حُب ,,,,,

نعم أشتاق، ولكن وضعت كرامتي فوق اشتياقي ………. أحمد شوقي

هكذا دائماً مع ذكرياته المتجولة معه أينما ذهب، اذ ليس بإمكانه غلق شاشة العرض حتى ولو لحظة واحدة، ولكن على ما يبدو أن هذه الذكريات هي التي تضخ في جسمه ما يحتاجه من وقود ليبقى على قيد الحياة، فحياته أصبحت مرتهنة تماماً بالماضي الذي سوف لن يعود أبداً مهما أعاد استرجاعه في ذهنه ومع كل خطوة يخطوها حتى أصبح الماضي هو نديمه الذي يسكن معه في بيته العتيق.
لم يعد محسن يتذكر متى كانت آخر مرة عرج عليه نديم، ضيفاً سكن قلبه والتحف ثناياه لأول وهلة عندما أتت به الممرضة ملفوفاً بحرام أبيض مطرز بأوراد زرقاء ناعمة فلثمه بقبلة كبيرة على خده الأيمن، هو يتذكر ذلك جيداً وكأنه حدث البارحة فقط.
” البقية في حياتك، الله يحفظ لك نديم ” قال له المعزون عندما رحلت أم نديم، رحلت من دون أن تعرف أن نديم يحبها فعلاً؟ …هل هو يحب حياته فعلاً؟ …هل هو يحب أحداً ما فعلاً؟ …
حياته كلها في الماضي، هكذا هي الأمور بالنسبة الى محسن كلها ماضي … ليس فيها حاضر، حتى بات يشك حقاً في وجوده هل أنه لم يزل في الحاضر أم أنه أيضاً في الماضي! لا… لا… يجب أن يبقى في الحاضر، وإذا أصبح هو أيضاً في الماضي فما سيكون مصير ذكرياته نديمه الذي يتجول معه في بيته … كيف يتركه لوحده لا…لا… يجب أن ينتظر أكثر، على الارجح سيأتي نديم يوماً.
سمع طرقاً على الباب ربما للمرة الثالثة هذا اليوم فأنصت ثم ربما تأكد من الطرق أو حتى ان لم يتأكد فهو يأخذ جميع الاحتمالات فسمعه يخونه شأنه شأن نظره ورجليه وكل حواسه وأعضاءه أصبحت ضعيفة ولا يثق بها … ذهب على مهل لئلا يتعثر ويهوى الى الأرض … فتح الباب ثم نظر يميناً ويساراً فلم يرى غير جاره الجديد الذي لم يتعرف عليه بعد، حياه بيده ثم غلق الباب ثانية وقال محدثاً نفسه: ربما مشغول … الحق معه فالحياة صعبة … الله يعطيه العافية ويقويه على أمور الدنيا …ليس مهماً أن يأتي، المهم أن يكون بحالة جيدة.
نظر الى الساعة المعلقة على الحائط فوق التلفاز وهي تشير الى الساعة الثانية عشرة بعد الظهر. اذاً ليعمل له غداء يلهيه ويشغل وقته به. فتح باب البراد ليرى ماذا سيأكل وهل عليه أن يتعنى كثيراً لكي يأكل! والاكل أصبح الان لديه متساوياً تماماً في الطعم والشكل، والغرض منه مليء معدته المسدودة منذ أمد لا يعرف متى بدأ ربما بعد أن اسلمت الروح زوجته أم نديم، أصبح لا يشعر بالجوع أبداً، أخذ بيضة واحدة فلمَ يتجشم عناء الطبخ لوجبة طعام جيدة! وبيضة واحدة تشبعه وأكثر ولكن عندما يأتي نديم سيعمل له كباب عروك فهو يحبه لذا فأنه يحتفظ بالمواد التي يحتاجها لأجل ذلك، أما الان وهو وحده فليس أفضل من بيضة واحدة تسد رمقه الذي لا يشعر به الان لكنه يحتاجه لكي يبقى ويفتح الباب لنديم عندما يأتي يوماً، ولا يهم لماذا يأتي … ربما لأنه يحتاج لبعض النقود… لتكن كذلك… المهم يأتي.
أكل البيضة ثم تمتم بكلمات الشكر للدجاج الذي أعطى البيض… ولكن من الذي خلق الدجاج… أليس الاجدر أن يشكر الخالق على كل شيء.
في المرات المتباعدة التي يأتي بها نديم يكون على عجل من أمره، يحثه محسن على الجلوس على أمل أن يبدأ معه موضوعاً مهماً يخصه، لكن نديم يغلق أي فرصة للنقاش ويبقى يكرر على أنه على موعد ويجب عليه الانصراف وينصرف نديم ويترك غصة في قلب محسن ووجع في رأسه ثم يبدأ يعيد الكلمات القليلة التي تفوه بها نديم وهي في الغالب لا تزيد عن كونها … أنا آسف يجب عليّ الذهاب … أنا مشغول ولا أستطيع البقاء …أراك في وقت آخر …أحبك أبي كثيراً… أنا آسف جداً جداً … سأكلمك غداً … ولن يحدث.
كان مرور نديم السريع لبيت والده يحدث مرة كل أسبوع ثم صار مرة في الشهر، أما الان فأبو نديم لا يتذكر متى كانت آخر مرة رأى ابنه فيها فلم تعد ذاكرته تضبط الوقت أو الحدث فهي الآن في خضم أمواج متلاطمة مع بعضها في كل الاتجاهات احداها تمحي الأخريات وتصعد فوق الجميع لتعلن عن وجودها، وهي الحدث الوحيد الباقي من دون محي، أربعة حروف لم تستطع هذه الأمواج العاتية أن تبعثرها … باقية … باقية أمام عيني محسن فيصرخ بها بين الحين والحين… نديييييم … ندييم … نديم.
في أمسية موحشة جلس أبو نديم على الاريكة المقابلة للتلفاز وكان البرد يلسع عظامه المغطاة بجلد مقرمش ومن دون عضلات، أراد أن ينطق لسانه الحروف المحببة لديه … ن … د …ي … م… لكنه لم يستطع هذه المرة تحريك شفتيه ونزلت دمعتان من كلتا عينيه وأحنى رأسه على جنب وسكن كل شيء أمامه … بعد دقائق هبت ريح صفراء معبأة بذرات التراب ورشت بيته وطرقت بابه كالقذائف ثم دخلت من فتحة القفل مناديه:
بابا… بابا… بابا………

الهام حسين
15-8-2016

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here