نوبل ومثالية الأدب

رحمن خضير عباس

لعل الكتابة عن جائزة نوبل وخفاياها أمر ليس بالهيّن . لأنّ ذلك يفترض قدرا كبيرا من المثابرة، والصبر ، والتأمل ومراجعة المصادر ، والتحري عن بعض الخفايا ، حتى اذا تطلب الامر إجراء حوارات أو مقابلات مع بعض أعضاء الأكاديمية السويدية المختصة بتوزيع الجوائز . وهذا ما إضطلع به الكاتب طالب عبد الامير ، وهو يقدّم إلينا كتابه الموسوم ( نوبل ومثالية الادب) والذي تطلب منه جهدا كبيرا. ومراجعات ليست بالقليلة. وكلما فكر بإصداره مرة ، تراه يتمهل وينتظر عاما آخر ليضيف شيئا جديدا .

وطالب عبد الاميرعراقي مغترب منذ نَيَّف واربعين عاما. وهو شاعر وأديب وإعلامي ، حاصل على شهادة الدراسات العليا في الاعلام والإتصالات . عمل ولاكثر من عشرين عاما كمحرر ومنتج للبرامج في القسم العربي للإذاعة السويدية. وهذا مايُفسر حجم إنشغاله بموضوعة نوبل وإشكالاتها.

يتحدث الكاتب عن حياة (الفرد نوبل). منذ طفولته حتى موته. ذلك الطفل الذي ولد في عصر التحولات العلمية ، لذلك وجد نفسه منهمكا في تفعيل الطبيعة المحيطة به من خلال إدراكه لقوانينها . حتى وصلت ابتكاراته قبيل موته الى ثلاثمائة ابتكار في المجالات العلمية المختلفة ،تركها لخدمة الانسانية ، فساهمت في تغيير وجه العالم . ولكن الاختراع الأكثر شهرة والذي ارتبط بإسمه ،كان في مجال التفجيرات الكبيرة التي تساهم في شق الطرق والانفاق ، لتسهيل البحث عن الثروات الكامنة في الأعماق . وقد سمي هذا الاختراع بالديناميت والذي أدى الى خدمة الانسان. ولكن اختراعه هذا قد مر بمخاض الخلاف بينه وبين والده الذي كان مخترعا وصاحب ورشة تصنيع. وقد كان الخلاف حول البراءة الحقيقية للإختراع. والذي حسمته ام الفريد ، السيدة الذكية والمتعلمة والتي قالت بان الجهد الحاسم كان لابنها الفرد. كما ان نوبل الابن دفع ثمنا باهضا بعد انفجار المصنع العائد اليه ، والذي يمارس فيه بحوثه وتجاربه في ستوكهولم ، لخطأ غير متوقع فذهب اخوه الأصغر ضحية لهذا الحادث. وعلى أثره ناصبته الصحافة العداء وأطلقت عليه نعوتا مختلفة كملك الموت. وحينما انتقل الى فرنسا واجه نفس الامر ، حيث إتهمته بالتجسس الصناعي لصالح ألمانيا فغادرها الى إيطاليا التي لم يمكث فيها طويلا . وحينما تقدمت به السنين بعد التنقل بين البلدان ، يستبدُّ به الحنين أخيرا الى ستوكهولم. وفي السابع من ديسمبر من عام١٨٩٦ عندما كان منحنيا على طاولة الكتابة تدلى رأسه ، ولفظ أنفاسه الاخيرة.

تحدث الكاتب ايضا عن جوانب أخرى من شخصية نوبل الذي عاش في عزلة نفسية خانقة. وقحط عاطفي فقد تعلق بسكرتيرته الذكية والجميلة ( بريا كيسكي) . ولكنها اعتذرت لانها مرتبطة بشخص آخر وبقي طيلة حياته وحيدا. وكان طيب القلب مساعدا للناس ، فحينما سأل احدى عاملاته يوما ،عما تتمنى ان يهدي لها بمناسبة زواجها. فقالت له على سبيل المزاح : ماتربحه في يوم واحد من عملك فما كان منه الا ان أخرج شيكا وكتب لها مبلغا كبيرا يعادل ماطلبتْ.

هذا الرجل الذي نعتته الصحافة السويدية وغيرها بملك الموت او ملك الديناميت. هو شاعر مبدع ، يمتلك قلبا رقيقا .يكره الحروب ويشعر بالأسى لان اختراعاته أسيء إستخدامها في الحروب. فأصبح هاجسه أن تصل البشرية الى السلام الدائم. وقد ترجم لنا الكاتب طالب عبد الامير بعض أشعاره من اللغة السويدية. وكانت في غاية الرقة وكأنها لاتنتمي الى هذا الشاب المتوثب بالقدرات العلمية. والجدير بالذكر ان الفريد نوبل كاتب مسرحي أيضا، كتب مسرحيات مهمة. في احدى مسرحياته جعل الكنيسة تناسبه العداء لان مضمون مسرحيته تلك قد عرَّى الزيف الكنسي فأمرت بحرق نسخ مؤلفاته وبالرغم من إنشغال الفريد نوبل في المجالات العلمية والصناعية ، لكن هذا لم يمنعه من الافتتان بالأدب الانساني ، وإقامةعلاقات متميزة بكبار أدباء عصره ولاسيما أديب فرنسا الكبير فيكتور هيغو. ومن الطريف إن أكاديمية نوبل لم تمنح الجائزة لهذا الكاتب الكبير . مع ان صاحب الجائزة كان من المعجبين بالقيم الانسانية التي تتضمنها أعمال هيغو.

لقد تناول الكتاب مضمون وصية نوبل التي قُرِأت بعد خمسة أيام من وفاته والتي أوصى فيها بأن يودع الجزء الأكبر من ثروته في صندوق مالي تُخصص فوائده الى منح ومكافآت لعلماء وباحثين ودعاة سلام ومبدعين من مختلف أنحاء العالم . قدّموا إسهامات جليلة في مجالات السلام والادب والكيمياء والفيزياء والطب. ثم تناول الكتاب الجدل حول محلية الجائزة او عالميتها والتي حُسمتْ لفكرة العالمية. ثم تناول طريقة التوزيع وصعوبة الحصول على السندات المالية والإشكالات القانونية لأملاكه خارج السويد لان الفريد نوبل كان إنسانا كونيا. نقل عصارة أفكاره عبر اوربا الملتهبة بهاجس الحرب. ومن الممكن تصنيفه بأنه عرف العولمة قبل تكوينها بسنين طويلة.

بعد ذلك يتحدث الكتاب عن اضطلاع الأكاديمية السويدية بهذه المهمة ونظام توزيع الجوائز التي تعتمد على لجان ومستشارين وعن مواعيد الترشيح ، والسرية التامة في النقاشات التي تسبق إختيار المرشح والتي لاتُكشف سريتها الا بعد نصف قرن. وعن موعد إعلان الفائز الذي يصادف ذكرى وفاة صاحب الوصية الفرد نوبل يوم العاشر من ديسمبر. ثم تحدث عن نوعية اللوغو للميدالية التي تُمنح للفائزين ورمزيته في كل ميدان من ميادين الفوز التي أقرتها هذه الوصية . وبعد ذلك ينتقل الى خلفية الجائزة التي تأتي :

” بمثابة إعتراف بقيمة الانسان وقدرته على الابداع”

وبعد أنْ يستعرض الكتاب الفائزين في المجالات العلمية. يتوقف طويلا عند جائزة نوبل للأدب والإشكالات الكثيرة التي أثيرت حول تفسير الوصية والتي إشترطت( المثالية) في الادب مما أنتج سجالات طويلة عن مفهوم المثالية وصعوبة الاتفاق عليها من قبل أعضاء الأكاديمية . هذه التفسيرات هي التي حرمتْ أدباء عمالقة من نيلها من عيار تولستوي وهنريك أبسن وأميل زولا.

وحينما ينتقل الى نظام توزيع الجائزة يتحدث عن طريقة الترشيح واللغات المستخدمة. وترجمة اللغات الاخرى ، كما حدث مثلا للفائزة من بولونيا مثلا .

يتناول الكتاب ايضا مسألة حيوية ، وهي : لمن تُمنح الجائزة ؟ وضمن هذا الإطار فقد إستعرض جملة من أسماء الفائزين بدوافع مختلفة ،ومنها دوافع سياسية مثل المؤرخ مومسن. او دوافع أخرى مثل فوز الشاعر الفرنسي المغمور شيلي بردوم . أو أحد أعضاء الأكاديمية والذي قيل بان السبب انه مطلوب بمبالغ الى الأكاديمية ، يمكن للأخيرة استرداد المبالغ من منحه الجائزة. كما تناول الكتاب الضجة وتضارب الاّراء عن كل ذلك وعن بعض الاسماء الذين اعترضت على فوزهم الكنيسة مثل ساراماكو . كما تناولت المشاهير الذين استحقوا الجائزة ولكنهم حُرموا منها لاسباب واهية وغير مقنعة ، مثل كاتبة قصص الاطفال الشهيرة آستريد بندغرين.

يستعرض الكتاب أيضا ، وبشكل تفصيلي الفائزين بجائزة نوبل للأدب في السنوات الاخيرة، ومنهم ، ماريو فارغاس يوسا ، والشاعر السويدي ترانستر ومر. وهو أعظم شاعر معاصر. والصيني مو يان ، والذي تتسم كتاباته بالجمع بين الموروثات الشعبية والمعاصرة. والكاتب التركي باموك وخلفيات منحه ، ومواقفه عن القضية الأرمنية . والكاتبة الكندية آليس مونرو ، والتي تشكل اول فوز كندي بهذه الجائزة . الى أن يصل الى المغني الامريكي المشهور بوب دايلان ، وردود الفعل التي رافقت حصوله على الجائزة.

كما أسعفنا الكاتب بمعلومات عن كل أديب فاز بالجائزة ، وأسباب اختياره دون غيره. والاراء التي اعقبت فوزه في الصحافة والاعلام السويدي او العالمي . وقد يكون وجود المؤلف طالب عبد الامير في ستوكهولم واشتغاله في الإذاعة السويدية ، هو الذي جعل التفصيلات التي احتواها الكاتب أكثر دقة ، ومن ثمة ذات قيمة أكبر للقاريء العربي.

كما احتوى الكتاب المقابلة الصحفية مع السكرتير الدائم الأسبق للأكاديمية السويدية. والتي أجراها قبل عدة سنوات الكاتب طالب عبد الامير . وقد تناولت الكثير من الاشكالات التي تعرضت لها الجائزة منذ نشوئها. وطبيعة المعايير التي تعتمدها الأكاديمية في إختيار الفائز وغياب المرشحين من الادباء العرب.

لقد كان الكتاب ( نوبل ومثالية الادب) نافذة ، إستطعنا أنْ نُطلّ من خلالها على عالم نوبل ، كمتخصص وعالم صناعي والجهود الفكرية التي بذلها ومنحها هدية للإنسانية والتي تتمثل في هذا السيل من الاختراعات المهمة التي شكلت انعطافا في التطور العلمي. كما تعرفنا على نوبل الاديب والمسرحي والشاعر ذي القصائد العاطفية. إضافة الى أننا تلسنا جراحاته النفسية التي عاناها ، وشعوره بالوحدة والعزلة. وعدم قدرته على تحقيق السعادة الشخصية ، فبقي يبحث عن ظل إمرأة تلامس بعض أحلامه ولكنه بقي وحيدا ، يعيش حالة من الجدب العاطفي. كما اننا استطعنا أن نرى – من خلال هذا الكتاب- عراقة الشعب السويدي ،وقابليته على العطاء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here