الفجــــر يولــــد مــــن جديــــــد

نبيــــل عــــودة

نكبت حارتنا بامرأة حل لطف الله عليها، تخرج كل ليلة صارخة شاتمة متوعدة وأهل الحارة في نومهم العميق .. لا تبقى ولا توفر احدا، توجه اقذع الشتائم وتقذف التهديدات بأن “تفعل وتترك” بنساء الحارة ورجالها، يتطاير الزبد من شفتيها في نوباتها الليلية العصبية .. وكثيرا ما تلوح بسكين مطبخها متوعدة مزمجرة، مما ترك توجسا في نفوسنا بان ترتكب حماقة على حين غفلة.
الحق يقال ، ان اهل حارتنا يؤذيهم حالها البائس ويريدون للطف الله ان يطولها مرة اخرى بمؤسسة ترعاها، علها تعود الى كامل وعيها وتصبح واحدة منا وفينا، تغرق مثلنا في النوم حين يحين زمنة السلطاني، تستيقظ ليومها الجديد بنشاط وأمل، تبادلنا ونبادلها التحيات والاحاديث والعلاقات الطيبة المرجوة بين الجيران وسننسى ايامها السوداء التي أطارت النوم من عيوننا وعيون اطفالنا بصراخها المؤذي وبشتائمها المدوية في سكون الليل وبعربدتها المنفلتة على رجال الحارة ونسائها، لانهم يتنفسون نفس الهواء الذي يصلها ويلاطفهم نفس النسيم الذي يرطب قيظ الصيف في بيوت الجميع، او يرى الله بها امره رحمة لها ولنا، فهو الرحيم وهو السميع .
تلك المرأة والمتلطف بها، كما يفكر البعض .. ولا اقول هذا على ذمتي او مسؤوليتي ، حتى لا اتحمل وزر الخطيئة، انما انقل ما يدور وليس في ذلك ما يدل على اشتراكي بما يفكرون .. بان الله يحمل اثم تصرفاتها المنفلتة، اذ اختصها بلطفة وبتنا عاجزين عن فهم وتعليل ألطافة التي كثرت واتسعت مع تزايد شتائم جارتنا وصرخاتها المدوية في منتصف الليل. فهمنا انها تتهمنا بتنظيم اعتداء عليها، واننا نجمع القمامة ونفرغها امام منزلها، واننا نصطاد الذباب والهسهس ونجمعه ونطلقه في محيط بيتها، واننا نمارس السحر لتبقى الدنيا سوداء في وجهها، ونتآمر لنسرق الورود التي لا تألو جهدا، رغم لطف الله بها .. على رعايتها بحنو واكثارها .
كثيرا ما اصابتنا الحيرة من عقلها الشائط في علاقاته مع اهل الحارة والجيران الاقربين خاصة .. وقدرتها العجيبة في رعاية الورود، تخصيبها واكثارها .
الحقيقة، لولا عقلها المصاب بلطفة، دام مجدة في عليائه، لما تردد احد في التقرب والتعلم والاستفادة من خبرة جارتنا في تنمية الورود، بل ودعوتها اهلا وعلى الرحب والسعة في بيوتنا، بعد ان يعود عقلها الى مخدعه ويتستر لسانها بمأمنه.
للتاريخ اقول ان جارتنا نزلت علينا في يوم غائم … لا يدري احد كيف تم هبوطها ومن اين مصادرها لامتلاك بيتها الكبير ذي الساحات والمشارف والاحواض، قارن البعض هبوطها بالهبوط الناجح على القمر .. غير ان هبوط القمر له مصمموه ومطلقو آلاته، اما هبوطها فلم يعرف اصلة ووسائله، لا مبتدأه ولا خبره، انما اضحى حقيقة نعايشها بقبول وتوجس بالا تكون وراء جارتنا سيرة لا تطمئن البال ولا تضيف لبيوت الحارة كرامة وصونا للشرف.
كان واضحا ان هبوطها في حارتنا هو شوكة تزداد انغراسا مع الايام، رغم الورود المنماة في الاحواض والشرفات، الا ان الاحساس يحمل توجسا لا تفسير ظاهر له وقلقا من آت مجهول، قد لا يتناسب مع حارتنا واخلاقنا وقيمنا وحسن سيرتنا، قد تواصل ازعاجها وزعيقها المؤذي وحرماننا من النوم الهانئ واقلاق راحة بالنا.
ما لفت انتباهنا وحيرتنا مثولها امامنا ببشاعة لم ينتظرها أحد من الخالق في خلقة، الذي قيل لنا في صغرنا بان صناعته في منتهى الكمال والجمال والاتقان، فهل كانوا يكذبون علينا؟! ماذا يستفيدون من اخفاء الحقيقة ؟! او هي محاولة لتجربتنا في ايماننا بقدرته ومشيئته سبحانه في عليائه؟! كيف نرى الجمال في كل ما نرى؟ هل ابقت جارتنا شيئا من دلالات جمالها؟! ترى ما الذي يمسخ سحنتها في عز الليل ويحيلها شرسة تزعج راحتنا ونومنا الهنيء، تصليه على نار كلماتها النابية والمؤذية؟
كنا نتأمل ونتعجب ونناشده سبحانه .. ان يحل بنا مزيدا من الصبر والتقوى وان لا يجربنا بجارتنا، أقمنا له الدعوات ان يبرد غيظها غير المبرر، يطفئ حدتها الملتهبة، يخفف انذاراتها لنا بالثبور والدمار، ان يسقط الغشاء عن عينيها علها تبصر نوايانا الطيبة ويرتد لها عقلها ، ان يطمئن بالها ويزول كربها وزعيقها فننعم بغفوة آمنة اشتقنا لها وافتقدناها منذ ابتلينا بها .
سبحانك في علاك، لا يتم امر الا بمشيئتك، لا يرى النور انس او جان الا بإذنك ، رحمتك يا قدير ، حنانك يا غفور .
طال انتظارنا للطف آخر يضاف على لطف الخالق الاول الذي انعم به على جارتنا، فيعدل ما بار في خلقها، حتى تزول حيرتنا من حديث بعض ضعاف النفوس وقليلي الايمان من اهل حارانا، انه في عليائه (المغفرة ثم المغفرة) له جولاته وصولاته، بعضها لأمر في نفسة او خارج عن ارادته كما يدعون .. لا يكتمل تجليه، لا تنتظم صنعته ويبقى منتقصا وعديم الفائدة للبشر… وان الامر يشبه سكة الانتاج، يخرج منها الصالح تماما والصالح اقل والباير كجارتنا .. لكن حيرتنا بقدرتها ، رغم لطفة النازل عليها .. على تنمية الورود ورعايتها بحب جلى واضح معظم ساعات النها، اما ساعات الليل فتكرسها لشتمنا وقذفنا بسافل الكلام وبأشد التهديدات قساوة وجنونا فكيف يتساوى الورد مع الجنون ؟!
بعض الشباب تواقحوا واعلنوا ان جنونها من جوع فرجها، اشباع فرجها يضمن صمتها في الليالي التي احالتها الى معاناة طويلة لأهل حارتنا ولكن هل هناك من يجرؤ على تطبيق هذه النظرية ؟!.
بعض الشيوخ ايقظت فيهم نظرية الشباب الفرجية، ذكريات ايامهم الغابرة، فتنافسوا في قص غزواتهم وعنترياتهم حتى اضحكوا اهل الحارة ، مسكها عليهم الشباب وتساءلوا بخبث وهزء ان كان من المعقول ان يكون لشيوخنا، الذين يدبون على عصيهم واحيانا على عصيين ، يقحون ويبصقون ويضرطون كل ساعات يومهم ، مثل هذا السجل الذي لا يخجل به اكبر ” دون جوان ” عرفته غرف النوم؟ ان كان شيوخنا الافاضل بمثل هذه القدرة التاريخية على حرث الفرج، فكيف تحول هبوط جارتنا في حارتنا بمثل هذا الاشكال وبمثل هذه الضراوة، بمثل هذا التعطش للأذى وبمثل تلك الدلالات البارزة لجوع فرجها؟! البعض سأل ما لا جواب له، لماذا يا حضرات الرواد البواسل لم تتطوعوا لإشباع جوع جارتنا قبل أن يمسها لطفه ؟!
الواقع ان الشيوخ كالشباب، استطابوا حديث الفروج، حتى زجرهم عقلاء الحي وانذروهم بالويل والثبور والحرق بنار جهنم إذا واصلوا الخوض في المحرمات والاعراض، ان الجارة، حتى الغريبة عن الحارة والدخلية على بيوتها، لها حرمتها، فنحن العرب استثنانا الله من الرذيلة، ووهبنا الفحولة لنستثمرها في العمل الصالح والمشروع بالإكثار من نسلنا وتعزيز جيوش المؤمنين الصالحين.
ان الدلالة لمصيبة حارتنا بجارتنا هي مئات التجارب التي لا بد لنا ان نقف فيها بثبات وايمان، حتى لا نسقط بالتجربة الربانية ونتحول الى عبدة الشيطان لعنة الله عليه، يجب ان لا ننسى ان لسبحانه في عليائه شؤون في خلقه، ليس لنا ان نخوض فيها حتى لا نقع بالمحظور، الله تبارك اسمة لا ينتظر اقتراحاتنا ، لا ينقصه صواب الرأي وحسن التدبير، لو شاء للطف لسانها او اخرسها، لو شاء لبعث اليها فحلا يضمها الى حريمه بدل وحدتها القاسية .. ويروضها ويشبعها فما وفرجا ، فتطيب حالها وتستقر نفسها ، لكن مشيئته لم تكن كذلك، فالحذار من الخوض في شؤونه ..
قال شاب يلوح البريق في عينيه، ان عقلاءنا زجرونا عن حديث الفروج بتهديدنا بالويل والثبور ونار جهنم وفتحوا حديث الفحول، اي اننا عدنا لنفس المنطقة المحظورة، نتداول فيها لحل اشكالاتنا، لكن لم يثبت حتى اليوم ان امة تحررت بقدرة فحولها على حرث فروج الغزاة، او ان اشكالياتنا حلت بقدرتنا الفحولية .. فهذا يعيد الحديث الى اصلة، الى نفس المناطق المحظورة التي منعنا عنها عقلاء حارتنا، هذا يثبت اننا شبابا وشيوخا حرث الزمن في عقلهم وعقلنا، مصابون بنفس الداء .. وان العقل في هذه المنطقة ، يخرج في اجازة .. ويبدو ان اجازته طالت وهي بسبب ما نعانيه من الهبوط الغريب لجارتنا في حارتنا ..
اشتدت قوه صراخ جارتنا واستمرت لزمن اطول، وصرنا نسمع عويل الذئاب بين صرخاتها وكأنها تتحول الى امرأة ذئب، وقد ارتعد الرجال قبل النساء .. التصق الاطفال بأمهاتهم رعبا، لم يجرؤ أحد منهم على عبور الشارع بقرب بيتها الا ركضا سريعا ومن الجهة البعيدة. تساءل البعض ان كانت جارتنا حقا امرأة ، ام هي فحل بثياب تمويهية بقصد الفتك بحرمات الحارة؟ اشتعلت الاضواء الحمراء، احس اهل الحارة بالخطر المحدق، قال البعض لعل المخفي أعظم وغرقنا في حيرتنا .
ربنا هبنا من لدنك رحمة وعزز ايماننا واحفظ لنا كرامتنا .
استقر رأي حارتنا بعد ان اعياها الحال وتكاثرت الوساوس والهواجس ، ان يستنجدوا بالحارات الاخرى، فالمصيبة قد تلحق بهم ان لم نتدارك الامر ونوقف الشر المتزايد .. حقا لا يمكن انكار نخوة ابناء الحارات وهمتهم المباركة، توافدوا جماعات جماعات لمد يد العون ودعمنا من الآفة المستفحلة .. بعضهم اكتفى مشكورا بالدعوات الحارة لخالق الارض والسموات ان ينصر المؤمنين الصامدين على الشر والاشرار، اقيمت الموالد في حارتنا ترحيبا بالإمدادات من اصلب الرجال .. ذبحنا الذبائح ،اكلنا ودبكنا ولوحنا بسيوفنا امام شرفتها .. رغم ذلك لا يبدو ان جارتنا فهمت ان هذه الجحافل والسيوف هي لوقف استفحال شراستها وعدوانها، بل استمرت بصراخها الليلي المؤذي مما ارهق رجال الحارات وحرمهم من الخلود للنوم والراحة، رغم ذلك لم يتخلوا عنا الا بعد ان نفذ مخزوننا من الارز والخراف، فرجع كل الى حارته معلنين بصلابة انهم على استعداد دائم، اذا ما تواصل استفحال الامر، ان يعودا من جديد لدعم صمودنا وتقوية شكيمتنا، دعوا لنا بالخير والوفاق، شكرناهم على نخوتهم وودعناهم بمثل ما لاقيناهم من ترحاب.
يبدو ان جارتنا انتظرت هذه اللحظة … بعودة الطوابير الداعمة الى احيائها، فازداد جنونها.. بدأت تخرج لشوارع الحارة وازقتها في ساعات الليل والنهار، تعترض النساء والاطفال صارخة شاتمة ملوحة بقبضتها، لم يجد البعض حلا الا مغادرة الحارة، خوفا ورعبا من اذاها، بعد ان بات واضحا اننا لا نملك ما نطعم به طوابير الدعم من الحارات الاخرى .
حقا ، اهل الحارة لم يكونوا قاصرين عن “فلخ نيعها” اما ما زجرهم فهو اباؤهم عن تلويث رجولتهم بالتشاطر على امرأة مصابة بلطف الله .
اسودت دنيانا ولم يعد لحياتنا معنى، لم ندر كيف وصلنا لهذه الحال ومن اين ابتلينا بهذا المأزق؟
حال الجارة تزداد سوءا وعدوانا وباتت البيوت التي تركها اصحابها مرتعا خصبا لانفلاتها ، كانت بلا اهل ليردوها عن غيها.
لا نعرف من اين هبطت علينا ، هل لها زوج، ام انه كان ونفق بعد ان رأى حالها ؟ كيف تصير حال كرامتنا إذا مددنا ايدينا عليها ؟!
بعض الشباب تنظموا وتسلحوا بالعصى لردع انفلاتها، الا ان كبارنا زجروهم وافهموهم ان للجار مهما استجار حرمته، فكيف والحال مع امرأة وحيدة ومصابة بلطف الله .. ؟! ادعوا لها بالرحمة ؟؟
لكن الله، سبحانه في علاه، له كما يظهر رأي مختلف، طرقه ليست دائما مفهومة لخليقته، ها هي الجارة تذهلنا وتحيرنا بوضعها مولودة في كل بيت مهجور .. ترى من اقتحمها ؟؟ وهل كان اقتحامها ميسرا؟
هل مقتحمها انس مثلنا او جن من المتحررين من اسر سليمان الملك؟! كيف لم يلحظ أحد من أهل الحارة تغير حالها وشكلها بانتفاخ بطنها؟! المذهل كان وضعها عددا من المولودات من غير المعقول ان يحمل به بطن وحيد، هل هي امرأة كما فهمنا حتى اليوم .. ام جنية متمردة من اسر سليمان الملك؟!
هل يصاب الجن بلطف الله كالبشر؟!
هل يمكن ان يشبع انس جوع فرج جنية ؟!
كيف يمكن الجماع بين انس وجنية؟!
سئلت الأسئلة وظلت معلقة في الفضاء. هل يسمح الشرع بهذا الجماع ؟! من اين لهذه الجارة هذا الخصب غير المحدود، وبهذه الكثرة المستحيلة على بني البشر؟! هل نحن امام عجيبة دنيوية لم يسمع بها احد من قبل ؟
المرعب اكثر ان المولودات شديدات الصراخ كأمهن ، فهل انتقل لهن لطف الله بالوراثة ؟! ما الحل امامنا ؟ هل نحمل عصانا ونرحل ؟!
بدأت تدور قصص تشابه الخيال بان بنات جارتنا، رغم صغرهن … يتجولن في الحارات الاخرى مطلقات صراخا ذئبيا مرعبا .. المذهل انها لم تلد اي مولود ذكر!!
بلغ الذل مداه .. وبدأ تمرد الشباب على حكم الشيوخ واتهامهم بالمسؤولية عن التقاعس ولجم الانفلات الارعن لجارتنا في وقته.
وتساءل أهل الحارة: من المتهم بإعطائها المجال الحيوي للتكاثر الغريب والمذهل وبدون الاخصاب من ذكر؟!
قال الشباب انه بلغ السيل الزبى وانهم ليسوا على استعداد ليكونوا نسخة طبق الأصل عن أهلهم، مؤكدين ان ما يجري هو تجاوز لكل مفاهيم التجارب الالهية ببني البشر، التي يذكرها علماؤنا ويلوحون بها لزجر الشباب عن غيه كما يقولون.
اعلن معظم الشباب انه حتى الكفر اكثر عزة من الذل والمهانة لكل العمر، حتى الإصطلاء بنار جهنم اكثر رحمة من الإصطلاء بشراستها واهاناتها وبالحرمان من الراحة والنوم المتواصل، التزام عدم الرد كان خطأ ، جرت نقاشات حادة ، لكن الاجيال اختلفت طرقها وقناعتها، حتى الاولاد أنصتوا لحجج الطرفين وكأنهم يفهمون ما يجري.
في فجر هادئ عليل النسيم، رائق الاشراق، وقع المحظور، كان من الرعب التفكير فيه ويبدو انه بين الرعب والجرأة شعرة معاوية وقد انقطعت.
لطفك ايها الخالق، مدد من قدرتك، مدد من رحمتك .
كان الاولاد، الذين لا يفهمون كما آمن الكبار .. في طريقهم لمدارسهم، كما في كل يوم .. وكل منهم يحمل اثقاله من الكتب والدفاتر والاقلام وزوادة اليوم. كالعادة بنات جارتنا يضججن ويعتدين على الاولاد، غير ان الاولاد هذه المرة لم يفزعوا، تسمرت انظار الحارة ولم يدروا ما يحصل .. ما هي الا لحظات حتى كانت حقائبهم بكتبهم ودفاترهم ملقاة على قارعة الطريق وفي يد كل ولد حجر وبيده الاخرى يرسم شارة النصر … كان الفجر هادئا، لكن حجارة الاولاد المنطلقة بتصميم جعلته فجرا داميا.

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here