حوار مع والدي بمناسبة صدور كتابه “الجواهري بلسانه وبقلمي”

د. خضر سليم البصون
ليلة أمس ترآى لي أبي بعد غياب طويل وسألني سؤاله التقليدي باللهجة العراقية “شكو ماكو؟”

أجبته يا أبي لدي الكثير مما أريد أن أحكي لك. هل تصدق أنني قرأت قبل أيام في الشبكة العنكبوتية أن كتابك “الجواهري بلسانه وبقلمي” قد رأى النور أخيراً … نعم، بعد كل هذه السنين وكما حلمتَ، أن يُنشر في بغداد التي تركتها قبل أربعين عاماً. نشرته دار ميزوبوتاميا لصاحبها مازن لطيف وضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 ولقد كتب المقدمة صديقك الأستاذ شموئيل موريه. ولقد أرسلنا النسخة المطبوعة لمازن بالبريد الإلكتروني.

وهنا قاطعني أبي قائلا”: يا ولدي ما عهدتك أن تستهزأ بي. أنا لا افهم ما تقول. شنو شبكة عنكبوتية، بريد إلكتروني ؟ كتاب الجواهري تركته مخطوطاً وأنت تقول لي الآن طُبع في بغداد . سامي… أستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية كتب المقدمة! منو مازن لطيف، إنني لا اذكر سمعت به.. وبدأ يضحك. ثم قال “شجاب واحد على اللاخ” و باللهجة اليهودية العراقية التي نادراً سمعناه يتكلم بها – أشقتخربط، أشقتلغوص؟ (مشتقة من كلمتي خربطة ولغوصة)

ابتسمت وقلت تعذرني يا أبي نسيت انه لم يكن في زمانك شبكة عنكبوتية أو بريد إلكتروني– دعنا من هذا مؤقتاً وسوف اشرح لك اذا اتسح الوقت. لدي الكثير مما أريد أن احكي لك عن الكتاب، عن عراقك الحبيب وما جرى ويجري له.

قال إنني أذن صاغية. ولكن كما تعرفني سوف أقاطعك وأسألك كما سألت الجواهري حينه أسئلة عميقة. ابدأ يا ولدي:

قلت لا ادري من أين ابدأ وانا لم أراك منذ سنين. سأرجع سنين للوراء. أتعلم يا والدي كم كانت رغبتنا نحن العائلة أن نحقق حلمك في أن ينشر كتابك المهم عن الجواهري الذي أكملته قبل أن تركت العراق. وهنا قاطعني قائلاً: لماذا تقول تركت العراق؟ قل أضررت إلى الخروج من العراق. أنت تعرف كم عانيت من الاضطهاد وكم من مرة دخلت السجون ولم أترك! أنت تعلم إنني لم أهاجر مع أغلبية يهود العراق في أوائل الخمسينيات. بقيت مع والدتك وأنت ابن العامين. كل عائلتي هاجرت إلى إسرائيل – والدتي، إخوتي، أجدادي، كل أقربائي….. كل العشيرة كما يقولون. كمّل يا بني.

قلت يا أبي أننا حافظنا على مسودة الكتاب كأمانة تركتها لنا بخطك الجميل. أنت تعلم كم من الأصدقاء والزملاء من الأدباء والصحفيين من يهود العراق الحوا عليك حين كنت حياً أن ينشر الكتاب وترددت. لقد توفى معظمهم – أنور شاؤل، نعيم طويق، مراد العماري، اسحق بار موشيه، منشي زعرور، أبراهام عوبديا، مئير معلم …..وهنا قاطعني.

الله يرحمهم لكن يا ابني، أتعلم لماذا ترددت؟ عندما أنهيت الكتاب في صيف 1973، خشيت أن تعرقل عملية طبع الكتاب استطاعتنا أنا والوالدة الخروج من العراق بعد أن صدرت موافقة وزارة الداخلية أخيراً على منحي جواز سفر. أنت تعلم كم هي كانت صعوبة البقاء في العراق بعد أن أُعدم وقُتل العشرات من اليهود وبعد هجرة بقية الجالية ومن ضمنهم أنت وأختيك كهرمان ونيران. أتذكر إنني قد احتجزت من قبل مخابرات الأمن في سنة 1973 ولو لم يتداركني بعض الأصدقاء وبوساطتهم لألحق بي أذى اكبر؟ لم نتحمل فراقكم ونحن علم اليقين انه سوف لن نلقاكم إلا بالخروج من العراق. كيف نستطيع أن نخوض العذاب ثانية بعد أن فقدنا أهلنا في 1951؟

عندما كتبت هذا الكتاب قبل أربعين عاماً، افصح لي الجواهري من خلال اللقاءات والمراسلات عن الكثير من الحوادث التي مر بها وعن وثائق غير منشورة فضلاً عن قصائد ورسائل خاصة. لقد أخذت مسودة الكتاب معي إلى إسرائيل وهناك فكرت في طباعته ولكني عدلت عن هذا لأسباب عدة منها مراعاتي مما قد يسبب للجواهري من حرج أو حتى أذى وهو على قيد الحياة من إصدار كتاب عنه بقلم كاتب يهودي يعيش في إسرائيل. بالإضافة لعدم وجود وعي شعبي في إسرائيل بأهمية الجواهري ومكانته في الأدب العربي واقتصارها على قلة من الطبقة المثقفة التي تستطيع قراءة الأدب العربي ثم فقدان الاتصال مع العراق والعالم العربي حيث يتواجد جمهور القراء والمهتمين بالجواهري.

أذكر كم من المرات طلب مني صديقي شموئيل موريه (سامي معلم) أن يطبع الكتاب برعاية رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق التي يرأسها وحتى بعد مرضي أخبرتني والدتك انه كان عندما يراها يسألها “ها اشصار ويالكتاب؟ فابتسمت ابتسامة عميقة نظر إليها باستغراب ولكنه استمر كمن لا يريد أن تقطع هذه الابتسامة “الغريبة” حبل أفكاره . لقد حتى فكرت أن اطبع الكتاب في لندن ولكن بعد مرضي سنة 1981 أصبح من الصعوبة طباعة المسودة الخطية والإشراف على تنقيحها ثم اختيار المطبعة، الناشر، الخ. أنت تعلم كم إنني حريص على الدقة. عندما كنت رئيس التحرير لصحف كثيرة في العراق ومن ضمنها الرأي العام للجواهري كنت انقح واشرف على كل المقالات والأخبار كي تخرج الجريدة بالصورة الصحيحة . كنت ابقى في المطبعة حتى ساعة متأخرة من الليل لأتأكد أن كل شيء على ما يرام. لم ارجع للبيت قبل الثانية أو الثلاثة صباحا. بالمناسبة هل تعلم أن الجواهري كان كثيراً ينسى أن يكتب المقال الافتتاحي وإرساله للطبع لذا أعطى لي الحق بكتابة المقال الذي ينزل في الجريدة بتوقيع الجواهري !! هكذا كانت الثقة بيننا – كنت استطيع أن اقرأ فكر الجواهري وماذا ينوي أن يقول وأن اكتب المقال بأسلوبه.

قلت لقد كتب عن هذا احد معارفك ويظهر انه يعرف العائلة أيضاً ولكننا لا نعرف هويته حيث وقع باسم مستعار “المنسي القانع”. ولكن يا أبي سمعت أن الجواهري لم يذكرك في ذكرياته، لماذا؟ فأجاب أتستغرب هذا وكل هذه الحساسية تجاه اليهود؟ ربما لم يرغب في أن يذكر أن رئيس تحرير جريدته الرأي العام كان صحفياً يهودياً. لا تستغرب. أن كامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي لم يذكر أيضا الصحفي الكبير نعيم طويق في مذكراته وكان نعيم احد المقربين له ويكتب مقالاته السياسية لصحافة الحزب. كان الجادرجي يدعوه إلى داره ويكتب معه المذكرات وكذلك زميلي وصديقي مراد العماري لم يُنصف. أتمنى أن يذكرنا وينصفنا التاريخ.

ثم فجأة توقف والدي عن الكلام للحظة كمن يريد أن يستذكر شيئا ما وقال لماذا ابتسمتَ عندما تكلمتُ عن شموئيل موريه؟

فأجبته بالقول وحتى بعد وفاتك لم يتوقف عن إلحاحه وتشجيعه أن ننشر الكتاب ونجح أخيراً في إقناعنا. لقد كتب مقدمة “على كيفك” لكتابك، قال فيها: كتب العديد من المؤرخين والأدباء عن حياة شاعر العرب الأكبر، غير أن كتاب “الجواهري بلسانه وبقلمي” للأديب سليم البصون، يعد بحق من اوثق المصادر العلمية عن شاعرية محمد مهدي الجواهري، لان شاعرنا أملاها على صديقه وموضع ثقته وجاره سليم البصون المعروف بأمانته ودقته في التأليف والكتابة والنقل.”

وتنهج والدي بارتياح وقال: عظيم وبعدين …..

قلت كتب أيضاً معنياً إياك ” ولما اخبرني بكتابه الفريد “الجواهري بلسانه وبقلمي”، ألححت عليه بنشره في “سلسلة كتب رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق”، تردد قليلا، إلى أن كان ما كان من مرضه ووفاته، فعاودت اقتراحي بنشره في سلسلة منشوراتنا، وأخيراً بعد مشاورات عديدة فضلنا نشره في بغداد مسقط رأسنا، حسب رغبة كاتبها، لنرد الأمانة إلى الشعب العراقي الكريم، ولنضع بين يديه هدية ثمينة حافظ عليها صديقنا الوفي لتحقيق حلمه. رحم الله صديقي سليم البصون، كم عانى في حنينه إلى العراق الحبيب بالرغم من السجون والاضطهاد الذي عانى منها مع أحرار العراق الأباة.”

وهنا ابتسم والدي ابتسامة عميقة وقال: والله نعم الصديق. ولكن سؤال قصير – هل كان الإهداء كما كتبته إلى الجواهري وشعب الجواهري؟

فأجبت نعم كما كتبت، ثم استدركت أتعلم يا أبي أن الجواهري توفى ودفن في سوريا وقد نزعت الجنسية العراقية عنه كما نزعت عنا، أن حكم البعث وصدام حسين انتهى قبل عشر سنين ولكن أبناء العراق يقتلون الواحد الآخر والأبرياء يتساقطون بالعشرات يوميا نتيجة التفجيرات. أن الأقليات تهاجر وهناك الملايين من العراقيين في الخارج.

وهنا بدا الحزن واليأس على وجهه وقال: أين ذهب الشرفاء والوطنيين؟ أنا في حيرة، كيف وصلنا إلى هذا الدرب؟

فأجبت يا أبي هذا موضوع شائك سيطول فيه الكلام، لنعد للكتاب. وهنا وافق قائلاً أصبت لا أريد أن افتح القرحة. لهذا زمان آخر. ولكن يا خضر. لدي أسئلة كثيرة من قام بطبع مسودة الكتاب؟ من اشرف على التنقيح؟ كيف وصل كتابي إلى العراق؟ ومن هو مازن لطيف؟ ما علاقته؟ –هل يعرفني؟

فأجبته – في سنة 2010 وفي ذكرى وفاتك الخامسة عشر قررنا نحن العائلة أن نقوم بهذه المهمة الصعبة – نشر الكتاب كأحسن وسيلة لأحياء ذكراك. ومن يبدأ هذا المشروع غير ماما (بنت الثمانيات) المفعمة حيوية والتي تعلمت برنامج معالجة الكلمات (بالكومبيوتر) لكي تطبع المسودة – لقد أعطتنا القدوى لنساعد أنا وكهرمان في تنقيح الكتاب وإعداده للنشر واعذرنا عن التقصير اذا حدثت أغلاط. وهنا اعترضني والدي قائلاً شكرا جزيلا لها ولكم وحبيبتي أختك الأفندية نورة (نيران) القاعدة بلندن اشسوت؟

فضحكت وقلت تعلمت على يدك وتمشي على خطاك – هي المسؤولة عن العلاقات الاجتماعية والاتصالات في العراق والشرق الأوسط بل العالم برمته. وهي لها الفضل الرئيسي في نشر الكتاب في العراق وسأحكي لك الحكاية في مختصر وأسالني اذا لم يكن واضح.

وهنا جاء الوقت لأتكلم عن مازن لطيف، عن العراق، عن ما حدث في السنين بين وفاة والدي في 1995 والان.

أبي لقد حصلت ثورة في عالم الاتصالات والمعلومات والان من الممكن من خلال الكومبيوتر والتلفون أن تتلقى وترسل أي معلومات – رسائل، صور، أفلام، وحتى كتب كاملة خلال ثواني أو دقائق لأي مكان في العالم. تستطيع أن تقرأ جرائدك المفضلة عن طريق ما يسمى الشبكة العنكبوتية الإنترنت وتستطيع أن تكتب وتنشر بدون رقابة. خذها مني كل شيء ممكن. وعدي لك كل مرة تزورني سوف أحدثك عن هذا الموضوع ولديّ الكثير.

وهنا ابتسم وقال – بدون رقابة ! كم عانيت منها.

قلت هذا احد الأسباب أن الكثير من الباحثين العراقيين الشرفاء أخذوا يكتبون في الصحف الإلكترونية عن دور اليهود البارز في بناء الدولة العراقية في النصف الأول من القرن العشرين وعن إسهامهم الإيجابي في كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكذلك عن عطائهم في مجالات الأدب والفن والصحافة والقانون. وعلى ذكر الصحافة لقد كتب العديد عنك وقد وصفك البعض كمن رواد الصحافة العراقيين. لقد بدأنا نقرأ التعليقات الإيجابية والذكريات من الزملاء الذين عملوا معك وعرفوك ومن بقى على قيد الحياة هم قلة الآن.

وأضفت أن من ابرز الكتّاب والمؤرخين العراقيين الذين أخذوا على عاتقهم أحياء ذكرى يهود العراق هو مازن لطيف (من مواليد 1973 – سنة خروجك من العراق) وقد كتب سيرة حياتك وذكرك في الكثير من مقالاته وفي كتابه الذي صدر حديثاً “دورة القمر القصيرة ليهود العراق ..البزوغ والأُفول في تاريخ العراق الحديث”.

أختي نيران معروفة جدا في أوساط الجالية العراقية في لندن خلال اهتمامها في السنوات الأخيرة بإحياء فعاليات مختلفة أغلبيتها متعلقة بالعراق وبتراث يهود العراق وظهرت في بعض قنوات التلفزيون العربية. وهي على اتصال مع الكثير من الكتاب العراقيين في العراق وفي دول أخرى ومن ضمنهم مازن لطيف الذي لديه دار للنشر. عندما أعددنا كتابك للطبع عرض علينا مازن أن يأخذ على عاتقه هذه المهمة. ثم جاء بعرض لم نحلم أن يتحقق وهو أن ينشر الكتاب برعاية وزارة الثقافة العراقية من ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013.

أرسلنا لمازن نسخة من الكتاب في نهاية 2012 وقام هو مع رفقائه بإعداد الكتاب وتصميم غلاف جميل جداً. بالإضافة لما كتبتَه ومقدمة شموئيل موريه كتبتُ أنا كلمة عن الكتاب نيابة عن العائلة وسيرة مفصلة عن حياتك بعنوان ” لقطات من حياة المرحوم سليم البصون (خلد الله ذكراه) وتفاعلها مع الصحافة والسياسة في عراق القرن العشرين” . وقد تضمنت كلمتي ذكرياتي معك ومع الجواهري – ” كانت علاقة والدي مع الجواهري حميمة، في الفترة التي رافقه فيها في الصحافة وخاصة جريدة الراي العام والتي كان والدي رئيس التحرير الفعلي لها. اذكر زياراتي العديدة لوالدي في المكتب والمطبعة ورؤيتي للجواهري. أذكرها كأنها حدثت البارحة .اذكر الصور الكثيرة للجواهري مع والدي والتي أحرقناها مع المئات من الصور الأخرى بعد انقلاب 8 شباط 1963.لا نعلم كم من المثقفين والباحثين دارين بهذه العلاقة – لعل نشر هذا الكتاب يضع اسم البصون في مكانه اللائق في حياة الجواهري.”

لقد تمت كل التنقيحات بالاتصالات الإلكترونية الآنية – يعني في دقائق ممكن إرسال واستلام الكتاب مع التنقيحات من وإلى أي مكان في العالم. هكذا وصل الكتاب إلى مازن في بغداد ليعد ويصمم في دمشق ويطبع في بيروت ويوزع من قبله في العراق و الدول العربية والعالم – هذا عالم أخر ليس العالم الذي تركته. لقد تعهد مازن لنا أن يرسل كتابك للمثقفين وللجامعات وكذلك سيعرض في المعارض الثقافية. سوف نرسل نحن العائلة نسخ إلى أصدقائك والى العديد من أستاذة الأدب العربي. هكذا يا أبي رأى كتابك النور.

وهنا ابتسم والدي ابتسامته العريضة التي عهدتها في صغري وقال الف والف شكر لمازن والوزارة. كم هي مفارقات القدر – أن ينشر الكتاب من قبل مازن ابن الأربعين بعد أربعين عاماً من كتابة الكتاب وخروجي من العراق وبرعاية وزارة الثقافة – أتعلم أنني تحدثت حينذاك مع أصدقائي في الوزارة وكانت لهم الرغبة في أن ينشروا الكتاب!!؟ وهنا بدأ والدي يبتعد باتجاه نهر تحيطه النخيل وهو ينشد: “حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين”.

ووجدت نفسي اصرخ : بابا بابا وين انت رايح عندي الكثير لأحكي لك. فسمعته يقول بعدين بعدين، في لقاء آخر، عندي جلسة نقاش مع الأصدقاء. وعدي أن أزورك ثانية وثلاث. وهنا أحسست بنغزة حادة في جنبي وزوجتي تقول بلغتها ما معناه: ديفيد ديفيد، لماذا تصرخ بالعربي في نصف الليل هل هو كابوس؟ فقلت لها لا كان حلم جميل – خضر يقص حكاية لأبيه.

0 0

0

مواضيع ذات صلة

حوار مع والدي بمناسبة صدور كتابه الجواهري بلسانه وبقلمي

حوار مع والدي وأصدقائه (3)

قراءات في قراءات

والدي وقصة كتاب

إنها عطلة المدارس الصيفية، سأبلغ بعد شهر ونصف التاسعة. كنا نسكن في البتاوين في بيت صغير (مشتمل)، مؤجر من عائلة مسيحية، كانت قد بنته كملحق لبيتهم “الكبير”. يقع هذا المشتمل على بعد خمسة دقائق مشياً من الشارع العام (من رؤيتي لخريطة بغداد – كان هذا شارع النضال). عالمي كان محدوداً بين مدرسة الطائفة اليهودية – فرنك عيني، التي تقع في العلوية، بيت خالي (الأقرباء الوحيدين الذين بقوا في العراق بعد التسقيط) وبيت صديق لي في المدرسة وسوق البتاوين.

كانت والدتي قد حضَرت علي أن العب في خارج البيت بعد أن كسر سني احد أولاد الحارة الذين كنت العب معهم بحجر رماه بمصيادة عصافير– الله اعلم، إن كان متعمدا أو خطأً، المهم سلمت عيناي. كنت أتكلم اللهجة المسلمة الدارجة وليست اللهجة اليهودية، حتى في البيت والمدرسة. اسمي لا يدل على إنني يهودي، ولكن على الرغم من هذا كان أولاد الحارة على معرفة إنني يهودي، ويستغلون ذلك اذا نشب نزاع أطفال بين الحين والآخر. كنت لا اسكت اذا وصفني احد الأولاد بكلمة بذيئة لكوني يهودي. بعد هذه الحادثة، قررت والدتي إن من المحبذ إن لا العب خارج البيت وادخل في عراك. طبعاً بين الحين والآخر كنت أحاول أن اقنع والدتي بالخروج لشراء بعض احتياجات البيت من الحانوت في نهاية شارعنا. هكذا كنت اختفي لساعة أو ساعتين، معظم الوقت كنت اقف متفرجاً على الأولاد الأخرين يلعبون كرة القدم والدعبل. بعض المرات كانوا يدعوني لمشاركتهم. وعلى الرغم من أن الثمن لتأخري كان العقاب في البيت، لكني كنت أتقبله راضياً لهذه الساعتين من الحرية.

لم تكن هنا مشكلة خلال السنة الدراسية عندما كنا مشغولين. بما أن المدرسة كانت في منطقة أخرى فقد أجّرت لنا باصات خاصة تأخذنا في الصباح إلى المدرسة وترجعنا بعد الظهر إلى بيوتنا. كانت الرحلة تستغرق حوالي الساعة، يتم فيها لم الطلاب والطالبات الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة وسنين الثانوية. بالنسبة لي كانت هذه الرحلة اليومية مشوقة لأنني كنت أرى فيها العالم الخارجي بين البتاوين والعلوية. في السنين الأولى من طفولتي (الدراسة الابتدائية) كانت المشكلة في العطل وخاصة الصيفية، كيف الهّي نفسي. لم يكن لدينا تلفاز أو نتمتع بحديقة في البيت. أختاي كانتا اصغر مني بسبع وثمان سنين – يعني ليستا “مؤهلات” للعب!. لهذا كانت قراءة الكتب والصحف وهواية جمع الطوابع وما يتبعها من معرفة للتاريخ والجغرافية، ملاذي وحبي.

منذ بداية هذا الصيف، ألححت على والدتي أن تسمح لي بالذهاب إلى سوق البتاوين لشراء الخضروات والفواكه بدون مرافقة احد. أن السوق يبعد عن بيتنا حوالي عشرين دقيقة مشياً وقد أكّدت عليها اني اعرف الطريق جيداً واني لن أضيع. وبعد تردد واستشارة والدي الذي شجعها، وافقت والدتي على ذلك على شرط أن اذهب مبكرا في الصباح وقبل أن تبدا حرارة الصيف القائظ.

خرجت الساعة السادسة صباحاً، وانا فخور بانها أول مرة اذهب وحدي إلى السوق، (يعني صرت رجال). اشتريت من الخضراوات والفواكه ما استطعت حمله في الأكياس وبدأت بالعودة للبيت وانا افكر – هذا تاريخ مهم في حياتي، الأثنين 14 تموز 1958 . لكن ما هذا الصياح وهذه الموسيقى الحماسية تنبعث من المذياع – الله اكبر، لاحت رؤوس الحراب، بغداد يا قلعة الأسود، وبين الحين والحين يسمع أزيز الرصاص. وقفت قرب احد الحوانيت محاولاً أن استمع إلى المذياع ولكني لم افهم ماذا يقول: بيان رقم واحد، “بعد الاتكال على الله، ومؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة، أقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصّبها الاستعمار لحكم الشعب، والتلاعب بقدراته لمصلحتهم، وفي سبيل المنافع الشخصية.” وبدأ الناس يعانقون الواحد الآخر ويرمون الحلوى.

ليس باستطاعتي أن اركض إلى البيت مع هذا الثقل من الأكياس لأفهم ما يجري. ولكني أسرعت الحثيث والموسيقى الحماسية تتبعني. وصلت أخيراً إلى البيت بعد الساعة السابعة. اتركها لمخيلتكم في أي حالة وجدت والدتي ووالدي. أنا اسأل ماذا يحدث، ووالدتي تحضنني وتقبلني وتفحصني وتقول لوالدي “دتشوف أول مرة اخلي الولد يروح للسوك وهو يسويلنا ثورة” .

بعد أن فهمت ما حدث، على صغر سني، اكتشفت وبمضي الأيام أن والدي كان ضد الملكية، ضد حكم نوري السعيد، كان يساري، ماركسي، ليبرالي، تقدمي، ديمقراطي – سمه ما تشاء .لقد كان ينتظر هذا اليوم كل هذه السنين. الآن يستطيع أن يكتب بحرية ويعبر عن آرائه في عراق حر افضل.. ربما تضحيته (وتضحية والدتي) في أن لم ينضموا مع بقية اليهود في الخروج من العراق قبل أقل من عشر سنوات، لم تضع هباء. ربما سيكون مساواة ومستقبل مشرق. ربما، ربما…

كطفل في التاسعة لم افهم لماذا ملكنا “المحبوب” ابن الثالثة والعشرين، والذي كنا ننشد له “عاش الملك” قبل أسابيع في ساحة المدرسة، قتل مع كل عائلته بصورة همجية ولماذا تم السحل والتمثيل بالجثث (بخاله عبد الاله ونوري السعيد…). اذكر أننا انزلنا صورة الملك من الحائط وعلقنا بعد أيام صور عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف ونجيب الربيعي. بعد اشهر نزلت صورة “المتآمر” عبد السلام عارف من الحائط وبعد اقل من سنة اختفت صورة الربيعي وبقت لدينا صورة الزعيم الأوحد – الذي أحببناه.

انظر إلى هذا الماضي وأتسأل هل كان أبى من الواقعيين أو الحالمين. في تلك السنين كان والدي يركب موجة عالية، كان مؤيد لعبد الكريم قاسم حتى النهاية بالرغم من الأخير ارتكب أخطاء و تقلبات، كان يعذره ويقول انه لا يتلقى النصيحة الصحيحة من المحيطين به.

كطفل انطبع يوم 14 تموز في ذاكرتي. كان يوماً مهماً في حياتي، كان يوم حريتي، خرجت من سجن شارعي وحارتي. هل تستطيع والدتي أن تبقيني الآن في البيت وانا الذي كنت مع الجماهير الثورية في هذا اليوم من تموز، وقد رجعت بسلام إلى البيت!

بعد أيام، اندلع اكبر حريق في بغداد – مستودعات نفط شركة خانقين (مستودعات الكيلاني- قرب ساحة الطيران). المنطقة المحاذية لهذه المستودعات كانت منطقة ذات كثافة سكانية كبيرة تتكون من صرائف يسكنها فقراء بغداد وعرفت بالميزرة (بدلاً من المجزرة حيث يستبدل الجيم بالياء حسب لهجة بعض المحافظات الجنوبية) وكانت تعرف أيضا ب “العاصمة” أو “خلف السدة” (والسدة هنا هي السدة الشرقية التي بناها ناظم باشا الوالي العثماني لصد مياه الفيضان عن بغداد). من نظرتي لخارطة بغداد، حل محل هذه السدة طريق محمد القاسم السريع الذي يقطعها شرقاً.

كان لهيب النار مخيفاً وأعمدة الدخان الأسود الذي غطى السماء، تشاهد عن بعد عدة كيلومترات. كانت هناك رائحة كريهة في الجو تخنق الأنفاس. استمر الحريق لأيام، قبل أن تستطيع الدولة بمساعدة خبراء أجانب إخماده. من الصعوبة في تلك الأيام أن ننام على السطح ونحن نسكن في البتاوين المحاذية لشارع النضال من الجهة الغربية. طبعا كان هناك خوف كبير من أن يتسع الحريق ليمتد إلى منطقتنا القريبة اذا اشتدت الرياح وغيرت. كان تموز لن أنساه!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here