لغتنا العربية، مفرداتها دعائم تفكيرنا !

بقلم د. رضا العطار

هل هذا المقال في الفلسفة او في السيكولوجية ؟ لا اعلم، لكننا نقلناه عن تريستان نازارا، ومعناه اننا نفكر بالكلمات التي تنطق بها السنتنا. واذا لم تكن لنا كلمات، فاننا عندئذ لن نستطيع التفكير الا بمقدار ما يفكر الثور.

فقد انتهى المفكرون المتعمقون في علم اللغات الى ان الناس والاشياء والطبيعة والكون ليس لها اي معنى الا في وعينا وكلماتنا. والمعنى من عبارة (وعينا) هو كيف نجد
انفسنا في غمرة هذه الاشياء ؟ وما هي صلتنا بها ؟ ما قيمتها عندنا ؟ وما هي ابعادنا منها او ابعادها منا ؟ ثم كيف نفهمها ؟
فالاعتقاد العام بين الناس اننا نعبر عن افكارنا بالكلمات، كأن اللغة وسيلة للتعبير عن التفكير. ولكن اللغة اكبر من ذلك. فانها عند الكثيرين من الناس هي التفكير الذي يفكرونه، وعندنا جميعا هي التي تكيف التفكير وتكسبه طرازه وشكله، بل احيانا توجده. ونمونا الفكري وتطوره هما نمو اللغة وتطورها.

نحن نعين سلوكنا مع الناس في صور اخلاقية: مثل المروءة، الانسانية، الحب، البغض، الشماتة. وهي جميعها صور تثير عواطفنا وتوجهنا وتكيف احساسنا وتصرفنا. واذا فقدنا هذه الكلمات فاننا نفقد ايضا هذه العواطف والاحساسات ولا يبقى الا مقدار مايجد جَمَل منها — كذلك الصور الذهنية: مثل السياسة، الدبلوماسية، الثقافة، التطور، العلم، فاننا ما كنا لنجد هذه الصور في اذهاننا لولا هذه الكلمات.

اننا نقول : امس وغد، رجل شهم ورجل نذل، حنان الأم وعقوق الابن، وجميع هذه المعاني نفقدها، لولا هذه الكلمات التي تعنيها وتربط اذهاننا بها. بل ان الكلمات اكثر من التعيين والربط، اذ هي تصوغ وتكيف. بل هي تستحدث في نفوسنا عواطف وعادات عاطفية ما كنا نجدها لولاها. فان كُتّاب القصص عندنا قد جعلوا عاطفة الحب شيئا مؤلوفا. بل هم صاغوا اسلوب الحب، وذلك مما الفوا من هذه القصص التي شرحوها بكلمات معينة اسلوبها.

وقد نعترض قائلين ان الحب كان موجودا قبل تأليف القصص. وهذا صحيح. وان يكن وجوده وقتئذ شيئا يكاد يكون شاذا. وكلمة الحب كانت من كلماتنا قبل تاليف القصص العصرية. ولكن الكلمة شاعت في ايامنا واثارت عاصفة كانت راكدة كامنة. كما عينت لنا هذه القصص صيغة الحب كيف يكون وكيف يسلك المحبان.
وقد سبق لي ان قلت ان كلمات الدم والشرف والعرض والثأر قد عنيت اسلوبا من الاغتيال والقتل في بعض نواحي الريف. وان احتمال نقص او زوال هذه الجرائم مرتبط بزوال هذه الكلمات من لغة اهلها.

وهناك من يزعمون ان اللغة مرآة للافكار، ولكن الواقع انها اكبر واخطر من ذلك، اذ هي من ناحية صياغة للافكار وهي من ناحية اخرى تفسير للافكار. فكلمة الحب الان هي نفس العاطفة التي كانت موجودة قبل خمسة آلاف سنة ولكن التفسير تغير. ولذلك تغير اسلوب الحب. والفضل في هذا لكتاب القصص … فاسلوبنا في التفكير هو في صميمه اسلوبنا في التعبير. لاننا لن نستطيع ان نفكر باكثر مما تعطينا الكلمات من معان وعلى قدر النقص في معاني الكلمات يكون النقص في تفكيرنا.

اذن كيف نفكر ؟
عندما نتأمل طفلا في الاشهر الاولى من عمره، نجد انه يعبر عن لغته (اي تفكيره) باصوات وحركات نفهم منها حالته. فنسمع صوتا يدل على حركة في حنجرته ونجد تعبيرا في وجهه ورفات من قدميه واشارات بيديه — هذه هي لغتنا الاولى. اي هذا كان طراز تعبيرنا قبل حوالي 300 الف سنة. ولمّا كبرنا تكلمنا، اي اقتصرنا على حركتي الحنجرة واللسان وتركنا حركات الايدي والاقدام. ولكن حركاتنا اللغوية هذه نتعلمها من الكبار ولا نخترعها. ولذلك على قدر ما في الكلمات التي ننطق بها بحركات اللسان والحنجرة يكون مستوى تفكيرنا.

وبهذه الكلمات، عشرة الاف او عشرين الف كلمة، قد اصبحت لنا ثقافة. فقد صرنا بها نفهم الدنيا والحياة، وكلما زاد عدد الكلمات التي يستعملها المرء، زادت ثقافته، فالانسان المتوحش مثلا، لم يزيد عدد الكلمات عنده عن مئة كلمة، بينما يزيد عدد الكلمات التي يستعملها الاديب الالماني غوته، عن ربع مليون كلمة ! وقد قال الباحث اللغوي ويتجشتين (حدود لغتي هي حدود عالمي) .
اذن انا اتكلم لثلاث غايات: 1 ،ان اتفاهم مع الاخرين 2 ،ان اتفاهم مع نفسي حين افكر
3 ،ان يكون لي موقف تجاه الاشياء والبيئة والطبيعة والكون. وهي هنا فلسفة وعلم وادب وفلكيات وطبيعيات الخ . فاللغة هنا تزيد وعي، اي كيف اجد نفسي مع كل هذه الاشياء. اي يرتقي احساسي بالوجود.

يقول جوليان هكسلي: ( ان تطور الانسان قد وقف بسبب اللغة ) — ويكاد يكون صادقا.
ذلك ان الزواحف حين شرع بعضها يجرب الوثوب في الهواء كي يلقط الفراش الطائر بدأ ينبت على جلدها الريش، فصارت طيورا. لكن نحن بما عندنا من ثقافة الكلمات قد استطعنا ان نطير بالحديد والنار، فالثقافة البشرية قد قامت مقام التطور العضوي في اجسامنا. اي ان الارتقاء اللغوي قد اعاق التطور العضوي.

من احسن ما قاله الفيلسوف الفرنسي الوجودي سارتر بهذا الخصوص :
(انا لا اثق بما لا يمكن التعبير عنه). وهنا نتسائل: هل نحن نتغير ثم نجر اللغة خلفنا،
ام اننا نحس وعيا لغويا جديدا يجعلنا نرى الدنيا على غير ما كانت عليه قبلا، فنتغير ؟
فأذا سلمنا بهذا. فاننا نحتاج الى تحرير مجتمعنا من الكلمات المريضة التي تحدث لتا طرازا شاذا من الاخلاق في علاقانتا الاجتماعية.

* مقتبس بتصرف من كتاب دراسات سيكولوجية لسلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here