كيف تطور الأنسان ؟ ح 14

(*)
د. رضا العطار

من السهل ان يرى الأنسان في تقاطيع وجهه وتقاسيم اعضائه وفي طوله ومزاجه شيئا كثيرا مما ورثه عن ابيه. ويرى ايضا في شكل اعضائه صلة الاشتراك بينه وبين جدوده الأقربين وان كانت هذه الصلة اضعف مما هي بينه وبين ابويه.

ونظرية التطور لداروين تقول بأن الأحياء كلها تشترك في اصل واحد، هي الخلية الأولى التي ما زلنا نرى مثالا لها في الأميبة. فإذا صحت هذه النظرية وجب علينا ان نرى آثار الأحياء القديمة التي مر فيها الانسان منذ بدأ تطوره حتى صار بحالته الراهنة. وبديهي اننا لا ننتظر ان نرى هذه الاثار ظاهرة قوية، اي بقوة ما نرى من الاثار التي يتركها الأب للأبن. فآثار الوراثة تضعف وتكاد تتلاشى بنسبة بُعد الفرد الذي نرث منه شيئا في جسمنا او ذهننا، وعلة هذا الضعف ليست بسبب تقادم الزمن وانما نتيجة تعاقب الاجيال، فيطبع كل جيل سماته الخاصة في نسله بحيث تظهر هي وتتنحّي سمات الاجيال السابقة.

فالأنسان في مقارنة كفاياته الوراثية اشبه ما يكون بالبصلة. اظهر ما فيه من هذه الكفايات ما ورثه عن ابويه ثم تتستر طبقة وراء طبقة وتتضائل حتى تصل الى عهد الخلية الاولى التي نشأ منها جميع انواع الكائنات الحية ومنها الانسان. فعمر الانسان الحقيقي لا يبتدئ من يوم خروجه من رحم امه بل من عهد ظهور الخلية الاولى اي ان عمره الحقيقي يقدر بمئات الملايين من السنين.

وفي جسم الانسان ما يدل على اتصال الحياة بيننا وبين الخلية الأولى. فبناء جسمنا مثلا من خلايا لا يختلف في شئ من اصول الحياة عن خلايا الخمائر او عن الاميبة، بل خلية اجسامنا لا تختلف من هذه الوجهة عن خلية اجسام النبات، ونحن ننمو كما تنمو خلايا جميع الاجسام الحية.
وفي اجسامنا اعضاء أثرية لم تعد لها فائدة وقد كانت مفيدة في وقت ما عندما كنا نعيش عيشة بهيمية، اي على الاعشاب. ومن هذه الاعضاء الأمعاء القصيرة المسماة بالمصران الاعور او الزائدة الدودية. فهذا العضو كان قبل ملايين السنين مستطيل الشكل كبير الحجم كما هي الحالة عليه في الحيوانات التي ترعى على الاعشاب وهو يفيدها في إحالة المادة الخشبية الموجودة في الاعشاب الى سكر تهضمه امعاؤها.
اما الان فقد تغير طعامنا ولم يعد لها فائدة ولذلك ضمرت وضعفت تجاه مقاومتها للأمراض وكثيرا ما تكون لذلك سببا في التهابات مؤذية تحتاج الى مداخلة جراحية لأستئصالها. ولو كانت مفيدة لنا لكان استئصالها مضرّا.

واذا اعتبرنا نظام جسمنا وتركيب اعضائنا وجدناهما لا يختلفان عما هما عليه في الحيوان مع اعتبار الاقرب في النسب الذي يكون على الدوام اقرب في المشابهة.
فنحن نهضم الطعام كما يهضمه الحيوان ولنا من الغرائز الاصلية مثل ما له ومادة اعصابنا هي نفسها مادة اعصابه من حيث التركيب. وعلى هذه المشابهة بل القرابة امكن التعالج بأعضاء الحيوان. فنحن نتعالج بالغدة الدرقية المستخرجة من الفرس اذا ما نضبت غدتنا ونحن نتعالج بأفرازات غدد البنكرياس المستخرجة من العجول اذا ما اصبنا بمرض السكر. فلو لم نكن نحن والفرس والعجول من اصل واحد، تجري اجسامنا جميعا على نظام واحد لما امكن التعالج بهذه الاشياء.
( المعلومات الطبية هذه تعود للنصف الاول من القرن العشرين – كاتب السطور )

ثم اعتبر يد الانسان وقدمه وفي كل منهما خمسة اصابع. وفي طرف جناح الدجاجة وزعنفة القيطس على الرغم من الأندغام خمسة اصابع ايضا. دع عنك ان جميع الزواحف واللبونات لها ايضا خمسة اصابع في كل يد، فنحن نشترك وآلاف الأنواع من الأحياء في هذه السمة، ألم تكن هذه وحدها كافية لأن نعتقد اننا من اصل واحد ؟

فحياة الجنين في الرحم تمثل لنا تاريخ نوعنا وتدرجه من الخلية الاولى التي نشأت اول مرة حتى صارت بعد ملايين السنين انسانا، فالخلية المنوية المخصبة الأولى تأخذ بالأنقسام والزيادة على نحو ما تفعل الخمائر. ثم يتخذ هذا الجسم هيئة العلقة ثم تظهر له خياشيم كما في السمك ثم تبرز الأيدي والأرجل ثم ينبت للجنين شعر يجعل جلد الجنين كجلد البهائم ثم يزول، وينمو له ذنب طويل ثم يضمر ويزول كذلك.

فالأنسان وهو في طور الجنين يمثل الاطوار التي مر عليها اسلافه الاولون منذ نشوء الأحياء على الأرض، وذلك لأن في كل منا ذاكرة غير عقلية لا نشعر بها كتلك الذاكرة التي تهضم طعامنا، فعملية هضم الطعام تجري خارج ارادتنا، فهي غير عقلية لكنها اتقنت عملها حتى اصبحنا لا نشعر بوظيفتها .

هذه الاطوار التي يتطور فيها الجنين في بطن امه تتفق ونظرية التطور وليس فيها اختلاط او تشويش، والقائلة بان الأحياء نشأت في الاصل في الماء تستنشق الهواء عن طريق الخياشيم، وبعد ان زحفت الى اليابسة، نشأت لها الرئتان. فحياة الجنين صورة مصغرة لحياة الانواع التي سبقت ظهور الانسان.
وحياة الطفل تبصرنا بشئ كثير من حياتنا في العصور الماضية قبل ان نبلغ مرتبة الانسانية فهو يولد ويبقى مطروحا بهيئة سمكة مدة طويلة ثم يزحف ويتسلق كبهيمة ذي الاربع واخيرا ينتصب واقفا، وفي فلتات الطبيعة ما يظهرنا على اصلنا فكثيرا ما يولد انسان وهو مكسو بالشعر او ابله له عقل حيوان واحيانا يولد وله ذنب كما ظهر حديثا عند مولود في الهند لكنه انضمر عندما بلغ الطفل السنتين.

وليس معنى ما تقدم ان كل ما فينا ورثناه عن جدودنا، لأنه لو كان الأبن ينشأ على غرار ابويه تماما لما حدث التطور مطلقا فإن الطبيعة لن تخرج الحي من قيد الوراثة وكأنه يجد في تحقيق ذلك خلق شخصية مستقلة بفعل الطفرات الجينية. ونحن ورثنا عدة غرائز من الحيوان بعضها نافع وبعضها مضر وكل من حاول منا ان يربي نفسه ويسيطر على اهوائه ويكبحها يعرف مبلغ ضرر هذه الغرائز وقوتها، ونحن حين نحاول تأديب انفسنا انما نصارع آثار هذا القرد الذي لا زال حيا فينا، ومعظم المجرمين والبله والمتخلفين قد انتصرت فيهم غرائز القردة. ومعظم الأنبياء والفلاسفة والحكماء انتصر فيهم عنصر السبرمان ( الانسان الاعلى ) .
فليس فينا خصال قرد خالص كما ليس فينا صفات انسان خالص وانما في كل فرد منا مزيج من الأثنين. وعلى مقدار حيازتنا على الثقافة الرشيدة والتربية الدينية، تتوقف درجة رفعتنا وارتقائنا.
الحلقة التالية في الاسبوع القادم !
* مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here