القُدس.. وَهم الفِكرة وظُلم القوة

رشيد الخيّون

يغلب على الظَّن أن الرَّئيس الأميركي ترامب تباحث مع إدارته عن إطلاق تصريحه (الأربعاء 6/12/2017)، في اعتبار القُدس عاصمةً لإسرائيل، هل يكون مناسباً في 2 نوفمبر إحياءً للذكرى المئوية لوعد بلفور؟! فيبدو أنهم وجدوه اتفاقاً مضرجاً بالدِّماء، لذا أُجل شهراً وأيام.

كادت تُطمر الفكرة الدِّينية القاضية بحق اليهود بفلسطين؛ يوم اقتُرحت أوغندا وطناً، قبل وعد بلفور، كذلك يُذكر مقترح آخر، اقترحه الكاتب الإنجليزي إسرائيل زانجويل (ت 1926)، وكان عضواً في المنظمة الصّهيونية، أن يكون جنوب العراق مشروعاً «يقضي بإسكان اليهود المنتمين إلى الأقطار الأوروبية المختلفة في تلك المنطقة العثمانية. ولد هذا المشروع بالارتباط مع بناء سكة حديد بغداد، ومشروع إحياء قنوات الرَّي القديمة في العراق الجنوبي»(آداموف، ولاية البصرة). كان آدموف قنصلاً روسياً بالبصرة، في نهاية القرن 19، ونشر كتابه هذا في(1912).

لستُ بصدد مناقشة الفكرة الدِّينية بفكرة مضادة، فسيكون الأمر تقول ويقولون، وكلٌّ يأتي بدليله الإلهي، والأفكار حمالة أوجه، هذا ما أدلى به الشَّيخ علي عبدالرَّازق(ت1966)، في تعليقه على كتاب نظيرة زين الدين(ت 1976) «السُّفور والحجاب»، قال: «أما في مجال العمل فقد يكون الجدل، ولا سيما الدِّيني مِن أشد ما يعوّق العاملين»(الهلال 1/8/1928). فالاختلاف بتسمية الحائط في أن يكون «المبكى» أو البراق«سيصرف كاغد الدّنيا، وماء البحر مداداً، ولم يحصل اتفاق».

كذلك لا نميل إلى ما صدر مِن كُتبٍ عن جغرافيا «التَّوراة»، باليمن أو الجزيرة العربية، فالطرف الآخر سيرد بما عنده، ويبقى الجدل مفتوحاً، والنَّاس تعيش المأساة في دمائها ومعتقداتها، ذلك ما كتبه صليبي(ت 2011) في «التَّوراة جاءت مِن جزيرة العرب»(1985)، وفرج الله ديب في «التَّوراة العربية وأورشليم اليمنية» (1994) وآخرون. فهذا وغيره لا يعني أصحاب العقائد.

لكن ما نريد تأكيده، ماذا يبقى مِن الفكرة الدَّينية إذا خُضعت للبحث العقلي؟! هل ستنجو العقيدة بالمسيح المُخلص مِن اعتراض العقل، أو عقيدة المهدي المنتظر ودولته، وادعاء الممهدين لها، ولا أخفي شكي في أن الراكبين ظهر العقيدة، يرون في قيام «إسرائيل» والقُدس عاصمتها بمثابة التَّمهيد لدولة المسيح المخلص؟! وهل تنجو عقيدة بناء الهيكل إذا خُضعت للفحص العقلي؟! مثلما إذا اخضعنا عقيدة قيامة السَّيد المسيح لمنطق العِلم، وأفرغناها مِن ألقها الدِّيني، كيف يكون أمرها؟!

نقول هذا لا تشكيكاً بعقائد النَّاس، على العكس نحترمها ونجلها، لكن صوناً من استغلالها، لتُبعد عن السِّياسة، وتبقى بحدود العقيدة، وإلا يكون اعتراضنا على السلفيات الجهادية، في ما تسعى إليه لإقامة الخلافة الدِّينية باطلاً، إذا كان الرئيس الأميركي يجمع بين الفكرة الدِّينية وظلم القوة. جاء أفضل ردَّ على «الصّهيوينة» مِن يهود: جرت مقابلة مع ساسون حسقيل النَّائب في مجلس المبعوثان في إستانبول، نشرت في مارس 1909 في جريدة العالم العبرية، وقد سُئل نائب يهود بغداد عن الصُّهيونية، فقال:«إن اللغة العبرية لغة دينية محضة، ولا فائدة من اتخاذها لغة الكلام اليومية، واقترح -إذا أمكن- تأسيس مركز روحاني يهودي في فلسطين» (بصري، ملحق نزهة المشتاق).

أما الرَّد على بلفور فجاء صاعقاً أيضاً على لسان وجهاء يهود عندما استفسر منهم الحاكم البريطاني على العراق: فـ«رآهم واجمين، وقالوا له: إن فلسطين مركز روحي لنَّا، ونحن نساعد المعابد ورجال الدِّين فيها مالياً، لكن وطننا هذه البلاد(العِراق)، التي عشنا في ربوعها آلاف السِّنين. وعملنا بها. وتمتعنا بخيراتها. فإذا رأيتم أن تساعدوا هذه البلاد، وتحيوا اقتصادياتها، وتسندوا تجارتها وماليتها، فإننا نشارك في الرَّخاء العام»(المصدر نفسه).

ليس كما يتصور الرَّئيس ترامب، وما تفوه به رئيس وزراء إسرائيل، بأن هذا القرار سيحقق السَّلام! إنها فكرة شوهاء، مثل سياسيي كلِّ دين يعتبرون حروبهم حواراً وسلاماً. على العكس إنها فتحٌ لأبواب جهنم، و«الفاتحون لا يجدون اليوم قفلاً». جاء القرار إنعاشاً للقوى الدِّينية بالمنطقة، وأن اليهود الذين أعرضوا عن بلفور مِن قبل، وترامب مِن بعد، يدركون حجم الضَّرر في تهويد القُدس، عليهم أولاً قبل غيرهم. فما هو واضح أن وهم الفكرة يتحول حقيقة، ولكن متى؟! تحت ظلم القوة.

لمحمد مهدي الجواهري «عشرون بلفور»(1986): «وصَابرين على البَلْوى يُراوْدهم/ في أَن تضمَّهُم أَوطَانُهم حُلمُ/تذكروا عهدَ بالفورٍ فقُلتُ لهمْ/ما تسجدّونَه عهدي به القِدمُ/ مِن قَبل ستين مِن خزيان مولده/أقُمتُ مأتمَ أرضٍ قُدسُها حَرمُ »(الدِّيوان). مئة عام بين بلفور وترامب، والفكرة تنمو وتتضخم، والسلفية الإسرائيلية لم تنس، مهما بلغ شأوها العلمي والحضاري أنها «جهاد مع الله»، هذا هو أبرز معاني «إسرائيل»(قاموس الكتاب المقدس). أقول: هل تقول سلفية داعش غير هذا؟!
الاتحاد الإماراتية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here