فرحان باقر الأستاذ الأب الطبيب الصديق!!

أجدني ملزما بشيمة الوفاء أن أكتب عن الأستاذ الراحل فرحان باقر الذي وفاه الأجل المحتوم في 18\10\2017.
وربما سيُعجبُ أو سيُغضبُ ما سأكتبه فلكل إنسان أصيل نابه حصيف أصدقاء وأعداء , ومُحبون وكارهون , لكن الجوهر الحقيقي والروح الطيبة والعطاء النزيه يترسخ في النفوس والقلوب والضمائر , ويبقى الإنسان بما يكنزه من أفياض المعاني وصور التسامي وآيات التسامح والتعبير عن فحوى الزمان.
فكرت بالكتابة عنه قبل أعوام , بل وكتبت قصيدة ومقالة , لكني لم أنشرهما , لأني أتجنب الكتابة عن الأشخاص وأهتم بالظواهر السلوكية والفكرية والأحداث المرافقة لها , وذكّرني بحواراتي معه قبل بضعة أسابيع الدكتور عادل الحمادي , فأعطيته نسخة من حوار لي معه قبل عقد من الزمان , ولم أعثر على عدد من الحوارات الأخرى المدونة في أوراق متفرقة.
تجمعني بالأستاذ الراحل علاقة طويلة مشحونة بالتفاعلات المعرفية والحوارات المتواصلة واللقاءات والمهاتفات الدائبة أينما حل وإرتحل , فكنا نتحادث وهو في أبو ظبي وبغداد وأمريكا , ونلتقي ما سنحت لنا فرصة للقاء , وقد تعلمت منه الكثير وألهمني من القيم والمعاني ما ينير ويثير.
منذ الصغر وأنا أسمع إسمه وحديث الناس عنه في مدينتنا , وكبرت ودخلت الكلية الطبية ولايزال إسمه لامعا في العراق على أنه من أشهر وأفضل الأطباء , لكنه أحيل على التقاعد قبل تخرجنا من الكلية الطبية , وما حظيت بمحاضراته أو زياراته لكليتنا.
فلم أكن من طلبته في الكلية الطبية , لكنني أصبحت من طلابه وأقربهم إليه في هذه الحياة التي لا تجمع العقول والأرواح والنفوس مصادفة , وإنما بتقديرات معلومة ومحجوبة , وكان تفاعلي معه منذ دعوته لتأسيس الجمعية الطبية العراقية في أمريكا في تسعينيات القرن العشرين , ومنها إنطلق التواصل , وحالما إلتقينا وجدتنا في تلاحم معرفي وأحاديث ذات شجون ومنطلقات ومبتدءات ومشاريع وبرامج وإرادات.
فكنتُ أجالسه متأملا الروح الشبابية المتدفقة المتأججة بإنسان في العقد الثامن من العمر , وما كنت أعرف عمره لولا أننا كنا ذات مرة في الفندق وإذا في أحد الأوراق تأريخ ميلاده , فإستفهم الموظف عن صحته , فأجابه مازحا: نعم عمري ثمان وسبعين عاما , ألا تصدق ذلك؟!!
كنت صامتا ومتعلما من هذه الروحية الحية المتوثبة , ومضينا في حينها وكأنني مع شاب متوقد الذهن والفكر , وركبنا التاكسي والميترو وذهبنا إلى المطعم , وعدنا إلى الفندق متأخرين , وما حسبت أني برفقة رجل بهذا العمر , وما توطنني إحساس بذلك.
ذات مرة في لقاء جمعنا بالعاصمة واشنطن , كانت تجول بخاطري أفكار الفقدان , فدعوته لأخذ صورة معا , ففاجأني بظرافته المعهودة قائلا : ” ما غايتك من الصورة”!!

وفي أعماقي نداء يأمرني بقطع عهد على نفسي أن لا أنعاه ذات يوم , لأن أمثاله يأتون للحياة وهم يحملون إرادة الإنتصار على الموت رغم حتميته وشدة قبضته.
فرحان باقر
يحمل الوطن في قلبه وروحه وضميره وعقله ويعبّر عن كبريائه وعزته وإبائه وحضارته وصورته التي ترسخت في وجدانه , فلا يمكن فصله عن العراق الوطن والأصل والمنبع والهوية والقيمة والقوة والكرامة والغيرة والحمية , فيتكلم ويتصرف بلسان العراق ومعانيه الأخوية الإنسانية المتجذرة في كيانه.
فهو من الجيل الذي لا يعرف وطنا غير العراق ولا قيما غير قيم العراق , الذي يمثل الأرض والحياة والمصير المشترك المتماسك القدير.
وهذا التماهي المطلق بالوطن جعل البعض يسيئون الفهم ويتصورن الحالة على غير ما هي عليه , ويحسبون ذلك نوع من الصفات الأخرى التي لا يعرفها الرجل ولا تعرفه , فهو إنسان فقد وطنه وغادره مضطرا ولا يمكنه أن ينفصل عنه , فحمل الوطن وجعله يعيش في أعماقه وجوهر ذاته , فأصبح وطنا حيا يريد التأكيد على كينونته وهويته ومعاني وجوده الخالدة في جبين العصور وصدور الأزمان.
وهذه حالة يعاني منها المهاجرون الذين يعيش الوطن فيهم بعد أن كانوا يعيشون فيه , وما كان يعبّر عنه أستاذنا الراحل هو الصدق والإنتماء المطلق للوطن الذي شيّد قامته فيه , وكان يقول “مَن أنا لولا العراق” , و”مَن نحن لولا الوطن” , “إن العراق هويتنا وقوتنا وذاتنا وموضوعنا”.
فرحان باقر
الأستاذ النطاسي الرائع الحاذق الخلوق المقتدر المتمرس صاحب المهارات التدريسية والخبرات التدريبية المتميزة , التي تجعلك محبا وعاشقا للمادة التي يُدرسها , بما يمتلكه من روحية التفاعل المعرفي المهذب الرشيد , الراقي الأخلاقيات والضوابط والثوابت المهنية , التي تؤسس لمعاني ومعايير تساهم في صناعة البنى التحتية الراسخة لنهضة علمية رصينة ذات أدوار حضارية لامعة.
فهو أستاذ أخلاق وأعراف وتقاليد علمية طبية مستوحاة من أفكار أساطين الطب في تأريخ البشرية , وكان جادا ومجتهدا في العمل بموجب الأخلاقيات الطيبة السليمة النزيهة , مما تسبب له بمشاكل كثيرة مع جهات متنفذة ومسؤولين في الدولة , تحمّل نتائجها وما تزحزح عن مبادئه وقيمه وتقاليده العلمية الراجحة الصادقة.
يقول لي كنت أقف مدافعا عن المعايير والقيم العلمية ولا أسمح بتجاوزها والعمل بغيرها , ولهذا فأنهم حاربوني وواجهوني بالمنغصات والتحديات , لكني أشعر بالقوة والسعادة والرضى لأني ما حِدت عن مبادئي وثوابتي الأخلاقية في تعليم وممارسة مهنة الطب.
ويتمثل أمامي كمجاهد أخلاقي ناضل بإصرار وصلابة للذود عن القيم والمعايير والأخلاقيات المهنية للطب في العراق , ولديه مواقف مشهودة وأبية.
فرحان باقر
يستحق وبلا منازع لقب “أبو الطب” العراقي , قد يقول مَن يقول ما يقول , لكني لم أجد مَن لا يقول خيرا فيه إلا من ذوي العاهات النفسية , والمشاعر السلبية التي تصف الآخرين بما يحلو لها من الوصف , أي تراهم وفقا لما فيها من المشاعر والعواطف التي لا تريد أن ترى أحدا أفضل أو أحسن منها , فتحسب أنها المقياس لتقدير جودة الآخرين وتوصيفهم.
أما الذين يتفاعلون بموضوعية وواقعية وصدق وحكمة فأنهم يرونه “أبو الطب” العراقي , وعَلم خفاق في ميادين التعبير عن العلوم الطبية العراقية , ورمز يدعو للفخر والتقدير والقول الجميل.
ومن الواضح أن العراقي لا يتباهى بالعراقي ولا يفخر به , وإنما يرى نفسه وحسب!!
فرحان باقر
كان يتفاعل معي بروحية الأب الرحيم الذي يتمنى النجاح والتقدم لأبنائه , وكانت هذه الروحية تسود وتطغى على تعامله مع جميع الزملاء , لكن أكثرهم ربما لا يراها كذلك , لأنهم يحسبون أنفسهم كما يشاؤون ويتصورون , وهذا التقاطع ما بين الحالتين تسبب ببعض الخلافات والتداعيات بالعلاقات في ميادين ونشاطات متنوعة وخصوصا في (إمسا)(الجمعية العراقية الأمريكية للعلوم الطبية) , والتي كان متأثرا بما آلت إليه الأمور فيها في كثير من الإجتماعات , وهو مؤسسها والساعي بدأب لإنشائها وديمومتها.
وكان يبث شكواه عن مواضيع تتعلق بالجمعية , التي ما تمكنت من النمو والتطور والإنطلاق كباقي الجمعيات , فبقيت تراوح بأعداد أعضائها , وما إرتقت إلى آفاق رؤيته.
لكنه يتناسى ويسامح ويتمنى أن يتحقق النماء والتطور والرقاء , وما غايته من طلباته ومقترحاته إلا لوضع الثوابت وترسيخ القيم والأخلاقيات , التي تساهم في البناء السليم والتواصل القويم , وكثيرا ما كان لا يسمح بنشر ما يبوح به فيما يتعلق بالجمعية , ويقول لا بد للإنسان من التعبير عمّا فيه أحيانا.
وقد تأثرت كثيرا بمعاناته في الجمعية وكم آلمني حديثه ذات مرة وقد ترقرقت الدموع في عينيه , وهو يعترف ببعض الإجراءات التي كان عليها أن لا تًتخذ.
فالجمعية كانت النبتة التي أحبها وبذرها وتعهدها بالرعاية والتوجيه حتى تبرعمت وربت , لكن بعض أغصانها جفت وأوراقها تساقطت , ومع ذلك مضى يرقبها ويحنو عليها , ويسجل حضوره فيها بصبر وأناة , وما منعته من ذلك حالته الصحية الصعبة وبُعده.

فرحان باقر
الحكيم العالم الذي كان طبيبا لحكام العراق وكبار رجالاته وعوائلهم , ومن أكثر الأطباء قربا من بعضهم , حتى صار مستهدفا من الآخرين , فبشخصيته العلمية فرض وجوده على القادة والمسؤولين في العراق والدول العربية الأخرى , فهو دائما الطبيب المفضل للرؤساء والأمراء , وكانت عنده خبرة سلوكية فائقة في التعامل معهم ومعالجتهم وجعلهم يرضخون لإرشاداته وتوصياته الطبية , والذين لا يمتلكون تجربة التعامل مع القادة والمسؤولين لا يقدرون صعوبة وخطورة ذلك , وكيف للطبيب أن يفرض ما يريده على الذين يتصورون أن لا أحد يمكنه أن يفرض عليهم شيئا.
فالتعامل مع القادة والمسؤولين في مجتمعاتنا تتطلب حذاقة ونباهة وسرعة بديهية , وتأهب للإجابة على أسئلة أحيانا ذات صعوبات وأشبه بالإختبارات , وتستدعي سلوكيات ذات توازنات وتوافقات تضع بالحسبان مواطن التصارعات والقوى القائمة على شأن البلاد والمتخذة للقرار, وما يجيش في النفوس من ظنون وتوجسات , وقد أجاد الأستاذ فرحان باقر هذه المغامرات المحفوفة بالمخاطر والمفاجآت , وحقق فيها نجاحات متميزة وتعذر على المناوئين إسقاطه في مطبات نهائية كما حصل لغيره من الأطباء الذين تقربوا من المسؤولين.
فرحان باقر
مضى طبيبا جسورا وقورا ناصحا ومرشدا ومعلما , وما ترجل عن مشروعه التربوي التعليمي ورسالته الطبية ومنطلقاته وثوابته الأخلاقية , بل عمّقها وطورها وأضفى عليها المزيد مما تعلمه من تجاربه وخبراته المتجددة , وبقي الطب مهنته وروحيته وعشقه وغايته والقيمة التي منحت حياته المعاني والأوصاف التي يفخر بها ويرعاها.
وكان يمارس الطب في عيادته في كاليفورنيا حتى بداية القرن الحادي والعشرين , ومن ثم مضى في الإمارات طبيبا لأمرائها ومستشارا متمرسا ينير بخبراته فضاءات المشاريع والجمعيات والمؤسسات , والبرامج الطبية الهادفة للشفاء وتطبيب المعاناة المرضية , وما أغفل رسالته العلمية في وطنه فساهم في النشاطات التدريسية والتأسيسية للمشاريع الكفيلة بتحقيق مستقبل أفضل للطب في العراق.
فرحان باقر
الصديق الطيب الوفي الذي يعز الصداقة ويرعاها ويهتم بها , وكان معي أبا وصديقا وزميلا ومُحبا وطيبا وراعيا ومشجعا ومؤازرا ومتسائلا , وكنت أسترشد بآرائه وأسأله في أمور متنوعة , فيبدو مسرورا في إبداء الرأي وإعطاء المشورة , وكان صدره رحبا وسعادته غامرة وهو يجيب على أسألتي , وكانت آراؤه ذات قيمة ودور في عدد من القرارت التي إتخذتها في مواضيع طبية ونشاطات أخرى في ميادين الجميعيات الطبية العربية والعراقية.
فهو إنسان بأصدق ما يكون عليه الإنسان , يسأل عنك إن لم تسأل عنه , ويعاتبك بقوة , وذات يوم إتصل بي معاتبا لعدم سؤالي عنه , وهو يقول: لا تسألون عني وكنت أعاني من ألم شديد في الظهر , لكنه أردفها مازحا وبمعنوية عالية ليؤكد أنه كان في إحدى دول الخليج.
ويتمتع بتواضع العلماء وبساطتهم , وما وجدته مدّاحا لنفسه أو مغرورا ومتكبرا , وإنما يرى أنه كان محظوظا بعض الشيئ , فالحظ يلعب لعبته بمسيرة الافراد في أكثر الأحيان , كما كان يقول.
ورغم مرضه في سنواته الأخيرة لا ينسى ويعبّر عن الوفاء , ووجدته يبعث بمواساته عند وفاة والدتي وهو في محنة صحية , فأكبرت ذلك وثمنته , فهو الإنسان الوفي النبيل الذي يفيض بقيم وأخلاق سامية طيبة.
ولا أريد التطرق إلى جميع الحوارات والتواصلات واللقاءات بيني وبينه , ولكن سأشير إلى ما أعتز به وهو إصراري معه على الكتابة عن تأريخ الطب عبر مشاهداته , وأن يقوم بتدوين مسيرته الطبية في العراق , لأنه شاهد بارز ومتميز , وفي بدايات أحاديثنا كان يتعذر بأنه ربما لا يحسن الكتابة الجيدة , وحينها بدأتُ أكتب على لسانه , وبدأنا بمشروع الحوارات المدونة , ولكثرة الإلتزامات وظروف العمل وبُعد المسافة بيننا صرنا نتهاتف أسبوعيا , ويبدو أنه إستساغ الفكرة وبدأت القناعة تنمو عنده بتنفيذها , فكانت مهاتفاتنا لا تنقطع أينما حل ورحل , وبعد محاولات ومحاولات , نضجت الفكرة وتوقد الحماس , وفُتحت أبواب أخرى ووسائل أسهل , فكانت الثمرة التي فرحتُ بها وسعدت كثيرا , كتابيه عن تأريخ الطب (حكيم الحكام…, وتأريخ الطب المعاصر…), وكان يهاتفني ويحدثني عن صدور الكتاب ويرسل لي نسخة منه , وفي كتابه الأول على ما أذكر أشار إلى أن الناشر قرر إعادة طبعه لوجود بعض الأخطاء , وقد قدمت عرضا لأحدهما في النشرة الدورية للجمعية عندما كنت أرأس تحريرها.
فرحان باقر
نفتقده اليوم كقدوة طبية علمية مؤثرة وملهمة للأجيال , فهو من أعلام الطب العراقي في القرن العشرين , وقامة شامخة بقيمها وأخلاقها المهنية , وإرادتها الجادة في إحداث التغيير المعرفي , وتأكيد المواكبة العلمية والإبداع الطبي المتميز.
فرحان باقر
الأستاذ الأب الزميل الصديق الإنسان الذي لا أنعاه كما عاهدت نفسي لكنني أذكره بفخر ومحبة وإعتزاز , وأستعيد أوقاتنا الثرية معا ومكالماتنا الأبوية الأخوية الرائعة المؤطرة بفيض المعاني والأفكار والتجارب الغنية بالفوائد العملية , وهي تنطلق منسابة من أعماق إنسانٍ تمثل الطب فيه , وصار موسوعة طبية مختصرة تفيض بعلومه وأخلاقياته المهنية السامية.
فرحان باقر
الذي سبرتُ أغواره , وتفاعلتُ معه , وتمتعتُ ببوحه الإنساني الأخاذ , فيه إلتقيت بإنسانٍ نادر متميز بالمكنون الأخلاقي والقيمي والمعرفي , وتنوّرتُ بإلهاماته النادرة التي أغنتني عن ألف كتاب وكتاب , فأعظم كتاب أقرأه هو الإنسان , فكان أبلغ ما قرأت وأروع ما وعيت , فهو ينبوع علم وشلال معارف وذخيرة تجارب وخزين خبرات , ومنطلقات أمل وتألق وعنوان فضاء.
وأجدني من المحظوظين الذين غرفوا من سلاف هذا المعين الإنساني الدفاق بزلال المعاني السامية والخُلق الرفيع والأنوار العلمية الوهاجة الأفياض.
فرحان باقر
نم قرير العين في الثرى , فمبادؤك وقيمك وأخلاقك المهنية يحملها العديد من تلاميذك والمتأثرين بمسيرتك المتحدية الراجحة.
وهذا بعض وفاءٍ لعَلمٍ تفاعلت معه وتعلمت منه وتأثرت به , فتحية لمسيرته الثرية , وإن توسد الثرى , فكل مَن عليها فان , ولأهله وذويه ومحبيه , أخلص التعازي , وألهمهم الخالق العظيم الصبر والسلوان.
فهل أوفيتُ بعهدي يا أستاذنا الجليل , فأنا أذكرك ولا أنعاك!!
د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here