80 لغتنا العربية و السيكولوجيا ac

بقلم د. رضا العطار

هذا البحث هو بحث علمي في القيم اللغوية . واذا كان هذا يجرنا الى ابحاث اخرى اجتماعية او تاريخية فأن الغاية الاولى يجب ان تبقى ماثلة . وهي اننا ننظر الى اللغة من خلال العدسة السيكولوجية , بعد ان حرمت من حقها في هذه الدراسة في الحقبة الماضية , وصحيح ان الرغبة في الاهتمام قد حملت البعض على دراسة الموضوع في اللغات الاوربية . ولكنه لا يزال بكر في اللغة العربية .

ان قيمة اللغة في التفكير وفي السلوك , لا تزال الى حد كبير مجهولة . والعجب اننا لم نلتفت من قبل الى اننا نفكر بالكلمات كما يقول – واطسون – واننا لا نعرف حقائق الاشياء التي نتناولها بالذهن او باليد . , وانما نعرف اسماءها فقط . وكثيرا ما يختلط علينا الاسم والمسمّى . فنظنهما شيئا واحدا . مع ان الحقيقة هي ان الكلمات رموز للأشياء . والشبه بينها وبين النقود كبير هنا . فإن الدينار العراقي مثلا عبارة عن قطعة من الورق نرمز بها الى قوة شرائية معينة . ولكن هذه القوة خاصة بنا نحن , اي بمجتمعنا وليس خاصة بالدينار . من حيث انه قطعة من ورق.

كذلك الشأن في الكلمات . فانها رموز فقط . فإذا لم ننتبه الى هذه الرموز , فاننا نقع في الوان من السخف . ونتورط في انواع من المعاني التي قد تضرنا بدلا من ان تنفعنا .
تستبد بنا بدل من ان نستخدمها . وكثيرا ما يحدث هذا لنا . فان ما نسميه تفكيرا مثلا انما هو او معظمه في اغلب الاحيان كلمات تجري على المستوى العاطفي , فتؤدي اللا الانفعال بدلا من التفكير .

وحينما نولد , يتسلط المجتمع علينا بالكلمات التي نتلقاها منه . فتنشأ وقد فرضت علينا مقاييس اجتماعية واخلاقية وروحية من هذه الكلمات . ونجد اننا نسلك سلوكا معينا , بما غرسته هذه الكلمات في اذهاننا من القيم . ونحن في هذا السلوك نعتقد اننا احرار , ولكن الواقع اننا مقيدون بهذه الكلمات التي بعثت في نفوسنا انفعالات , وفي اذهاننا انطباعات فيما لا مفر لنا من التسليم بها .

ان هذه الكلمات قد علمتنا من الصفر , حين لم يكن الذهن قد نضج وتدرب على التسائل والنقد . فنحن نسلم تسليما اعمى . ولا نعترض على المعنى الذي تفرضه علينا الكلمة . فنحن نقول : التفائل والسماء والروح والحياة والشرف والوطن والشجاعة . لكن لم يقف احدنا قط ويسأل : ما هذه الاشياء ؟ لأن جميع هذه الكلمات تحدث في انفسنا انفعالا، نظن انه طبيعي . لا يحتاج الى التسائل .

لكنها في الواقع ما هي الا مقاييس ذهنية نعيش بها. ونسلك في حياتنا على مقتضاها . ونظن حين نستعمل هذه الكلمات, اننا نفكر. والحقيقة ان التفكير هنا في حدود هذه الكلمات. لا يتجاوزها. بل الواقع اننا لو شرعنا في التفكير السديد المحكم في احدى هذه الكلمات, لهاج علينا المجتمع. وذلك ان هذا المجتمع قد ورث هذه الكلمات وانتظم بمعانيها. فهو يأبى على الفرد ان يستقل ويفكر منفصلا عنه . لان هذا التفكير هو عندئذ هجوم على هذا المجتمع, اي على عقائده وعاداته الذهنية وعواطفه النفسية.

لكل منا مجتمعه الذي يتأثر به ويفهم معاني الكلمات كما اكتسبها منه ز فكلمة الشجاعة مثلا تحمل طائفة من المعاني تختلف باختلاف المجتمعات. فالشاب في حلبة المصارعة يفهم من الشجاعة معنى خاصا. والجندي في الجيش يفهم من هذه الكلمة معنى خاصا آخر يختلف من المعنى الاول. وحين نقول شجاعة الاسد التي تختلف ايضا من المعنى الذي اقصده حين اقول شجاعة شهداء الدين. افهم معتى يختلف مما اعني حين اقول شجاعة سقراط. ثم لا ننسى شجاعة اللص الذي انشأ عصابة للخطف و الاغتيال. ثم شجاعة ذلك الفيلسوف الذي يرفض القتال ويرضى بالاعتقال لانه – عالمي – ثم شجاعة الكاتب الحر الذي لا يبالي بطش السلطة الغاشمة او بالرأي العام.

و الكلمات بذلك لا تكسبنا اتجاها اخلاقيا على – المستوى الذهني – فقط , بل تكسبنا ايضا اتجاها مزاجيا على – المستوى العاطفي – . فإن كثيرا مما نشمئز منه او نطرب له او ننشط اليه, يعود الى الكلمات التي تعلمنا وانغرست بها عواطفنا. وحسب القارئ ان اذكر له ان كثيرا من الرجال والسيدات في بلادنا العربية يشمئزون من سمك الحيّة, مع انه مثل سائر السمك بل يعد من اجوده. وذلك لانه يسمى ثعبان. انظر الى كلمة البجع, انه اسم لطائر, مع ذلك لم يذكره شعراء العرب في اشعارهم , مع ان اسمه يتردد كثيرا في الشعر الاوربي , انهم يتغنون بجماله. الى جانب ذلك يذكر كثير من شعرائنا اسم البلبل, لحلاوة اسمه فقط مع انهم لم يروه, وليس فيه شئ من جمال البجع.
, فهنا لنا عبرة . فإذا شئنا ان نعمم رأيا، اخترنا لها اسما مغناطيسيا جذابا .

والخلاصة اننا نفكر بالكلمات. وكثيرا ما نُخدع فنظن اننا نعالج الاشياء في حين اننا نعالج اسماءها فقط . ثم ان الكلمات تكسبنا اتجاها اخلاقيا, او تكون لنا مزاجا فنيا خاصا. واحيانا تحمل الينا تقاليد هي رواسب الثقافة القديمة التي كثيرا ما تضرّنا في مجتمعنا العصري .

طبيعة الكلمات هي الجمود. وطبيعة الاشياء التي تعبر عنها هي التغيير. فكل شئ في الدنيا بل في الكون يتغير. والحياة في الحيوان والنبات هي اعظم المظاهر لهذا التغير . وهذا التغير على اقصاه في الانسان. لانه يعيش في مجتمع تتغير به اخلاقه وعاداته وآراءه ونحن في تفكيرنا نتخذ اسلوبين : الاسلوب الموضوعي , حين نتجرد من احساسنا الشخصي . كما لو قلنا : كرسي او اسد او شمس او شارع . فكلنا على وجه التقريب يذكر هذه الاسماء دون اي انفعال . وكلنا سواء في ادراك صورها . ولذلك اذا كنا في حوار وذكر احدنا الشمس او الكرسي لم يحتاج الاخر الى ان يسأله : ماذا تعني ؟ لان المعنى واضح وصريح . فالكلمات هذه موضوعية , اي انها غير متأثرة بذواتنا. والمفكر العلمي يحاول على الدوام الوصول الى هذا الاسلوب الموضوعي في التفكير اي انه حين يبحث مشكلة يتجرد من احساساته وميوله وما يحب وما يكره.

لكن هناك الاسلوب الذاتي , اسلوب الاديب والفنان . فرجل الادب يتحدث عن المثاليات او الجمال او الذوق او العظمة. وهذه الكلمات جميعها ذاتية اي تعبر عن احساساته وانفعالاته ولذلك تختلف فيها كثيرا. فقد يقول احدنا ان القناعة من فضائل الفلاّح . فأرد انا عليه ولي انفعالات نفسية : لا , بل هي من رذائله . وقد يستمع احيانا الى امرأة تغني فيقول : ان الاغنية حسنة . فيرد الاخر بأنها ليست اغنية وانما اغنوجة.

ومن هنا نفهم ان الغناء والقناعة كلمتان ذاتيتان تختلف فيهما كثيرا. اما الكرسي والشارع , فكلمتان موضوعتان لا علاقة لهما بانفعالات ولا باحساسات. ولذلك لا نختلف فيهما. فحين اسمع احدهم يقول – امرأة جميلة – فاني افهم كلمة امرأة ولا اختلف معه لان الكلمة موضوعية ولكنه حين وصفها بالجمال قد تعرض للمناقشة , لان الكلمة ذاتية . اذ قد تكون فكرتي عن الجمال غير فكرته.

والكاتب الذكي هو الذي يحاول ان يكون علميا موضوعيا, وليس عاميا ذاتيا. ولكن يجب ان نذكر ان اللغة ستحتوي على الدوام كلمات ذاتية تعبرعن الاداب والفنون . وهي هنا ليست عامية ولكنها تعبر عن ذاتية ممتازة.
انظر مثلا الى قول احدنا : هذا الصبي ذكي . فإن وصف الذكاء هنا قد يكون ذاتيا لان المتكلم ربما وصفه بذلك لانه استحبه. او لان هذا الصبي قد خدمه او لان المتكلم نفسه ليس ذكيا . فكلمة – ذكي – هنا ذاتية. ولكن السيكولوجيين استطاعوا ان يجعلوا هذا المعنى موضوعيا . فهم يقولون : – هذا الصبي يبلغ معدل ذكائه 107 – وذلك بعد قياس مضبوط.

وكلمات الشرف والجمال والثقافة والغباوة والفاقة والثراء والعدل والشجاعة والقناعة والتكبّر والغضب والتسامح , كلها كلمات ذاتية تعبر عن انفعالاتنا الشخصية او ظروفنا البيئية ولا دخل لها في الحقائق الموضوعية , مثل الكرسي او الشارع , والتفكير السديد الذي يحاول ان ينقلنا من النظر الذاتي للأشياء الى النظر الموضوعي ومن الوصف المائع العام الى الوصف بالارقام . كما راينا في معدل الذكاء.
ان كثيرا من الفهم السيءللفلسفة القديمة التي عالجت شؤون الدنيا بكلمات ذاتية , قد اختلفت معانيها بعد مرور الف سنة.
* مقتبس من البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here