السطح والسطوح في الذاكرة العراقيّه

عباس العلوي

القسم الأول

سطوح المنازل لها منزلةٌ خاصة في الذاكرة العراقيه / وما زال كل واحد منّا يتذكر فناء السطح الذي جمع شمل العائلات بالدفء والمودة وقرّب الجيران بعضهم من البعض الآخر في الأفراح والأحزان وغيرها من المناسبات / وأضحت العلاقات الأسريّه في الحارة العراقيه < البغداديه خصوصاً > قويّة بفعل التواصل اليومي في أمسيات الصيف القمريه عبر شرفة السور الفاصل بين سطح الجارين .
ـــ قال علماء اللغة في تعريف ” السطح ” هو ظهر البيت وأعلى من كل شيء فيه .
لهذا تجد السطوح العراقيه ترتفع فوق قامة البيت / ويختلف إرتفاعها من بيت لآخر/ في بعض منها ترتفع بضع درجات وفي أخرى أكثر من ثلاثين درجة من درجات السلّم / وقد تحوي بعض البيوت على سطحين العالي جداً والعادي وفقاً لإمكانيات صاحب المنزل . ومن مكونات السطوح العراقيّه
ـــ التيغه : وهي الجدار أو السور الذي يحيط بالسطح من كافة جوانبه وعادة ما يكون إرتفاعه بحدود قامة الإنسان أو أعلى منه بقليل .
ـــ البيتونه : عبارة عن مكان مسقف يوضع فيه الفراش بمختلف أنواعه لحفظه من الشمس والغبار والمطر/ وبالمناسبه هنا تحضرني واحدة من الطرائف التي صادفتنا في نهاية عقد الستينات :
[ كان إبن اختي وهو إبن العاشرة من العمر يلعب في سطح بيتهم بالصعاديات التي ينبعث منها شرار من نار خفيف وإذا بواحدة منها تذهب عفوياً الى البيتونة لتحرق الفرش القطنيه بكاملها / وعلى إثرها أصبح أهل البيت من دون فرش للنوم وبقوا بإنتظار < النداف > أيام عديدة لعمل طقم جديد ! ] . وعندما إستضافونا بعد الحادث شاهد أخي الأكبر < د . حميد العلوي > الفرش الجديده بألوانها الزاهيه علّق على هذا المشهد بعبارة ضاحكة قائلاً : [ يا اختي العزيزه / علاوي ــ البطل ــ سوالكم همّه لوما صعادياته ما جان نشوف هذا الفراش الجميل ! ] .
وفي بعض البيوت يحوي السطح على :
ـــ البادگير : عبارة عن فتحة هوائية تخترق قامة البيت / تبدأ بالسطح وتنتهي عند السرداب وهي من أفضل طرق التهوية الصحيّه .
ـــ التنور : يقع في إحدى زوايا السطح لغرض إعداد الخبز المنزلي من قبل ربة المنزل أو من يقوم مقامها / وما زلت أتذكر حينما كنا أطفالاً نتجمع حول التنور ونتلاقف الخبز الحار لحظة خروجه وكان ذلك يشكل متعةً كبيرةً لنا !
برج الطيور : ويُطلق على أصحابها ” مطيّرجيّه ” وكثيراً ما كانوا يُزعجون الجيران بسبب طيورهم التي يطلقونها أول الصباح / وقد درج العراقيون على عدم شراء البيوت التي تجاور ” المطيرجي ” دفعاً لمثل هذه المشاكل .
ـــ السطوح نموذج للتراث الأصيل / تجسد فيها تأقلم الأنسان العراقي مع الطقس الصيفي الحار/ ومع نسمات الهواء العليل التي تهب أحياناً تحت ضوء القمر الفضي نشأت صداقة حميميّة لا يمكن نسيانها .
ـــ في كل يوم ما بعد الغروب / إعتادت العائلات مدّ البسط وأفرشة النوم إما على الأرض أو على أسرّة النوم وقد يُحاط بعضها [ بالكُلّه ] وهي الساتر الأبيض الذي يحجب الرؤيةَ عن أعين الفضوليين ولسعات البعض أو الحِرمِس ! وفي نفس الوقت توضع جرار الماء وصينية الرقي على التيغه لكي تكسب البروده / وعند المساء قد تتعشى العائله في السطح وتبقى < التُنَك > شامخةً على التيغه / وكثيراً ما يحدث منتصف الليل أن تسقط على الأرض بفعل تسلق القطط وتحدث دربكه إعتاد عليها الناس بمرور الزمن !
ـــ ومن التقاليد المتبعه في السطوح عدم إزعاج الجار وقت النوم / فيجب أن يخفض المتحدث صوته عند الحديث / كما إن الأخلاق العراقيه لا تسمح لأحد أن يطلَّ برأسه على الجيران من خلال التيغه فذلك عيب لأن للبيوت أسرار كما يقولون ولا يجوز التعدي .
وفي المقابل إعتادت النساء العراقيات بداية المساء وعبر تيغة السطح التحدث مع بعضهن البعض في مختلف شؤون الحياة اليوميّه وقد يستغرق الحديث وقتاً طويلاً وربما يتحول الى ثرثرة لا طائل منها / أحياناً قد يحتاج الجار لحاجةٍ معينه كالنقود أو ضرورةً من ضرورات البيت تُعطى له من شرفة السطح / وهذا يكشف الى حدٍ بعيد مدى تعاون الجيران فيما بينهم .
ـــ ومن التجارب المعهوده في المجتمع العراقي إذا كنت مستلقياً على فراشك في السطح وسمعت فجأةً ” هلهوله ” بصوت عالٍ ــ معناها هناك فرح في إحدى بيوت الجيران / وعلى العكس إذا سمعت صرخةَ إستغاثةٍ أطلقتها إحدى النساء بلفظة [ يبووو ] السومرية الأصل ــ يعني إن حادثة وفاة أو شيئاً من هذا القبيل قد حدث / أما إذا سمعت صرخة الإستغاثة هذه مع هلهولةٍ ينطلقان في لحظةٍ واحده ــ فإنها تعني إن حرامي الليل قد سطا على أحد بيوت الجيران والواجب يقضي على كل من يسمع الصوت أن يقوم بواجب النجده !
*نختم هذا الفصل / بأبيات شعريّة جميلة لشاعرة العراق ميسون الرومي

اذكر وطنـَّه اليوم واذكر اهلنـَّه
اشمحله هذيچ ايام بيهه انسعدنـَه
***
نتسامر اويه الليل نتناغه وياه
امرصع گمر وانجوم والسمه اشمحلاه
***
ريت العمر يندار وابإيـدي حـِنـَّـه
طفله ولاگي الروح بسطوح اهلنه
***
ويـّـه الفجر چـَّن صاح (ديچ) المحلـَّه
و(التنـّگه) تنضح ماي خـِلّ اويـه خـِلـَّه
***
(كلـَّـه) اوتـِعـطـّ ابخور بـسـطوح اهـلـّـنـَـه
نـوم العـَـوافي انـّـام وابحـِضن أمنـَـه
***
واتذكر الجيران ..واشـكي ابـنهـم
امن (التـّيغـَه) يرمي اوراق .. واعرف سطحهم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here