هل العجز المالي في ميزانية الدولة العراقية يدعو الى القلق؟

محمد رضا عباس
لا داعي الى القلق من ظهور العجز المالي في الأمد القصير في ميزانية الدولة العراقية. لان العجز المالي مرغوب به في أوقات التراجع الاقتصادي , لان التراجع الاقتصادي و غياب فرص العمل لا يمكن إصلاحه الا عن طريق السياسة المالية , وذلك عن طريق زيادة المصاريف الحكومية و من خلال الاقتراض . على سبيل المثال , ان الواردات المالية للحكومة العراقية المتوقعة لعام 2018 ستكون 85 ترليون دينار , بينما من المقرر ان تكون المصاريف الحكومية هي 108 ترليون دينار , وبذلك تكون ميزانية الدولة في حاجة الى 23 ترليون دينار لتعادل نفقاتها مع ايراداتها. بعض السياسيين , الذين يريدون الكسب السياسي سوف يجعلون من العجز المالي مناسبة نوح وبكاء على البلد كذبا وزورا , لان يجعلون من هذا العجز قضية فساد مالي و سوف يتهمون فلان وعلان على هذا الفساد , ولو كانت الحكومة حكيمة و نزيهة لما ظهر هذا العجز المالي. بالحقيقة ان النائب حسام العقابي ذهب الى ابعد من ذلك , حيث يصرح ويقول ان العراق ليس بحاجة للقروض المالية , لان القروض تكلف العراق 7 ترليون دينار سنويا كفوائد . نقول لسيادة النائب , كيف ستقدر الحكومة على دفع رواتب الموظفين والصرف على البناء والتعمير ؟ و اذا سمعت الحكومة الى نصائحك , من الذي سوف يتحمل دفع رواتب واجور ثلاثة مليون موظف حكومي ؟ هل من المعقول تعطيل عمل الحكومة بحجة كلفة القروض؟ يا سيادة النائب، تحتاج الى قراءة أي كتاب اقتصادي للمرحلة الأولية وستعرف حجم الخطأ في تصريحك هذا.
لا تصدقوهم , لان العجز المالي يصيب جميع الدول , الغنية والفقيرة , الصغيرة والكبيرة , الصناعية والزراعية . بالحقيقة ان الدول الغنية هي الأكثر تعرضا للعجز المالي , لان مواطنيها ليسوا مثل أولاد الخايبه , لا يسكتون عن المطالبة بتوفير فرص العمل , واذا لم يستطع رئيس الحكومة عمل شيء لهم يخسر وظيفته ومستقبله السياسي. اصل العجز المالي , في اغلب الأحيان , التراجع الاقتصادي والذي ينتج منه انخفاض في حجم الإيرادات الضريبية . لان الذي لا يعمل لا يدفع ضريبة , بل يستلم مساعدات مالية من الحكومة لتمشية حاجاته وحاجات عائلته , وعندما يكون اعداد العاطلين عن العمل بالملايين , فان خزينة الدولة تخسر بالمليارات , وما على الحكومة الا الاقتراض الداخلي و الخارجي من اجل التعويض عن خسائرها في تغطية مصاريفها . وعليه , عندما تقترض الحكومة الأموال من الداخل والخارج ليساعدها على الصرف , فان هذه العملية قد تؤدي الى بعث الحياة الى الاقتصاد الوطني من جديد .
هنا المخاطر المحتملة للعجز المالي . في كثير من الحالات , ولأسباب سياسية , لا تقوم الدولة بإرجاع ديونها وقت الوفرة والخير . في النظم الديمقراطية , قد يستطيع مكون معين او حزب معين كبير فرض ارادته على الحكومة من اجل انفاق المزيد من المصاريف الحكومية بحجة خدمة مدينة او منطقة معينة , بدلا من تسديد الدولة ديونها. على سبيل المثال، ان اهل الغربية يمرون بأقسى الظروف المعاشية بعد ان دمر داعش مدنهم وبيوتهم وخسروا أعمالهم. يستطيع قادة اهل الغربية السياسيون ان يضغطوا على رئيس الحكومة حيدر العبادي توجيه نسبة كبيرة من حجم الميزانية المقررة لعام 2018 الى المنطقة الغربية من اجل إعادة بناءها , ولكن المشكلة الأولى ان قادة اهل الغربية متنازعون متفرقون لا يطيق احدهم الاخر , إضافة الى ذلك لا توجد وفرة مالية جديدة في ميزانية 2018.
وعليه فان تمويل العجز المالي عن طريق الاقتراض الداخلي او الخارجي ظاهرة صحية , بل مرغوبة حتى يتجاوز الاقتصاد الوطني محنته. ولكن لا يجوز ان يبقى العجز المالي الى ما لا نهاية , كما يعيشه الاقتصاد الأمريكي , الذي لم تشهد الميزانية الفيدرالية الا خمسة سنوات من الوفرة المالية في الخمسين سنة المنصرمة , واصبح الاقتصاد الأمريكي عالة على العالم واصبح المواطن الأمريكي يعاني من تقادم البنى التحتية للبلاد لعدم تمكن الحكومة الفيدرالية الصرف عليها . وعليه , فان الرسالة للحكومة العراقية هو ان العجز المالي مقبول في الوقت الحالي , ولكن يجب ان لا يكون عادة , كلما تخفق الحكومة من الانعاش الاقتصادي يهرولون الى المقرضين .وبناء على ذلك , ومن اجل منع الحكومة من الاسترخاء , على البرلمان العراقي ان يحدد للحكومة نسبة معقولة من القروض قياسا للإنتاج الوطني , كان تكون 55% او 60% من اجمالي الإنتاج الوطني , وصدقوني سوف لن يجرأ احد من السياسيين ليكون رئيس لمجلس الوزراء خوفا من تجاوز النسبة.
لقد حددت نسبة بين 55%و 60% حتى تعرف الحكومة قدرتها على الاقتراض والعمل الجاد من اجل انعاش الاقتصاد الوطني بدون قروض كبيرة , مع العلم ان حتى وصول النسبة الى 100% في وقت الحاجة سوف لم يشكل مخاطر على المستقبل الاقتصادي . العراق بلد غني ولديه الامكانية لتسديد جميع القروض المترتبة عليه , خاصة وانه يملك ثروات طبيعية هائلة غير النفط. ولكن الخوف هو التمدد بالاقتراض من الخارج من اجل ترميم الميزانية وعدم الاكتراث بتطوير الاقتصاد الداخلي , و بالنتيجة يضطر العراق بدفع فوائد كبيرة على القروض بدلا من انفاقها داخليا على بناء الطرق والجسور , الاصلاح الزراعي تأسيس شبكات توصيل ماء السقي الى الأراضي الزراعية , توفير السكن للفقراء, تحسين الخدمات الصحية و جهاز التعليم , و توسيع وتطوير المطارات المدنية و موانئ الشحن البحري و الاف أخرى من الخدمات يحتاجها العراق الان وفي المستقبل . وحتى لو افترضنا ان الحكومة العراقية تستطيع تمويل عجزها المالي من خلال الاقتراض الداخلي , فان هناك احتمالية الى ارتفاع نسبة الفائدة على القروض , وبالتالي تحرم القطاع الخاص من الاستفادة من القروض , لان ارتفاع نسبة الفوائد على القروض لا يجعل اعمال القطاع الخاص مربحة. إضافة الى ذلك , فان اقتراض الدولة من المصادر الداخلية سوف تزيد الفجوة المالية بين الفقراء والاغنياء , حيث يصبح الأغنياء اكثر غناء والفقراء اكثر فقرا . والأخطر من كل ذلك , فان تراكم الديون على البلد سوف يؤدي الى انهيار قيمة الدينار العراقي وارتفاع نسبة التضخم المالي في البلاد , وهي حالة سوف تؤثر سلبا على المستوى المعاشي للمواطن العراقي , وخاصة الطبقة الفقيرة منه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here