العراق إذ يسير في طريق التخلف

حميد الكفائي

لا تستحي القوى المتشدقة بالدين في العراق من ممارسة الدجل والخداع لتضليل البسطاء وإيهامهم بأنها تتبع الإسلام وتسعى إلى التقرب إلى الله، ولا يهمها، على ما يبدو، مستقبل العراق وسمعته وموقعه بين دول العالم، فالأهم من كل هذا هو أن يبقى هؤلاء في الواجهة على رغم فسادهم وفشلهم في إدارة البلاد أو حتى في حفظ السلم الأهلي وتوفير الخدمات الأساسية.
فبعد قانون حظر الخمور الذي شارك في تمريره حزب بارزاني القومي العلماني (الديموقراطي) مع جماعات المالكي والحكيم والفضيلة والحزب الإسلامي، وكان بطله القاضي محمود الحسن، جاء مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، وهو من أكثر القوانين عدالة وتقدمية، لينقل مسألة تنظيم المجتمع من الدولة الضامنة للحقوق، ويخضعها لتفسيرات وتأويلات فقهية لها أول وليس لها آخر، ويسمح بتزويج القاصرات بعمر 9 سنوات، بل يعتبِر كل عقود الزواج السابقة لتشريعه مبرمة وفق المذهب الجعفري إن تضمنت عبارة «عند الحاجة والميسرة» (المادة الثانية،-البند4).
ففيما يحتاج العراق إلى التماسك الوطني والوحدة بوجه أخطار الإرهاب العالمي، لا يرى «نواب الشعب» قضية أهم من تمرير مشروع قانون مجحف بحق المجتمع وينتهك مواثيق حقوق الإنسان ويتعارض مع القوانين الدولية، ناهيك عن الذوق العام، ويجعل العراق أضحوكة أمام العالم. والمضحك المبكي أن مشروع القانون هذا، الذي اجترحه العباقرة في حزب الفضيلة (الإسلامي) ثم تبناه ديناصورات المجلس الأعلى (الإسلامي)، بتواطؤ مع الحزب (الإسلامي) العراقي، يصادم الحملة التي تقودها الأمم المتحدة لوقف ممارسات تزويج الأطفال التي انطلقت قبل عامين تقريباً في قرار المنظمة الدولية المرقم ٦٩/١٥٦، الصادر في ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤ تحت عنوان «زواج الأطفال والزواج المبكر والزواج بالإكراه»، الذي حث دول العالم على التصدي لهذا الممارسات الهمجية.
ولا يتوقف المتشدقون بالدين عند مفاجأة العالم في القرن الحادي والعشرين بقانون ينتمي إلى عصر صمصام الدولة البويهي، بل إنهم لا يكترثون حتى للنظام الداخلي للبرلمان الذي وضعوه بأنفسهم. فقد مرروا القانون من دون توافر النصاب القانوني المطلوب، وهذا ما اعترف به رئيس البرلمان سليم الجبوري لعدد من النواب وأكدته تسجيلات جلسة البرلمان التي راجعها الأعضاء واعترف فيها بأن «النصاب اختل»، وطعنت في قانونيتها رسمياً القائمة الوطنية في رسالة إلى رئاسة البرلمان بتاريخ 19/11/2017 وقعها النائب كاظم الشمري.
وعلى رغم تحمس الجبوري الواضح لمشروع قانون تزويج الأطفال، وتمريره إياه من دون توافر النصاب القانوني، فإنه ادعى أثناء حديثه في «معهد السلام الأميركي» في واشنطن بتاريخ 7/11/2017 بأنه شخصياً «يعارض» تعديل قانون الأحوال الشخصية! وقد دافع الجبوري، الذي يحمل الدكتوراه في القانون، عن مشروع القانون قائلاً إنه لا توجد فيه أي فقرة تشير إلى سن الزواج، متهماً وسائل الإعلام بأنها اختلقت قصة السماح بزواج القاصرات بعمر 9 سنوات! لكنه في الوقت نفسه انتقد القانون الحالي الذي يسمح بزواج الفتاة في سن الخامسة عشرة «بموافقة أهلها وإقرار القاضي بأنها مؤهلة للزواج»، وقال إن الفتاة في سن الخامسة عشرة قاصرة أيضاً!
صحيح أن مشروع قانون تزويج الأطفال لا يحدد سناً للزواج، فقد أوكل هذا الأمر إلى «الفقهاء»، وهنا تكمن الخطورة لأن آراءهم تكاد تجمع على أن سن زواج الفتاة هو التاسعة، ولكن هل هناك قانون للأحوال الشخصية في العالم لا يحدد سناً دنيا للزواج؟ أليس هذا خللاً معيباً في القانون؟ وكيف يرتضي الخبير القانوني سليم الجبوري قانوناً يضع مصائر ملايين الأطفال بأيدي تفسيرات قروسطية لا تمت للطبيعة البشرية بصلة؟ أين العدالة والضمير الإنساني في هذا التشريع؟
الجماعات المتشدقة بالدين تعادي المرأة وتحتقرها لأنها تدرك، على رغم تخلفها، أن تحرر المرأة سيخلق مجتمعاً حراً وسليماً، ومثل هذا المجتمع لن يسمح لهذه الجماعات أن تتحكم به بل هو سيلفظها ويزيحها إلى الهامش. لذلك فإن السماح بتزويج المرأة بعمر التاسعة سيبقيها ضمن دائرة التحكم المتعسف لأولي الأمر والعبودية للتقاليد والأوهام ما يفقدها القدرة على تربية أجيال حرة وشخصيات قوية ترفض التخلف والتبعية. إذاً، هذا القانون ضروري لبقاء هذه الجماعات في صدارة الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأنه يخلق البيئة الخصبة لها كي تنمو وتتوسع وتهيمن وترسِّخ أفكارها، وهي تحرص دائماً على خدمة مصالحها وتأمين مستقبلها.
وفي المقابل فقوى العصرنة والتقدم والعقلانية في العراق غائبة ومشتتة ويئن بعضها تحت قيادات ديناصورية لا تنظر إلى أبعد من الحصول على مكاسب شخصية قصيرة الأمد. ما زال العلمانيون والمعتدلون لا ينظرون إلى المستقبل البعيد ولا يسعون لبناء مشروع طويل الأمد يرسخ مبادئ العدالة والحرية والديموقراطية الحقيقية للأجيال المقبلة. الوضع في العراق بلغ مرحلة خطيرة، فهناك قوى ظلامية تخوض معركتها الأخيرة، ولا يهمها مستقبل البلد بقدر بقائها في الساحة بأي ثمن، وقد أخذت تسخِّر لهذا البقاء الإمكانات والأموال التي توافرت لها عبر استيلائها على مقدرات البلد خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، وتمكنت أيضاً من تسخير وسائل الإعلام والدعاية للترويج لبرامجها وشخصياتها.
في العام الماضي أقال البرلمان رئيسه سليم الجبوري ونصَّب النائب عدنان الجنابي محله، لكن الجبوري ذهب إلى المحكمة الاتحادية وطعن في قانونية الجلسة وشكك في توافر النصاب القانوني فيها، فحكمت المحكمة له وأعادته إلى منصبه. فإن كان لا يكترث للنصاب القانوني، ما كان عليه أن يحتج قضائياً على غيابه في الجلسة التي أقالته، وإن كان النصاب مهماً كي تصبح الجلسة قانونية، فلماذا يمرر قانوناً من دون توافره؟
أصبح واضحاً الآن أن هناك أحزاباً «سياسية» لا تهتم لمستقبل العراق ولا تكترث لقيم العدالة والحرية والتقدم، ولا يهمها إن تَعَرَضَ العراق لأضرار اقتصادية وسياسية وتخلف تكنولوجي بسبب تبنيه قوانين تنتهك القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان. لذلك أصبح لزاماً على المجتمع العراقي، والنساء تحديداً لأنهن المعنيات بهذا الأمر في المقام الأول، أن يلفظ هذه الأحزاب كلياً إن أراد العيش بسلام وانسجام مع العالم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here