أي رابطة بين النغم والسياسة؟

بدور زكي محمد
كاتبة عراقية

كلما اشتدت وتائر النزاع، وتعالت أصوات المطالب، فحار الحق أين يحط برحاله، أجد نفسي ميّالة للبحث عن ركن لا يصلني عنده ضجيج السياسيين، قد يكون في زاوية من التاريخ، أو في سيرة محببة، أو في الإصغاء للحن يغريني بالذهاب مع شجاه إلى منتهاه، فأتابع نقلاته وترجيعة الأسى في انعطافاته.
ذلك ما أخذني الخاطر إليه وأنا أستعيد كلمات الشاعر الكردي العراقي يونس روؤف الملقب بالعاشق (دلدار)، الشاب المثقف الذي لم تمهله أقداره ففارق الحياة في ثلاثينه (1918- 1948)، وترك قصائد لشعب كردستان في مواطن شتى، ومنها قصيدته “أيها الرقيب” التي أحبها الكرد وصارت نشيداً قومياً لإقليمهم، وكانت صرخة في عتمة السجن، من قلب يشتاق للحرية، لذلك جاءت بكلمات تمنح الكرد أملاً وتذكرهم بأنهم ” أحياء أحياء” وأن “دينهم وإيمانهم هو الوطن” وأن لا يحق لأحد أن يتنكر لحقهم في الحياة، فهم ” أبناء الميديين وكي خسرو” وأن لهم تاريخهم كغيرهم من الشعوب. ذلك الخطاب كان في زمن الظلم وطي الحقوق.

وبينما أنا أستمع للنشيد شجي اللحن فكرت بسؤال بدا لي في محله؛ ماذا كان سيقول دلدار لو امتد به العمر إلى زماننا، ورأى ما رأينا من مكاسب تحققت للكرد في العراق منذ مشارف التسعينيات وحتى تاريخاً ليس بالبعيد قبيل صيف حزيران الحارق من العام 2014؟ وكيف كان سيخاطب الرقيب الكردي (السيد البارزاني) ؟
هل كان سينصحه بالتروي في مطالبه، وأن يكتفي بما منحته له الدولة الفيدرالية التي شارك بوضع أسسها؟ ولعله كان سيهمس له: سيادة الرئيس، حذار من المضي في الإستفتاء، فهو باب لا تُؤمن رياحه العاصفة، وما استوليت عليه من أراضٍ سُمّيت بالمتنازع عليها ستصبح في خطر إن أنت غامرت باستفتاء أهلها!! لا أعرف مدى وجاهة هذا التصور، لكن هذا ما خطر لي عن شاعر رحل في ريعان شبابه، وكان تربى في أسرة متعلمة واهتم ببناء ثقافته، ثم قادته هموم الناس إلى دراسة القانون، ليحصل لاحقاً على شهادة الحقوق من بغداد، شاب لم يتلوث ضميره لا بالاعيب السياسيين وتجّار الحروب، ولا بمكر الإقطاعيين أو بشيئ من قصور بصيرتهم.

للعرب والكرد في العراق تاريخ يصعب نسيانه، ومحطات للفرح والإحتفال، في أعياد نوروز، وعبر أصوات سكنت في ذاكرتنا، ومازال صداها حياً، وإن بدا خافتا لدى جيلين من الشباب لم يعرفا غير الحروب والاستبداد وعتمة الضمير لدى الحكام الجدد. وكيف لا نذكر أحمد الخليل حين تغنى: هاي خوتنا وتاريخ انكتب النا حافل بالمجد والتضحيات … ها الوطن شركة لكراد وعرب… حلوة مرة اثنينا نعيش الحياة، قلوبنا تخفق سوا جنوب وشمال، شراكة كان أعلنها الزعيم عبد الكريم قاسم لأول مرة، لكن الشريك الشمالي نسى وأعلن الحرب، بعد ان أسكت عازف الناي وصمّ أذنيه عن أنين الربابة في الجنوب.
وكمثال على شراكة السيد مسعود، تصريح له منذ فترة طويلة؛ بأنه إذا ما حدثت حرب طائفية في العراق، فإن ذلك لن يعنيه في شيء، أي ليذهب المتحاربون إلى الجحيم، فهو ليس شريكاً في مِحن العراق بل في ماله فقط!!

ولا أريد في هذه السطور أن أكرر الكثير مما كتب عن غربة البارزاني عن كل ماهو عراقي غير الثروة، لذلك أعود إلى خاطرتي عن الشاعر دلدار وأكاد أسمعه يعاتب الرئيس المستقيل ويقول: أكانت تضحيات الشباب من أجلك؟

أنا لم أكتب قصيدة لك، ونشيدي انطلق من عمق المأساة، حين لم تكن هناك حقوق ولا إقليم لديه نفط وسجادة حمراء، ها أنت تصبح الرقيب على شعبك، لقد “انتفض شباب الورد مثل السباع ليسطروا بدمائهم تاج الحياة” وكانوا حاضرين دوماً ليفتدوا الوطن الذي لم يكن لديه خارطة وما من أحد كان يلتفت إلى أبنائه المظلومين، فما بالك أيها الأمير تصارع شركائك بعد أن صارت لك قنصليات في معظم دول العالم، كيف تجرؤ على جر الكرد إلى الحروب بعد نعموا بالأمن وصارت عاصمتهم أجمل من بغداد وتطاول فيها البناء ليعانق السماء؟

وحين لم يجب الأمير على العتاب وأنذرت ملامحه بالعقاب، غاب دلدار ليعود إلى عالم تركه كان يزهو بمجد النضال، فلم يعد يحتمل مشهد خشوع الطبقة الحاكمة حين يُعزف النشيد الوطني لكردستان، غابت النغمات وتبدد الحلم. إن الحلم الكردي الذي كثر الحديث عنه حق مشروع، لكنه حين يتحول إلى طموح في ذهن حاكم أو دكتاتور، وينطوي على إنكار لحقوق الآخرين، يصبح وبالاً على أي شعب. والحقيقة إن أسوأ ما في مسيرات النضال نهاياتها على كراسي الحكام، بعد أن يتحول القادة إلى رموز يُحرّم المساس بها، وتغيب نغمات النشيد في ذاكرتهم فلا يبقى سوى ضجيج الغرور.
تحيرني صرخة الثورة في عمق القصيدة، وقول الجواهري: “حب الحياة بحب الموت يغريني”، وأجد في النفس قناعة بعد كل ما عبرته الشعوب من انهار الدماء، إن الحياة أغلى من الأرض، وأن قبضة حكم الثائرين تشرعن إراقة الدماء، حتى دماء رفاق السلاح ، فكم آلاف من الكرد قُتلوا بأيادٍ كردية، والثورات العظيمة كثورة أكتوبر الروسية فتحت شهية الدماء لدى القادة فاغتال ستالين جمهرة من رفاقه، ومئات الألوف من الفلاحين …، وقبله لينين صادر كل مآثر المناضلين ليُخلد اسمه، ووقع أحكاماً بإعدام خصومه وهو على فراش الموت.

ومع ذلك مازال النغم يغرينا فنسمع صوت ماري ماثيو تتغنى بنشيد الثورة الفرنسية ونبض الحماس يحجب ظلال الأرواح الصاعدة من أجسادها: “إلى الأمام ولنجعل الدم النجس (للأعداء) يُراق كالماء في ترعنا”. وقد لا أكون مبالغة لو قلت أن ما من ثورة إلا وكان محركها طموح للزعامة والتسيّد على الناس، طموح تهون معه الدماء، وحتى لو لم يكتب لها النصر فالقائد يصبح رمزا والضحايا يذكرون كأرقام فقط.

قد لا يتفق معي كثيرون، لكنها أفكار تعبر الذاكرة وتقطعها الأخبار بين الحين والحين، مرة عن قواتنا الإتحادية وهي ترابط في مواقع النزاع والخطر، ومرة عن مزايا الإتحاد في حديث مطول لصديق يشرح لي محاسن النظام الفيدرالي، ويقول في الوقت نفسه إن الشركاء في الإقليم لم يؤمنوا بهذا النظام لأنهم كانوا مستقلين فعلاً… ومرة حديث آخر لصحافي عبر قناة الحرة، يقول ما معناه بأن كل المشاكل التي حصلت للعراق منذ العام 2003 كانت بسبب سوء التعاطي مع القضية الكردية!! لم يكمل كلامه فقد نبهه مقدم البرنامج إلى انتهاء الوقت، أو ربما لأنه صُدم من رأي ضيفه.
مللت السماع وأعياني القلق على مصير الجنود بعد كل ما لاقوه في الحرب على داعش. عدت إلى التجوال بين نغمات الأوطان فوجدت في نشيد روسيا ضالتي، فليس فيه إشارة للدماء، فالشباب يرفعون الهتاف من أجل روسيا ” بلادنا المحبوبة، كوني عظيمة باتحادك القديم مع الشعوب الشقيقة … نحن فخورين بك، من البحار الجنوبية إلى القطب، غاباتنا مزدهرة … “. وتذكرت حينها ما كان العراقيون يتغنون به: ” من تهب أنسام عذبة من الجبال، على ضفاف الهور تتفتح قلوب، لو عزف على الناي راعي من الشمال، على الربابة يجاوبه راعي الجنوب”.

اللحن باقٍ في عمق الذاكرة، لكني تذكرت مقالاً لكاتب عراقي أفسد عليّ سلام اللحظات، فقد كتب في العام الماضي، استناداً إلى تقرير لخلية الإعلام الحربي، عن وقائع مؤلمة حصلت لجنود عراقيين قادمين من قرية مهانة التابعة إلى مخمور في محافظة نينوى، على أيدي عناصر من الأسايش في نقطة تفتيش عند جسر على نهر دجلة، ضرب وتعذيب وكلمات بذيئة … ، قال آسفاً: ” أي ربابة وأي ناي!! ثم حمد الله لأن الشاعر زاهد محمد الذي كتب أغنية “هربجي كرد وعرب”، والصوت الذي صدح بها، كلاهما غابا عن دنيانا وإلا كانا سيحرجا.
تساءلت؛ ماذا سيحصل لو انفلتت الأحقاد؟ لكني عدت لأطمئن نفسي وتذكرت نشيد الإتحاد الروسي مرة أخرى وقد راقت لي كلماته: ” … كوني عظيمة يا بلادنا، مساحات واسعة للأحلام والحياة مفتوحة أمامنا للسنين القادمة… ” .
وتمنيت أن يترسخ بنيان الإتحاد بين العرب والكرد، وتزول الألغام من الدستور، وتكون دولتنا قوية فعلاً ليكون الإتحاد حقيقة، ويكون للشراكة معنى واحترام، لا مكان فيها لاقتناص الفرص وفرض الأمر الواقع. وتمنيت أيضاً أن يتغير نشيدنا الوطني فقد قاربت قصيدة موطني عامها الثمانين، وتغيرت الأحوال، كما أنها ليست عراقية، ولابد للعراق من لغة واضحة وحميمة تعبر عنه، بعيداً عن الفخر بالأمجاد الزائفة.

لندن في 04-11-17

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here