مسعود عمارتلي… حكاية صورة

د.سلمان كيوش- تخطيط: عبد سلمان/

بصوته فقط حضر وتسيّد بجدارة على ذائقة الغناء العراقيّ الجنوبيّ وذاكرته عقوداً من الزمان وما زال، فما الذي يمكن أن يفعله غناؤه لو كانت صورته حاضرة أيضاً؟ نستمع إليه بشغف فتضطرب في مخيّلتنا فوضى صغيرة بحثاً عن شفتين له وعينين، عن أنف ولون بشرة وكفّين وهما تتمايلان أمام وجهه كما يفترض الطربُ، وكأنّ اكتمالَ لذّة الانصياع لسوط صوته لا تكتمل إلّا بصورة لوجهه.

صورة مفترضة

لا صورة لوجه مسعود برغم شهرته وحضوره الواضحين ابتداءً من عشرينات القرن الماضي. ضاعت ملامحه كما ضاعت ـ أجزم بهذا ـ الكثير من أغانيه في مضايف الشيوخ. كان يغنّي حتى الصباح عادة، فبمَ كان يملأ وقت سهرته الطويل إذا عرفنا أنه لم يغنِ الأبوذية أو الزهيري بالطريقة المعهودة كما كان يفعل مجايلوه كلّهم؟ هذا يعني أن لديه الكثير من الأغاني التي لم تصلنا، لأن مجموع الوقت لأغانيه كلّها لن يزيد عن ساعة ونصف!

أما صورته المفترضة التي شاعت، فسأنبئ قرّاء الشبكة بنبئها حدّثني شيخ الموثّقين العمارتليين الأستاذ جبّار عبدالله الجويبراوي، قال: أعددتُ ملفاً موسّعاً عن مسعود عمارتلي لمجلة فنون، وقدّمته للأستاذ عبدالأمير جعفر مسؤول القسم الموسيقي في المجلة. كان هذا في العام 1978. كنت قد عملتُ لإعداد هذا الملف على مدى سنة كاملة. قال لي: أين صورة مسعود؟ قلت: لا صورة له. قال: اخلقْ لي صورة!! ذهبتُ لمسيعيدة، والحديث ما زال للأستاذ الجويبراوي، واتصلت بالموجودين من ذريّة الشيخ محمد بن عريبي الذي نشأ مسعود في مضيفه، وسألت موظفي النفوس، ولكن من دون جدوى.

فنّان ترك بصمته الساحرة

عدتُ للعمارة وقابلت الفنان المرحوم كريري السلمان، وهو عديل مسعود عمارتلي!! قلتُ له: صف لي مسعود.. قال:” هو أسمر، شديد السمرة، وجهه منكرش، وفي أحد منخريه شرم، يضع على رأسه عقال وتحته شطفة بيضاء دائماً”. لديَّ صديق معلّم من أهل منطقة الخُمس التابعة لقضاء الميمونة في ميسان، اسمه سيّد مهدي دهلة الشرع، عمل مصوّراً وعلّمني المهنة، فجهزتُ مختبراً للتصوير في بيتي لإشباع هوايتي فقط. قلتُ للسيّد مهدي: حسرتي لا تفارقني على صورة لمسعود.. أريد له صورة بأي حال، ليس لأني أعشق غناءه فقط، ولقناعتي أنه شخصيّة عامة وفنّان ترك بصمته الساحرة في قلوب الكثيرين جداً من العراقيين، فنّانين ومتلقّين.

الخطوة الأولى

بدأت الخطوة الأولى لصورة العمارتلي المفترضة من صورة لچلوب دهش، المطرب الزنجي الذي رافق مسعود وجايله. لم ينس صديقي سيّد مهدي دهلة حسرتي على الصورة، فاتصل بي ذات يوم وقال: سأحلّ لك مشكلتك، هناك امرأة زنجيّة صديقة لأمّي وتزورها بانتظام، فيها شبه كبير من مسعود بناء على الأوصاف التي ذكرها المرحوم كريري. وفعلًا التقط سيّد مهدي صورة لصديقة أمّه، وتمّ توليف وجه المرأة الزنجيّة مع صورة چلوب دهش. وأعطاني ثلاث نسخ منها.

الخطوة الثانية

ثمّ جاءت الخطوة الثانية، وقد تمّت في بيتي، وتمثّلت في استخدامي للإبرة والموس كي أُظهر النكراش والشرم على وجه مسعود. لقد بذلت جهوداً وصبراً كبيرين لأحظى بصورة طبيعيّة قدر المستطاع. واتجهتُ نحو صديقي المصوّر الشمسي في العمارة، واسمه قاسم البهادلي، ليلتقط صورة للصورة التي أعددتُها، فزوّدني بصور ربع بوسكارد، بعد أن تعمّد إبقاءها في المثبّت الكيمياوي مدّة طويلة طمعاً بإضفاء الاصفرار الموحي بالقِدَم عليها وهكذا شاعت الصورة بعد أن اكتملت ونُشرت مع الملف الموسّع في العدد 77 من مجلة فنون عام 1980. غير أن أبرز ما يُسجل على الصورة من اعتراض هو أن مسعود مات وعمره في أعلى تقدير 47 عاماً، في حين أن الصورة تبدو لشخص أكبر من هذا بكثير، ومع هذا فهي الأقرب للتصديق والقبول. وبهذا انتهى حديث الموثّق الجنوبي الجويبراوي .

سأستعرض في أدناه الفرص الكثيرة التي ضاعت لالتقاط صورة لمسعود:

كان قدومه الأول إلى بغداد في العام 1925 بصحبة المطرب الكبير عيسى بن حويلة الذي تولّى مهمّة البحث عن الأصوات الجميلة لغرض استقدامها إلى بغداد لتسجيل الأغاني لكبريات شركات التسجيل الصوتي آنذاك، المحليّة منها والعالمية. وقد عرفتُ أن من ضمن إجراءات شركات التسجيل أن تقوم بتصوير المطرب. هذه إذن واحدة من الفرص السهلة لالتقاط صورة لوجه مسعود. كان مسعود قبلها قد أحيا الكثير من الوصلات الغنائيّة في مقاهي العمارة بعد أن هرب من “الشعبة”، أو “أم الطوس”، القرية التابعة لمسيعيدة، طمعاً بحرّيته التي يعشقها بعد أن علم بإصرار الشيخة “فتنة” زوجة الشيخ محمد بن عريبي على تزويجه “بوصفه أنثى” من أحد حوشيّتها. وسكن بشكل أوليّ قبلها في بيت أخته بالرضاعة في المجر الكبير. وقد استنجد بالشيخ محمّد كي ينقذه ويضمن له حرّيته، فغنّى واحدة من أجمل بكائياته وهي أغنية “خويه محمّد يا محمّد”..

بعد افتتاح دار الإذاعة العراقية في عام 1936 قدّم مسعود فيها وصلات غنائيّة حيّة. كم هو عدد المرّات التي قدّم فيها وصلاته من الإذاعة؟ لا علم لي بذلك، لكنّ الملاحظ أن هناك مطربين ريفيين آخرين تردّدوا على دار الإذاعة للسبب نفسه، ولهم صور، كالفنانة سليمة مراد وحضيري أبو عزيز وداخل حسن وغيرهم كثير. هذا غير أنه سكن في بغداد في منطقة الرحمانيّة في الكرخ لمدّة ربما لسنوات طوال. ومع هذا لا صورة له. سافر مسعود في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، أو في بداية الأربعينات، إلى حلب السوريّة، ومنها إلى لبنان، وسجّل مجموعة من أغانيه هناك، من بينها أغنية “مطبّر يا خويه مطبّر” التي يقول أحد دارمياتها: آنه بجبل لبنان وتهمل يا عيني… كل اهله وادي الشوف ما تسلّيني.. فإن كان سوء الحظِّ حاضراً في العراق مع صورة لمسعود، فهل كان حاضراً في سوريا ولبنان أيضاً؟ وأخيراً

من المعروف أن البريطانيين نقلوا ما لا حصر له من الوثائق عن العراق حين غادروه عائدين إلى بلدهم بعد نهاية احتلالهم وانتدابهم له. قد تكون صورة مسعود واحدة من هذه الوثائق. لذا، لا نحتاج إلّا للقليل من الجهد الدبلوماسيّ عسى أن نعثر عليها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here