من مذكرات مناضلة

نقلية جابر عبد (ام ظافر)
مع نهايات عام 1978 وتحديداً في 8/ 12/ 1978، يوم اجبرت قوى الامن القمعية رفاق حزبنا على الانتقال الى ميدان العمل السري، في ذلك الوقت بدأت اولى خطوات رحلة النضال التي امتدت خمسة وعشرين عاماً.
يومها، قال لي رفيقي في الحياة وفي النضال (ابو ظافر) إن طريقنا طويل، ولا أستطيع ان احدد متي سينتهي. لكن الشيء الذي يجب ان تعرفيه وتؤمني به، هو اننا سننتصر. تلك هي إرادة الشعوب وذلك هو منطق التاريخ.. وانا أترك في يديك اطفالنا والحزب، امانة في عنقك. لم يزد الرفيق على ذلك، لأن الموقف لم يكن يحتمل المزيد من الكلمات. وكان وداعاً، أحسست فيه انني كبرت كثيراً.
وبدأت المداهمات الامنية وحملات التفتيش، الاستدعاءات مستمرة والتحقيق يتواصل، والسؤال يتكرر أين زوجك؟؟ وعلى مدى اثني عشر عاماً كنت اجيبهم: في يوم 7/ 12/ 1978 تم استدعاؤه اثناء الدوام الى مديرية التربية وبعدها لم يعد.
كان امتحاناً عسيراً وكانت مسؤولية كبيرة، تلك التي كان عليّ ان اتحملها، الوضع الاقتصادي، الوضع الامني ومستجدات العمل السري. وللتاريخ اقول: اننا كعائلة كنا عند حسن ظن الحزب بنا، فقد ظلت راية الحزب مرفوعة في الداخل، وظل اسمه يتردد في كل المناسبات، وادبياته وبياناته توزع بين الناس وفي الشوارع.
كان عملنا منظماً وكنا نعمل كخلية نحل.. الصغار الذين كبروا في المحنة والكبار الذين صانوا الحزب.. وعاملنا المشترك كان الصيانة، السريّة والتخطيط المسبق لكل المهمات، إيصال البريد، نقل الرفاق وتغيير اماكن اختفائهم، تأمين ركيزة الاستضافة للرفاق المشرفين من قيادة الحزب، أتذكر منهم الشهيد سعدون والرفيق عمر الشيخ والرفيقة بخشان زنكنه.
رغم كل المعاناة اليومية كنا سعداء بعملنا.. عالجنا الوضع المعيشي بصنع (العلاكات) للتبضع واخرى كحقائب مدرسية وغيرها حقائب نسائية. وشكلت هذه مورداً ثابتاً لنا.
حتى كان يوم 15/ 12/ 1980 داهمتنا فيه اجهزة الامن. صادروا أثاث بيتنا، ألقوا باطفالنا الى الشارع في شتاء قارس، قالوا لنا: بيتكم لم يعد لكم، باعوه بالمزاد العلني، إقتادوني مكبلة معصوبة العينين الى مديرية الامن.
ايام صعبة اجتزناها وظل رأس الحزب مرفوعاً.. قبل اعتقالي بلحظات قال رفيقي ابو ظافر: تأكدي انك لن تكوني وحدك، سترين ان كل الرفاق معك..
صدقوني، لم يكن وهماً ما رأيت، لم يكن ايحاءً. في لحظات غيبوبة التعذيب كنت ارى جدران الغرفة مجموعة من رفاق الحزب متشابكي الأيدي يرفعونها الى الاعلى في تحية لي، عرفت منهم الشهداء ابو عبيّس، ابو رياض وحسن رفيق.
بقينا فترة في بيت الرفيق ابو لينا وهو اخ الرفيق ابو ظافر، بعدها انتقلنا الى منطقة نادر الثالثة، بمدينة الحلة، تنقلنا فيها بين عدة بيوت، حتى كان يوم 18/ 3/ 1985.
استدعيت انا والرفيقة وجيهة ناهي اخت الرفيق ابو ظافر والشغيلة المعروفة في مقر الحزب في بابل، استدعينا الى مديرية الامن، وكان حواراً ساخناً مع مدير الامن. إحتدّ المجرم وقال، بعد ان قذفني بـ (نفاضة) السكاير التي تحطمت على الجدار خلف رأسي: (اصبروا .. الطبخة بعدها ما مستوية(.
تحدثنا والرفيق ابو ظافر بالموضوع، وعلى الفور استدعى الرفيق الشهيد ابو رهيب وحدثه عن ان جهاز الامن يعد لنا كما يبدو «شيئاً» كبيراً. الشهيد ابو رهيب قال: هذه مجرد تهديدات! بعد نصف ساعة افترق الرفيقان، وحسب تقديري انهما اختلفا في تقدير الموقف.
الايام القليلة التي تلت اللقاء كانت متعبة جداً بالنسبة لي، وعبؤها النفسي كان اكبر، لم استطع ان أقرأ ما كان يفكر به الرفيق ابو ظافر، لكني استنتجت انه بصدد اتخاذ قرار.
في 12/ 5/ 1985 عاد الرفيق من احدى الركائز الحزبية في (العمادية) حيث يقيم الرفيق الشهيد انور سعود مشهد. استدعاني على انفراد وقال: هناك قلق مشروع يراودني بسبب كثافة اجراءات اجهزة الامن ومراقباتهم، وهناك قرار بان نشارك انا والرفيق ابو رهيب في اعمال المؤتمر الوطني الرابع للحزب.
ليلة 17/ 5/ 1985 كانت المنظمة تنفذ اوسع فعالية اعلامية وكنت مع عدد من الرفيقات ننفذ المهمة الموكلة الينا، ورغم النجاح الذي تحقق فان حجم الكارثة كان واسعاً. ففي نفس اليوم كانت الاجهزة القمعية تنفذ هجوماً اعدت له ضد منظمة الفرات الاوسط، وطالت الاعتقالات رفاقاً لنا في الفرات وبغداد والنجف، ومنهم الرفيق ابو رهيب.
غيّرنا سكننا، ولم تجد التحريات التي توالت دليلاً ضدنا، واستمرت استدعاءاتي بين الحين والآخر حتى انسحاب العراق من الكويت يوم 2 آذار 1990.
وبعد جولة ميدانية في الحلة قام بها الرفيق ابو ظافر، توصل الى امكانية تحشيد تظاهرة ضد الدكتاتورية. وتم التبليغ وحُدد يوم 4 آذار موعداً لها، وفي صباح ذلك اليوم علمنا باندلاع انتفاضة مسلحة في النجف والكوفة. إستدعى الرفيق ابو ظافر مجموعة من الرفاق، درسوا الموقف المستجد، وكنت اشارك في الاجتماع. تحدث الرفيق ابو ظافر قائلاً: إن شعار التظاهرة صار متخلفاً، وطرح شعار الانتفاضة المسلحة. وتم التخطيط في الساعة الخامسة مساء نفس اليوم تقوم مجموعة الرفيقات ام ظافر، العماية، جنان، ابتسام، ايمان، بالتواجد في اكبر تجمع جماهيري في حي نادر ويطلقن الزغاريد ويستثرن مشاعر الجماهير ضد السلطة. وتم ايضاً تحديد الهتافين والشعارات.
كان يوماً لم اشهد له مثلا في حياتي، حين امتزجت الدموع بالهلاهل واستجابت الجماهير، وكانت المفاجأة ان ابني سلام عمد الى المخبأ السري وسحب بندقية حطم بها جدارية للطاغية امام مدرسة 11 آذار في حي نادر في الحلة.
بعد إجهاض الانتفاضة، واجهتني مهمة نقل سكننا الى الديوانية، ونجحنا في ذلك.
وهناك حدثت المتغيرات الاصعب في عملي الحزبي، واجهت قرارا باصطحاب الرفيق ابو ظافر الى كردستان واعلموني ان الهدف هو اعادة الصلة بالمركز، هنا، لا اريد ان اصف كيف نجحنا في الوصول، الجميع يعرف حجم السيطرات بدءاً من الديوانية وحتى شقلاوة. فتلك وحدها تحتاج الى ملف خاص.
نحن الآن في استعلامات مقر اللجنة المركزية، الظرف معقد، والحابل احتلط بالنابل، وبعد التعارف والتعريف والسين والجيم سُئلنا أخيراً (انتم شنو قصتكم؟) الحمد لله، قلت في داخلي بعد ان تبادلت النظرات مع الرفيق ابو ظافر الذي وجدته يبتسم، اذن فقد اصبحت لنا قصة؟
وبعد مشاورات بين رفاق الاستعلامات، قالوا لنا تفضلوا معنا. خرجنا من باب خلفية للمقر، سرنا في ممرات ضيقة بين الاشجار الكثيفة، حيث افضى بنا الطريق الى باب صغيرة خلفية لدار. كانت بين عائلة الرفيق ابو سلام، زوج الرفيقة ام سلام وهي ابنة الرفيق الشهيد بيا صليوة.
حرصت قيادة الحزب على ألاّ يرانا او يعرف (قصتنا) احد خارج اطارها.
وفي المساء كنا وجهاً لوجه مع الرفيق عبد الرزاق الصافي (ابو مخلص). مضى اسبوع كله عمل، تم فيه نسج الصلة الجديدة: البريد الحزبي الشهري، الشفرة عبر اذاعة الحزب، ومجموعة من التوجيهات الجديدة التي تنسجم مع مستجدات العمل الحزبي. ومنذ اليوم الاول نظمت للرفيق ابو ظافر هوية جديدة بختم الحزب الشيوعي الكردستاني.
تم تزويدنا بمجموعة من الادبيات قمت بلفها بـ (الشاش) وربطتها بحزامي تحت ملابسي، آنذاك لم يكن (الحزام الناسف) شائعاً.
ودعنا الرفاق، وقبل ان تنطلق بنا السيارة من كراج شقلاوة بدقائق، شاهدنا الرفيق ابو مخلص في الكراج يبحث عنا، أشرنا اليه، سلمنا اول نسخة من عدد «طريق الشعب» الصادر ذلك اليوم وقال: ما زال فيها عطر حبر المطبعة.
العقل الجمعي اساس عملنا، لا بد من جمع قيادات التنظيم، وحُدد الموعد والمكان وتم التبليغ، فكان الكونفرنس في الديوانية منتصف كانون الثاني عام 1993، وقد حضره من البصرة الرفاق عباس الجوراني (ابو زينب)، والرفيق (ابو حيدر) رسام الكاريكاتير، والرفيق (ابو عمر)، ومن الحلة الرفاق ابو ظافر (مسؤول التنظيم) عطا عباس (نائب مسؤول التنظيم) مزاحم الجزائري (ابو سنا) كاتبة السطور (ام ظافر) والعماية (وهي وجيهة ناهي عاملة النسيج في بابل)، جان زهير وابتسام زهير، ورفاق من بغداد ومن الديوانية.
وعلى مدى ثلاثة ايام تم ارساء اسس العمل التنظيمي، كما درس الكونفرنس حاجة التنظيم الى صوت يعبر عن نشاطه، وكان القرار باصدار (الحقيقة) واختيار شبكة مراسلين لها. وبوسائل بسيطة نجحنا في اخراجها، فصدر العدد الاول منها في شباط عام 1993. واستمرت في الصدور حتى اعتقالنا في الديوانية في تشرين الاول عام 1994 ، حيث صدر منها حتى هذا التاريخ 20 عدداً.
احياناً تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي غمرة نجاحاتنا، كانت اجهزة القمع تخطط هي الاخرى. وفي 27 أيار 1993 اعتقل ابني ظافر في بغداد واعتقل معه سبعة من رفاق المنظمة من بغداد والصويرة والحلة والمدحتية. وفيما بعد اقترف القتلة جريمة اعدامهم، عشية احتفالنا بالعيد الستين لحزبنا عام 1994، قالوا لي: هذه هدية العيد، استلموا ابنكم يوم 31/ 3/ 1994.
رفضت ان استلم جثمانه يوم العيد. عشية ذلك اليوم احتفلنا بالعيد، رقصنا رقصة الموت، غنينا للبطل المتوهج في ساحات الفقراء، لا يدري احد من المحتفلين بالعيد كم شرب من الدموع في تلك الليلة.
في يوم 2/ 4/ 1994 كنت وجهاً لوجه مع القدر. اجتمعت العائلة، قلت رفاقي: القرار اليوم قراري، فالشهيد عمره سبعة وعشرون عاماً ومن حقي كأم ان احتفل بعرس الشهيد، واتحمل كل نتائج مواجهتي مع الدكتاتورية. انها لحظة التحدي.
في الحلة كانت تُهيأ أكاليل الورد والقداح وصورة كبيرة للشهيد، وحين وصل الموكب اليها، تأطر جثمان الشهيد بالورود التي صاغتها اكليلاً يدا المرحومة الرفيقة (ام لينا)، وصدحت الهلاهل.
وفي النجف، كنت اتقدم الموكب واطلق الزغاريد، وكان الناس يسألون فأُجيب بأعلى صوتي: انه الشهيد الشيوعي.
كانت تلك محنتي وامتحاني في النضال، وبفضل الحزب تجاوزتها.
في نفس العام في 7/ 10/ 1994 اعتُقِلنا في الديوانية جميعاً، اطفالنا ورجالنا ونساؤنا، وتحملت مرة اخرى ثقل المواجهة مع الدكتاتورية واجهزة قمعها. وعلى مدى اسبوع من صنوف التعذيب بالكهرباء والكيبلات والتعليق بالمروحة، وحتى اعتقال ابو ظافر وسلام ابني يوم 11/ 10/ 1994 كنت عاجزة تماماً من الوقوف على قدميّ.
***
هذا بعض من المحطات الرئيسية في سني النضال التي مرت، وحين يسألني الرفاق عنها اقول بإيجاز: صحيح خسرت الكثير، ابني، بيتي، رفاقي وصحتي.. لكني ربحت كل شيء.. ربحت الحزب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة “طريق الشعب” ص6
الاثنين 30/ 10/ 2017

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here