). وهكذا أنقذ هذا العدد الهائل من سجناء قطار الموت من الموت المحقق بشهامة السائق وجماهير السماوة.
والجدير بالذكر إن الكاتب هاشم الشبلي، كما جاء في الكتاب قد اعتقل أيضاً وتعرض إلى تعذيب شديد، إذ كتب يقول: “قضيت في معتقل خلف السدة عدة أشهر ذقت فيها الأمرين من قسوة وصلافة (الحرس القومي)”. ثم اتهم بتشكيل خلية شيوعي داخل المعتقل ويقول: “نفينا تلك التهمة نفياً قاطعاً فلم يقتنعوا وإنما زادهم ذلك حقداً وانتقاماً، فمارسوا علينا شتى صنوف التعذيب من الضرب بالصوندات والتعليق بالمروحة والإهانة. ومن شدة التعذيب حاول سعد الشعرباف الانتحار بقطع شريان يده وتدفق الدم منه مما حملهم على نقله إلى المستشفى”. (الكتاب الأول، ص 65). ويشير الكاتب “ومن المشاركين في وليمة التعذيب السيد ثامر الشيخلي الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمالية في عهد صدام حسين”. والشي بالشيء يذكر، شاركت في مؤتمر للاقتصاديين العرب في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، وكان بين المشاركين ثامر الشيخلي، الذي كان عضواً في جمعية الاقتصاديين العراقيين. في الفندق الذي نزل ضيوف المؤتمر فيه، سمعت طرقاً على باب غرفتي ففتحتها ووجدت أمامي ثامر الشيخلي ودخل الغرفة بسرعة. قال لي أنه أرسل مرافقه وهو من رجال الأمن العراقي في سفرة إلى الإسكندرية ليخلو لو المجال لزيارتي وزيارة أخرين دون علم رجل الأمن. وأخبرني بأن زوجته وقبل أن يترك بغداد في طريقه إلى القاهرة، فرضت عليه زوجته يم تحت قرآن حملته بيدها ويقسم ثلاثاً بأن لن يتحدث ولن ينطق باسم “أبو عبدو” في سفرته إلى القاهرة، لأن هناك من سينقل الخبر إلى صدام ويقتل حال عودته إلى بغداد، كما حصل مع كثيرين. وأخبرني بأنه ابتعد عن الاجتماعات العامة لكيلا يراه صدام حسين ويتذكره وربما يرسله ليخيس في سراديب الأمن، كما كان البعثيون عمن يريدون تغييبه وربما موته في سراديب الأمن السرية. حصل هذا بعد أن كان قد أزيح عن وزارة المالية.
الحلقة الثالثة
محطات مظلمة وظالمة بتاريخ العراق الحديث
لقد أسقط القوميون العراقيون العرب حلفاء البعثيين، الذين شاركوا البعثيين بالجرائم التي ارتكبت أثناء وبعد نجاح انقلاب شباط المشؤوم في العالم 1963، بقيادة عبد السلام محمد عارف واقاموا الجمهورية الثالثة، التي حاولوا ممارسة سياسة تخفيف الاضطهاد والضغط الشديد على القوى الوطنية والديمقراطية العراقية، ولكنهم واصلوا نهج العداء للحزب الشيوعي العراقي والقوى التقدمية العراقية. وبعد مقتل عبد السلام محمد عارف عام 1966 في حادث السقوط المشبوه للطائرة التي تقله في سماء البصرة، تولى عبد الرحمن محمد عارف رئاسة الجمهورية وحاول البدء بتخفيف أكبر للقمع السياسي والسعي لإيجاد حل للمسألة الكردية والحرب بكردستان العراق بدعم من السياسي القومي العراقي عبد الرحمن البزاز. لقد وجد الكاتب والمحامي هاشم الشبلي نفسه مجبرا على مغادرة العراق والعمل بالكويت، كما فعل قبل وبع ذلك عشرات الألوف من العراقيين الذين غادروا العراق هرباً من الاضطهاد والقمع أو البطالة، ليعملوا في الشتات العراقي ويعيشوا في أجواء من الحرية والكرامة الإنسانية. لقد اعطى عبد الرحمن البزاز، ولم يكن سياسياً أو طائفياً متشدداً، وكان من مجموعة الضباط الأحرار، مجالاً واسعاً لعودة مجموعة من البعثيين العسكريين والمدنيين إلى مواقع المسؤولية، ومنحهم حرية الحركة السياسية التي استغلوها للتحالف مع بعض القوميين الطامعين بالسلطة والذين لم يجدوا في عبد الرحمن عارف شخصاً منفذاً لأهدافهم وأطماعهم السياسية وممارسة الاستبداد الفعلي بالبلاد، ليعملوا جميعاً على تنظيم انقلاب على عبد الرحمن عارف. يشير هاشم الشبلي إلى ذلك فيكتب: “في 17/7/1968 استولى حزب البعث على السلطة بعد الإطاحة بحكم عبد الرحمن عارف بانقلاب عسكري مدبر من قبل حزب البعث وعلى رأسه أحمد حسن البكر وبعض القادة العسكريين الذين يتولون مناصب قيادية في وحدات الحرس الجمهوري وفي مديرية الاستخبارات العسكرية وبعض الضباط المتقاعدين”. (الكتاب الأول، ص 75). ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن أحمد حسن البكر وباسم البعثيين كان قد اتصل عبر وسطاء بالحزب الشيوعي العراقي مستفسراً عن مدى استعداد الحزب للعمل مع البعث من أجل الإطاحة بالحكم وما هو موقف الحزب الشيوعي من احتمال إسقاط النظام في حالة عدم تعاونه مع البعث. رفض الحزب الشيوعي العراق أي تعاون مع حزب البعث، إذ كان الحزب نفسه يعمل على تنفيذ حركة عسكرية للإطاحة بنظام الحكم. وقد كان للحزب وجود عسكري جيد في الجيش، رغم كل ما تعرض له من اعتقالات وقتل وتهجير للعسكريين الشيوعيين، إضافة إلى تشكيله خط مدني شبه عسكري، ألق عليه اسم “خط حسين”، يعمل على دعم الخط العسكري الذي أطلق عليه اسم “خط هاشم” للإطاحة بالنظام القومي الشوفيني القائم. كان “خط حسين” يتكون من تنظيمات في جميع مجالات عمل الحزب، في الطلاب والمثقفين والعمال والكسبة والحرفيين وفي الريف وغيرهم، وكان الحزب يعمل على تأمين الأسلحة المساندة الداعمة لهذا الغرض. ولكن البعثيون، الذين كانوا يعرفون بوجود أكثر من جهة تعمل للإطاحة بالنظام القائم أخذوا المبادرة ونفذوا مشروعهم الانقلابي، وكانوا أكثر قدرة على تنفيذ الانقلاب بسبب وجود قوى في المواقع الحساسة والرئيسية للنظام والتي عملت مع البعثيين وخاصة مسؤولي الحرس الجمهوري في القصر الجمهوري ذاته ومسؤولي الاستخبارات العسكرية والأمن العراقي، وكانا من المحسوبين على الاتجاه القومي الناصري، وغير البعيد عن الولايات المتحدة الأمريكية.
ويشير الكاتب هاشم الشبلي إلى المناورة التي عمد إليها البعثيون لاسترداد ثقة الشعب التي فقدوها كلية في انقلاب شباط 1963، من خلال الادعاء بالتكفير عن ذنوبهم التي ارتكبوها بحق الشعب العراقي. ويشير هنا إلى بعض الإجراءات منها ” أعاد الموظفين الذين فصلهم من وظائفهم عقب انقلابهم المشؤوم سنة 1963، وخفض من القيود المفروضة على الحريات، وأعلن عن رغبته بإيجاد حلول مناسبة للقضية الكردية، ومنح الكرد بعضاً من حقوقهم القومية، وانفتح على (الحزب الشيوعي) حيث أشرك اثنين من قادته في الوزارة، وتطورت العلاقة بين (الحزب الشيوعي) و(حزب البعث) حتى بلغت إلى مستوى تشكيل جبهة مشروطة بين الطرفين”. وهنا يشير الكاتب إلى شروط هذا التحالف القاسية التي حرمت على “الحزب الشيوعي من العمل في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والمخابراتية وعدم تشكيل منظمات مهنية مستقلة له، وأن يعترف (الحزب الشيوعي) بقيادة (حزب البعث) للجبهة -الحزب القائد-“. ويؤكد الكاتب إلى أنه كان من الرافضين لهذه الجبهة بسبب تاريخ البعث الدموي. (الكتاب الأول، ص 75/76). لقد تجاوز الكاتب فترة أربع سنوات مهمة من تاريخ هذي المرحلة والواقعة بين 1968-1972، أي بين مجيء حزب البعث للسلطة وقيام “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية”. ففيها برهن حزب البعث على أنه لم يفقد شيئاً من استبداده ودمويته حين يعتقد بوجود أي مس بحكمه المطلق. فقد وجه في العام 1968، وكان لتوه قد قفز على الحكم، ضربة قاسية لمظاهرة الحزب في الذكرى السنوية لثورة أكتوبر الاشتراكية بالحديد والنار وسقط شهداء للحزب وجرحى، كما ضرب بقوة السلاح إضراب عمال الزيوت النباتية واعتقل قادة الانقلاب إلا من استطاع الإفلات منهم في العام ذاته. وكذلك فرق بالقوة مظاهرة الحزب المؤيدة لقيام الحكم الذاتي بكردستان العراق في العام 1970 واختطف الرفيق محمد الخضري، عضو مكتب منطقة بغداد في تنظيمات الحزب الشيوعي وتمت تصفيته بوحشية، ثم أجهز على الحزب في العام 1970/1971 بعد عقد المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي العراقي وقام بتصفية واسعة للكثير من تنظيماته ببغداد وغيرها، وأُجبر الحزب الشيوعي على الغوص في باطن الأرض ثانية لمواصلة العمل السري، إضافة إلى تصفيته للمزيد من الرفاق ممن كانوا يعملون في الخط العسكري ومنهم الرفيق ستار خضير وشاكر محمود من أعضاء اللجنة المركزية، كما تم اعتقال مجموعة كبيرة من الضباط والعسكريين الشيوعيين وقادة الحزب ومن بينهم ثابت حبيب العاني وسليمان يوسف سليمان على سبيل المثال لا الحصر. ولكن هذا النظام أقدم في ذات الوقت، وتحت ضغوط وأوضاع كثيرة ومن أجل أن يخفف من تأثير تلك السياسات العدوانية وعجزه عن مواصلة الحرب ضد الكرد إلى الرضوخ للأمر الواقع، على الموافقة على منح الحكم الذاتي لشعب كردستان العراق، والاعتراف بألمانيا الديمقراطية وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وعقد اتفاقية استراتيجية مع الاتحاد السوفييتي في نيسان عام 1972، وغلق سجن “قصر الرحاب”، الذي كان قصراً للتعذيب والموت للشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين على ايدي البعثيين والقوميين العرب العراقيين، إضافة إلى تأميم مصالح شركات النفط الاحتكارية بالعراق…الخ. لقد أضعفت هذه السياسة العدوانية الشرسة الحزب الشيوعي العراقي من جهة، كما إن ممارسة سياسات التحالف مع الاتحاد السوفييتي والدولة الاشتراكية من جهة أخرى، إضافة إلى ممارسة بعض الإجراءات المهمة التي كانت ضمن مطالب الشعب العراقي سنوات طويلة من جهة ثالثة، وموقف الاتحاد السوفييتي الإيجابي من النظام العراقي وعلى غير ما كان ينظر إليه في بداية مجيء البعث إلى السلطة من جهة رابعة، قد أضعفت مقاومة الحزب الشيوعي ورفضه السابق لأي تعاون مع البعث، دع عن التحالف معه، فجاء التزام الحزب بكل تلك الشروط القاسية التي وفرت الأرضية لمثل هذه الجبهة المشوهة والوحيدة الجانب، علماً بأن ميشيل عفلق كان في كل كتاباته يؤكد بان حزب البعث لا يعترف بجبهة استراتيجية مع أي حزب كان بل يراها تكتيكاً مؤقتاً، وإن البعث هو البديل العربي للحزب الشيوعي في كل الدول العربية، وليس العراق وحده. لم يكن الحزب الشيوعي موحداً في هذا الموقف ولكن الغالبية كانت مع التحالف.
يشير هاشم الشبلي إلى أن أحد قياديي الحزب راح يؤكد له بـ “أن صدام حسين يحمل شحنات وطنية وديمقراطية وقام بمنح الأكراد حكماً ذاتياً وأمم النفط وساد جو من الاستقرار والهدوء النسبي”. كما إن بعضهم بدأ يقارن بينه وبين تحولات فيدل كاسترو الإيجابية، حتى إن شعاراً سياسياً رفع في خيمة المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي العراقي ببغداد في العام 1976 يؤكد “يداً بيد من أجل بناء الاشتراكية!!” لم يطرح على اللجنة المركزية أو الحزب عموماً قبل ذاك! ثم يقول هاشم الشبلي: “وما أن استتب له الأمر دون منازع -حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة- وذلك بشن حملات الاعتقال التي تستهدف الشيوعيين واليساريين والديمقراطيين واختطاف وقتل العشرات من قادة وكوادر (الحزب الشيوعي)، وفرض نظاماً دكتاتورياً قاسياً واستأنف الحرب ضد الحركة الكردية وفرض الانتماء الإجباري إلى (حزب البعث)… وطبق شعار -الكل بعثيون وأن لم ينتموا-وانفرط عقد الجبهة مع (الحزب الشيوعي).” (الكتاب الأول، ص 76).
في العام 1979 انفرد صدام حسين بالسلطة ونفذ مجزرة بقادة حزبه ومجلس قيادة الثورة وأعلن نفسه رئيساً للجمهورية ورئيساً لمجلس قيادة الثورة وللقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي والأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي على المستوى القومي، وفرض دكتاتورية الفرد المطلقة، الأوتوقراطية. وبرزت في الشارع العراقي تسميات تقترب من أسما الله الحسنى التي أطلقت على صدام حسين، وكان ذكر اسمه ينتهي بـ “حفظه الله ورعاه”!
وإذا كان صدام حسين قد بدأ منذ الفورة النفطية وبعد تأميم النفط يحقق دخلاً مالياً هائلاً بالتوجه صوب بناء المنشآت الصناعية لإنتاج الأسلحة والعتاد وبالتعاون مع الكثير من الدول المنتجة للسلاح والعتاد، ليس الدفاعي فحسب بل والهجومي، وساعدته في ذلك كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ويوغسلافيا واسبانيا والصين وكوريا الجنوبية والشمالية، وكذلك بعض دول أمريكا الجنوبية المنتجة للسلاح، فأن وبعد أن انفرد بالسلطة، وبعد أن صفى منافسيه ومعارضيه في الحزب والدولة وعلى صعيد العراق بدأ بتنفيذ مشاريعه التوسعية باستخدام القوة والسلاح والحرب لتحقيق مآربه. لقد أُجبرت المعارضة السياسية العراقية أما إلى ترك العراق أو الغوص تحت الأرض أو الانتقال إلى جبال كردستان وأريافه للنضال المسلح في إطار حركة الپيشمرگة والأنصار الشيوعيين لمقاومة النظام الاستبدادي المطلق، أو كان قد اعتقل جمهرة غفيرة تعد بالآلاف وزجها في السجون والمعتقلات العلنية منها والسرية، ومات عدد غير قليل منهم تحت التعذيب أو القتل بأساليب شتى. وهنا بدأت مأساة العراق من نوع جديد، حيث بدأ صدام حسين حروبه التوسعية والعدوانية نحو الداخل والخارج، فكانت الحرب ضد إيران وكانت الحرب ضد الشعب الكردي، وقمتها ما جرى في عمليات الأنفال التي صفى فيها عشرات الآلاف من الكرد ومن قوميات أخرى بالإقليم ونفذ جريمة الإبادة الجماعية واستخدم الكيماوي في حلبچة وبهدينان، ثم كانت جريمة غزو الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي وأخيراً حرب الخليج الثالثة التي أُسقط فيها نظام الاستبداد والشوفينية والعنصرية والطائفية وجنون العظمة والنرجسية. كما علينا ألّا ننسى تنفيذ عمليات تهجير قسرية للكرد الفيلية وعرب الوسط والجنوب الشيعية بذريعة أنهم شيعة ومن التبعية الإيرانية ومن حملة الجنسية العراقية -ب- التي حددت بطريقة عنصرية ومُيزت عن الجنسية العراقية -أ- باعتبارها عثمانية، ويمكن أن يتحولوا إلى عملاء لإيران ضد النظام العراقي الذي يدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية والوطن العرب!!! وقد أسقط عنهم الجنسية العراقية وصادر أموالهم المنقولة وغير المنقولة ودفعهم في طريق بري سيراً على الأقدام ليموت منهم مجموعة غير قليلة بسبب الألغام المزروعة في الطريق أو الموت عطشاً ودون أدوية، ولاسيما الأطفال والمرضى والعجزة.
هذه الأحداث يتابعها الأستاذ هاشم الشبلي بوضوح رؤية والتزام موقف ديمقراطي وتقدمي سليم وإدانة شديدة لصدام حسين وحزب البعث، اللذان مارسا كل تلك الجرائم بحق الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية والفلسفية. لم يتأثر نظام البعث بكل تلك الجرائم التي ارتكبها والحروب التي خاضها أو الحصار الذي فرض على الشعب، بل كان الشعب العراقي هو الضحية الفعلية والوحيدة فيما جرى بالعراق خلال الفترة الواقعة بين 1968-2003. كما يتطرق الكاتب إلى أحداث مهمة منها انتفاضة الجنود المهزومين في أعقاب حرب تحرير الكويت عام 1991، ومن ثم انتفاضة الشعب الكردي وما فعله صدام حسين بهم، وصدور قرار مجلس الأمن بحظر الطيران العراقي من التحليق بأجواء كردستان وعموم شمال العراق مما فسح في المجال ان يتسلموا الكرد السلطة بالإقليم ويعلنوا قيام الفيدرالية الكردستانية كجزء من الجمهورية العراقية، ثم مآسي الحصار الاقتصادي وحملة النظام الإيمانية الظالمة التي دفعت بالشعب العراقي إلى الغوص في ظلمات الخرافات وهيمنة المشعوذين من رجال الدين والسحرة على الناس الفقراء والمعدمين. ويتحدث عن المحاولات التي جرت من جانب النظام بشراء بعض العناصر من شيوعيين وتقدميين سابقين لتأسيس أحزاب كارتونية لإعطاء الانطباع وكأن الوضع بالعراق طبيعي وديمقراطي ولاسيما بعد انهيار الوضع الاقتصادي للنظام. ويشير بهذا الصدد إلى زيارة قام بها ماجد عبد الرضا، وهو عضو لجنة مركزية سابق وفصل من الحزب الشيوعي نتيجة لمواقفه بالأمن ومن ثم تشكيله كتلة المنبر المناهضة للحزب الشيوعي العراقي في العام 1985-1987، ومعه حسن شعبان وسالم المندلاوي، وهما محاميان كانا من الشيوعيين السابقين ايضاً، له لإقناعه بالعمل معهم لتشكيل حزب سياسي وإصدار جريدة ناطقة باسمهم. رفض هاشم الشبلي العرض قائلاً لماجد: ماجد حصل على امتياز جريدة أولاً، ثم فكر في تأسيس حزب. وغادروا مكتبي ولم تتحقق الوعود”، التي كان قد وعدهم بها طارق عزيز. (الكتاب الأول، ص 89).
يجد القراء والقارئات في الكتاب الثاني (الفصول 6، 7 و8) تفاصيل مهمة عن تلك المحطات المظلمة والقاسية من تاريخ العراق الحديث والمعاصر، التي تجلت في الحرب العراقية الإيرانية المجنونة التي دامت ثماني سنوات عجاف ومريرة، ثم العدوان على الكويت وغزوها وممارسة الموبقات والجرائم بحق شعب الكويت الشقيق والصديق، ومن ثم حرب الخليج الثانية، حيث تم تحرير الكويت وإعادة العراق إلى فترة ما قبل التصنيع، إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية حقاً، ومن ثم ما فعله الحصار الدولي الظالم بالإنسان العراقي من بؤس وفاقة وحرمان وموت بالجملة، ولاسيما بين الأطفال والمرضى والعجزة من البشر. وأخيراً حرب الخليج الثالثة حيث تم إسقاط النظام البعثي الصدامي عبر التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من دون أن يحصل هذا الغزو على قرار من مجلس الأمن الدولي، ولكن وبعد حصل الغزو واحتلال العراق، صدر قرار باعتبار العراق دولة محتلة وتحت وصاية الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الماركة في الحرب عملياً، تحت ضغط وتهديد الولايات المتحدة
وفي هذا الجزء من الكتابين يتحدث أيضاً عن المعارضة العراقية ودورها في موضوع حرب الخليج الثالثة. ويشير الكاتب باختصار شديد إلى مسألة مهمة حيث كتب يقول:
“وفي 7/8/2008 أقرت لجنة الاستخبارات لمجلس الشيوخ الأمريكي تقريراً مكتوباً يوجه اللوم بشكل مباشر إلى الرئيس جورج بوش بتهمة إساءة استخدام المعلومات الاستخباراتية لتبرير حربه ضد العراق وأن إدارة بوش الأبن قد خدعت الشعب الأمريكي حيث تحدثت عن اتصالات صدام حسين بتنظيم القاعدة التي لم يعثر عليها”. ثم يقول: ” وقد أسفر الغزو عن تدمير كامل للبنية التحتية الصناعية والزراعية والاقتصادية والثقافية والخدمية والاجتماعية، وتراجع العراق إلى عصور ما قبل الصناعة، كما قال جيمز بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة بوش الأب في 1990. أما ادعاءات بوش وبلير رئيس وزراء بريطانيا بوجود أسلحة دمار شامل في العراق فلم تثبت”. (الكتاب الثاني، ص 83).
والسؤال العادل والمشروع الذي أطرحه هنا، إلا يسمح كل ذلك من إقامة الدعوى القضائية لدى محكمة العدل الدولية ومحكمة حقوق الإنسان الدولية في هولندا ضد جورج دبليو بوش وأنتوني بلير بسبب شن الحرب وممارسة سياسات تدميرية وموت جماعي بالعراق دون أن تكون لديهم الأسباب المبررة لذلك، كما لم يخول مجلس الأمن الدولي هذه الدول بشن الحرب ضد العراق؟ على كل العراقيات والعراقيين أن يفكروا بذلك، خاصة وأن ما حصل بالعراق بعد ذلك يؤكد صواب من كان يشكك بأهداف هذه الحرب الأمريكية. لنقرأ هنا ما يقوله هاشم الشبلي بهذا الخصوص.
“وادعائهما أيضاً بالقضاء على الدكتاتورية وإقامة نظام ديمقراطي فلم يتحقق والذي تحقق فقط من الغزو هو تدمير البنية التحتية وتقطيع أوصال الجمهورية وتهجير الوطنيين العراقيين وإطلاق يد العابثين والمخربين ليتحكموا بمقدرات البلاد والعباد”، (الكتاب الثاني، ص 84). وهذا ما يبحثه في بقية فصول الكتابين.
الحلقة الرابعة والأخيرة
الغزو والاحتلال وإقامة النظام السياسي الطائفي المحاصصي بالعراق
من خلال قراءة مدققة لرأي الكاتب الديمقراطي هاشم الشبلي تبين لي بوضوح ثلاث مسائل جوهرية:
1) رغم إنه كان بحزم وإصرار ضد نظام البعث الحاكم بالعراق وسياساته الاستبدادية والشوفينية والتوسعية والحروب وما آل إليه العراق في ظل البعث، لكنه لم يجد في الحرب أسلوباً لتغيير الوضع بالعراق، خاصة وأن المجتمع كان ما يزال بعيداً عن القدرة في تحمل مسؤولياته بعد خمسة عقود من الاستبداد والجور والظلام وسياسات التجهيل وعودة الأمية،
2) ولم يكن يثق بأي حال بأن الولايات المتحدة الأمريكية تريد حقاً إسقاط الدكتاتورية لصالح الشعب العراقي وإقامة نظام ديمقراطي فيه، بل إن لها مصالحها الخاصة والتي لا تتناغم مع مصالح الشعب العراقي،
3) وأن القوى الديمقراطية العراقية كانت ما تزال ضعيفة حينذاك بسبب سياسات الاستبداد والقمع التي مارستها الدكتاتورية البعثية والصدامية بتوجيهها ضربات قاسية للقوى الديمقراطية والتقدمية المعارضة عموماً وللشيوعيين خصوصاً. وقد بدا للكاتب واضحاً من التحالفات التي برزت قبل إسقاط النظام ومن العلاقة التي نسجت بين الولايات المتحدة والقوى المعارضة الشيعية والكردية وأسلوب عملها وأهدافها لن تكون ذات فائدة فعلية للعراق.
ولم يكن الأستاذ هاشم الشبلي، بخبرته السياسية والحقوقية، مخطئاً فيما توصل إليه، بل أصاب كبد الحقيقة. فلم تكن طريقة احتلال العراق بالضربات العسكرية المدمرة للبنية التحتية والمنشآت الصناعية والاجتماعية والثقافية واستخدام السلاح المنضب باليورانيوم في المعارك ضد القوات العراقية في حربي 1991 و2003، سوى تأكيد فعلي لاستنتاجاته. إذ كتب في الفصل السابع يقول: “في 19/أذار/2003 بدأ الهجوم الصاروخي والجوي الصاعق على بغداد وباقي المناطق، واستمر أسبوعين متواصلين ايلاً ونهاراً، دكت فيه المعسكرات والمطارات والمصانع والمعامل العسكرية والمدنية والجسور والطرق والمنشآت والمؤسسات الحضارية والثقافية ووسائل الاتصالات”. (الكتاب الأول، ص95). وإذا كانت قصف المطارات والمواقع والقوات العسكرية اعتيادية في حرب كالحرب التي خاضها التحالف الدولي ضد العراق، فأن من غير المقبول والمعقول قصف المصانع والمراكز الحضارية والثقافية والطاقة الكهربائية ومنشآت المياه الصالحة للشرب.. الخ، إلا إذا كان الهدف تدمير العراق بكل معنى الكلمة، وهو ما أشار إليه قائد عاصفة الصحراء شفارتس كوبف حين أكد بأنه كان يريد الانتقام من شعب العراق لأنه انتخب صدام حسين. ولم يكن هذا وحده بل الواقع يقول إن الإدارة الأمريكية تركت حدود العراق مفتوحة بعد إسقاط الدكتاتورية لتدفع بالإرهابيين ترك الولايات المتحدة وأوروبا والانتقال إلى العراق لخوض المعركة ضدهم بالعراق وعلى حساب الشعب العراقي وحياته واقتصاده، وهذا ما حصل فعلاً.
ويتطرق الكاتب إلى تكليفه بوزارة العدل ممثلاً عن الحزب الوطني الديمقراطي ورفض بأي حال أن يكون ممثلاً عن السنة في التقسيم المحاصصي للوزارات، وكان على حق في اتخاذ هذا الموقف المبدئي الذي وجدناه عن رفيق نضاله الأستاذ نصير الجادرجي، كما تحدث عن دوره في محاولة بناء وزارة العدل وتخليصها من التدخل الفظ للآخرين في شؤون القضاء والمصاعب التي كان يواجهها، رغم أنه لاحظ تأييد بأول بريمر لهذه الوجهة في وزارة العدل التي يسعى إليها هاشم الشبلي. ويتحدث هنا عن عدد من المسائل المهمة بما في ذلك موقف الكرد من التحالف مع القوى الديمقراطية وميلها الشديد للتحالف مع الشيعة وبعيداً عن القوى الديمقراطية، ويشير إلى موقفه الرافض لوزارة حقوق الإنسان التي أريد تكليفه بها. ويكشف عن خبايا كثير وخاصة حين استوزر في وزارة نوري المالكي الأولى واضطراره للاستقالة بسبب عدم قناعته بسياسة نوري المالكي والتي أثبتت الحياة سوءات هذا الرجل. ومن بين تلك المسائل يشير إلى الاتفاقية الأمنية السرية التي عقدها نوري المالكي مع إيران دون عرضها على مجلس الوزراء والانفراد بها، والتي اساءت لاستقلالية العراق ف قراراته وممارسة مجلس الوزراء لمسؤولياته. كما تبين فيما بعد أن نوري المالكي قد وقع في العام 2010 اتفاقية سرية وأخرى علنية مع مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان، بصورة شخصية ودون العودة إلى مجلس الوزراء العراقي لضمان موافقة الأخير على تكليف نوري المالكي بولاية ثانية لمجلس وزراء العراق، وهذا ما حصل فعلاً، والتي يشار إلى أن فيها الكثير من التنازلات لرئيس الإقليم والتي لم تطرح للمناقشة في البرلمان أو مجلس الوزراء والتي تعتبر غير دستورية، ولم يلتزم بتنفيذها نوري المالكي أيضاً وتسببت في نوب صراع شديد بين الرجلين.
في الكتاب الثاني يتحدث الكاتب إلى الوزارات التي تشكلت على وفق تسلسها ابتداء من الدكتور أياد علاوي ومروراً بإبراهيم الجعفري ونوري المالكي ومن ثم بالدكتور حيدر العبادي. ويشخص بدقة طبيعة إبراهيم الجعفري حين يقول عنه: رفضت تكليفي وزيراً لحقوق الإنسان في وزارة إبراهيم الجعفري لأن الاختيار تم على أساس مذهبي وهذا مرفوض من قبلي، وقد بدا لي من سياساته وطريقته في إدارة الدولة إدارته، إنه محدود الأفق وضعيف الخبرة، مما أوقعه في مطبات سببت حرجاً للحكومة وللعملية السياسية، ولم يكن على درجة من الحنكة والدهاء والمرونة دارة الصراعات السياسية والاجتماعية التي تضرب في قاع المشهد السياسي…”. وكان تشخيصاً واقعياً برهنت على صوابه. أما عن نوري المالكي فيشير إلى وعوده وتعهده باتفاقات خاصة مع مسعود البارزاني واياد علاوي في حل سريع للمشكلات مع الإقليم وتشكيل مجلس وطني للسياسات ليمنح ولاية ثانية لرئاسة مجلس الوزراء فيذكر “.. وقد انكشفت اللعبة وتعرى السيد المالكي مما أدى إلى تصدع الثقة به فتجدد التوتر بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، واستمر المالكي على ذات النهج الذ انتهجه في حكومته الأولى من الاستخفاف بالقانون وعدم محاسبة الفاسدين والمتلاعبين بالمال العام وانعدام أي إنجاز ملموس في حقول البناء والإعمار والخدمات والمصالحة الوطنية، وبلغ الفساد في وزارته حداً عالياً من السوء، بحيث أعلنت منظمة الشفافية العالمية أن العراق يحتل المرتبة الثالثة في الفساد بين دول العالم بعد الصومال والسودان لسنة 2012”. (الكتاب الثاني، ص 95).
إن كتابي الأستاذ هاشم الشبلي يقدمان وثيقة جديدة ومهمة عن حالة وسياسات الدولة العراقية الهشة وحكوماتها المتعاقبة خلال الفترة الواقعة بين 2005-2017، وبشكل خاص كيف أقر الدستور والنواقص التي يتضمنها، وبشكل خاص ما حصل في فترة حكم المستبد بأمره نوري المالكي في سيادة الفساد والإرهاب واجتياح الغزاة الدواعش للموصل ونينوى، وقبل ذاك ما حصل في محافظات الأنبار وصلاح الدين.. الخ، يستحقان القراءة بكل جدارة. فهما يكشفان عن الكثير من المستور في السياسة العراقية خلال الفترة الواقعة بين 1963-، ولاسيما الفترة بين 2003020172017 وبعد إسقاط الدكتاتورية البعثية بالعراق والاحتلال وإقامة النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة والعواقب الوخيمة التي ترتبت على ذلك في غير صالح الشعب العراقي. كما يتضمن الكتابين الكثير من الوثائق والقرارات ورسالة الاستقالة التي قدمها الكاتب إلى نوري المالكي في العام 2007 والتي يقول فيها:
“مضى ثلاثة شهور ونيف على تسليمها (رسالة قدمت بتاريخ 9/1/2007، ك. حبيب) لدولتكم لم ألمس ما يشير إلى التجاوب مع ما ورد فيها ولم أجد صدى لديكم، كما أني شعرت ومنذ أشهر بأن مواقفي ومعالجاتي للأوضاع السياسية والأمنية الراهنة الساخنة سواءً في مجلس الوزراء أو في اللجنة الوزارية للأمن الوطني لا تلقى قبولاً واكتراثاً، … “. (الكتاب الأول، ص 204). وقد قبلت الاستقالة فوراً من جانب رئيس الحكومة وكأنه كان ينتظر ذلك بفارغ الصبر، إذ أنه لم يكن يحتمل أي رأي مخالف لرأيه ويضمر الكثير من الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام لمن يختلف معه. ويمكن أن نجد الكثير من المقالات المهمة التي نشرها الكاتب في الصحف والمواقع الإلكترونية التي تكشف عن سياسات العراق في ظل النظام الطائفي بالعراق الراهن.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here