في التسمية !

أن أول مشكلة واجهة الخليقة ، حينما عزم الله على خلق الإنسان ، هي من سيكون له شرف تسمية الأشياء ، وما يوجد في الكون ، فعلى هذا الشرف كانت تتوقف مكانة الإنسان والملائكة عند الله . فمن سيسمي الأشياء سيكون هو السيد لهذا العالم ، بعد الله ، بالطبع . بحسب الفهم الديني . هذا الأمتياز منحه الله للآدم كي يسمي الأشياء ، وكان عبارة عن أقرار بسلطة الإنسان على الكون ، فهو أصبح خليفة الله والوارث لسلطته . هذه الحكاية الرمزية تعبر بوضوح عن المكانة التي احتلها الإنسان عند الله . فمن بدء الخليقة والكل يعرف بأن من يسمي الأشياء يكون هو السيد . ولهذا السبب نجد الملائكة تسجد للآدم ، اعتراف منها بسيادته . وعليه أراد الله أن يستخلف آدم على الأرض ، لأن الأرض كانت بنظره ، فيما يبدو مركز الكون ، والكل يدور حولها . فالله كان ينظر للكون من وجهة نظر بيطلومسية ، حيث كانت البطليموسية هي وجهة نظر النخبة المثقفة بتلك الفترة ، ولم يكن لدى الله علم ، بنظرية كوبرنيكوس . فقد كان الله ينظر للأرض على أنها مركز الكون لهذا أورثها للآدم . وعليه ، نرى حتى الإلهة يكون تفكيرهم أيضاً ، محدود بحدود الفترة التي خاطبوا بها البشر ، فهي لم تأت لهم بأفكار مخالفة لمعتقداتهم ، وإنما نجدهم يصادقون على ما هو موجود . ولذا فهم من كلام الله أن من له الحق في تسمية الأشياء يحوز مكانه متميز في الوجود . فتلك الواقعة ، في الخطاب الديني غدت ، من ثم ، الأساس إلى العلاقات البشرية . فنحن نجد ، فيما بعد ، هذا النمط من التفكير ، يتكرر ، في كتابات الفلاسفة والمفكرين المتاخرين . فهم أيضاً فهموا العلاقات بين البشر تقوم على من يملك الحق في تسمية الأشياء ، أي على مبدأ القوة . فأفلاطون ، يعلن في جمهوريته ، بأن الأقوياء هم من يسمون الأشياء ويضعون القوانين . ولكي ، نكون واضحين أكثر ، نرى ، آن الوقت لنحدد ما المقصود في التسمية ! فشيء طبيعي أن اللغة عرفية ، حسب ما يقال ، ونتاج بشري ، وليس توفيق من الله ، ومنحه الإلهية ، فهي ، عملية نتاج طويل من العلاقات البشرية . ولذا فالبشر هم ، بتالي ، من يسمون الأشياء . ولذلك تظهر التسمية الأشياء كتوافق بين البشر يتم بمجرى الحياة . غير أن هذا لم يكن مقصودنا ، من التسمية ، ولم ننكره ، وأنما كنا نقصد التسمية في مجال آخر . فما أردنا الحديث عنه ، هو التسمية في مجال . الخير والشر ، في مجال الحق والباطل ، في الصحيح والخاطئ ، بعبارة آخرى ، في مجال الأخلاق ، في القضايا الرئيسيّة التي تقوم عليها الحياة البشرية ، وليس في تسمية الأشياء اليومية والعادية . فالأساس الذي تقوم عليه حياة الناس هو الذي يتنازع عليه الناس في سبيل الحصول على القوة التي تخولهم تسمية الأشياء المفصلية . أي ما كان ماركس يسميه البنية التحتيه ، أي ملكية وسائل الأنتاج . ولهذا قال بأن أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار السائدة ، ومن بعد تسود أفكارها وتسمياتهم للخير والشر ، الصحيح والخطئ ، وغيرها ، فهي تضع المعاير للتسمية . فتلك الوجهة نظر ، تبين لنا من يملك حق تسمية الأشياء الرئيسيّة في الحياة البشرية ، هو من يملك القوة والسلطة . وبما أننا قدمنا ما يكيف لكي يكون موضوعنا واضح ، لنأت عليه ، لأنه هو ما أردنا الحديث فيه أساساً ، الذي هو النزاع بين أمريكا وروسيا على حق تسمية الأشياء في عالمنا ، من خير وشر ، وأخلاقي وغير أخلاق ، وما إلى ذلك من أشياء جوهرية في الحياة البشرية . فما نشاهده ، في الوقت الحالي ، هو ثمة لغتين في التسمية ، هما لغة الروس والأمريكان ، فكل واحد منهما ينعت الأشياء والأشخاص في أوصاف متناقضة ، يحتار المرء لأول وهلة في فهمهما . فلا شك أن هذا الاختلاف في تسمية الأشياء سيؤدي لا محاله ، لصراع على القوة والحق في السيادة فالبشرية لم تبلغ بعد مرحلة سيطرة العقل الذي بشر به كانط ، أو أن كانط في الحقيقة فهم العقل على الطريقة التقليدية ، فهو نظر للعقل على أنه شيء كامل ، ومتعاليا عن الظروف التي تحيط به ، وعلى أنه هبة من الله أو الطبيعة ، بعكس الفهم الذي توصل له الماديون ، وعلى رأسهم ، فيورباخ وماركس والذين قالوا بأن العقل مقولة اجتماعية ونتاج الظروف التي تحيط به وليس متعالي عما حوله . وعلينا أن لا نرى ، بان العقل سيكون هو في النهاية الحكم والحاكم في العلاقات والصراعات ، التي تنشب ، بين الأطراف المتصارعة ، وإنما الأهواء والمصالح ، وأرادة القوة في تسمية الأشياء . فحقيقة أن الحتمية السيكولوجية ، هي التي تقود السلوك البشري وليس حرية الأرادة ، والحتمية هنا ليس بمعنى شيء مفارق وفوق الوضع البشري وإنما هي نتاج تصرفاتهم وسلوكهم الذي ينتج في النهاية شيء غريب عنهم ولا احد يريده أو فكر به . وهذا ما كان يسميه هيجل تمظهر الروح المطلقة أو خداع العقل . أو الوعي الزائف لدى ماركس . فهذا الصراع الذي راح يتفاقم بين روسيا وأمريكا هو ، في النهاية صراع من أجل التسمية . هو الصراع القديم في الحرب الباردة أخذ يتجدد بعد أن استعاد الروس عافيتهم منذ انهيار السوفيت . ولكن هنا ، علينا أن نميز بين روسيا الجديدة وروسيا في عهد السوفيت . فروسيا الحالية هي دولة ليبرالية ، وتطمع في أيجاد مكان لها في العالم وتكسر الحصار التي تحاول أمريكا فرضه عليها . فهي دولة وليدة , وبفلسفة جديدة . بخلاف أمريكا التي بات لها تاريخ عريق في الأستعمار والأستغلال . فروسيا الحالية ، تريد أن علاقاتها مع بقية العالم مبنية على التفاهم والمصالح التجارية وبطريقة سلمية ، بعكس أمريكا المتوحشة ، والتي لا تفهم سوى لغة القوة . لذلك تبدو أمريكا وكأن التاريخ عفى عليها ، وأن نموذجها وسياستها تنتمي للتاريخ زال ، وتلاشى . فهي دينصاصور يشبث في البقاء بكل وسيلة . ومن هنا تبدو تسميتها للأشياء غير عقلانية ومخالفة للمنطق . فيما نجد الروس يتكلمون في لغة معاصرة ومفهومة من قبل الكل ، وفِي أسلوب منطقي معقول . لذا تبدو تسميتهم ، أكثر عقلانية وقبول . ولا شك أن هذه للغة ستكسب الروس على المدى البعيد أنصار كثيرون ، فقد صهرتهم التجربة ، وأستفادوا من تراث الشيوعية ومقولاتها في أحترام حرية الآخرين ، فيما بقت لغة أمريكا التي عفى عليها الزمن ، هي هي ، بعد أن فرغت من كل مضامينها السابقة ، التي استخدمتها في محاربة الشيوعية ، بأسم العالم الحر ، واحترام حرية الأفراد ، ستغدو بمرور الوقت أكثر استهجان والنفور . أن لغة أمريكا وتسميتها للأشياء بات قديمة ، ولا تناسب العصر . فهذا الديناصور الأمريكي ، أعني ، لغتها السياسية سوف تنقرض ، لأن مياه كثيرة جرت تحت جسر العالم وغيرته مفاهيمه ولغته ولكن أمريكا بقت تسمي الأشياء بالأسماء القديمة البائدة . فروسيا ، بعد انبثقها من رماد السوفيت ، عادت تملك لغة حديثة ومفهومه من أناس هذا العصر . ومن هنا جاذبية لغة روسيا السياسية ، فهي تقوم على تفهم الآخرين وليس أقصائهم والنظر لهم من فوق وعلى أنهم قصر وبلا عقول ، فاللغة الامريكية تحاول اللغاء عقول الآخرين ، وتستخف بها . فهي تريد من الناس مجرد أن يكونو مطيعين لأوامرها وليس مشاركين ومتفهمين لوضعهم ولما حولهم . فما عادة التسمية للأشياء من ختصاص دولة واحدة وأمة مفردة ، وأنما عاد الكل في العالم له الحق ، بأن يشارك بصياغة مفردات تلك اللغة الشاملة ، فالتمركز حول ذات ، واعتبار الآنا منخرط مع نفسها في منولوج مفرد ، ، كما تبدو أمريكا ، في عصر ترامب خصوصاً ، علامة على مرحلة الخرف والجنون والهذيان . فالغة القطب الواحد أصبحت عتيقة تورد صاحبها التهلكلة . وما نخلص ، أليه ، حول حق التسمية، أن قديماً ، ثمة كائن واحد ، سوى كان هذا الكائن ، الإله أو بشر ، شعب أو أمة ، هي التي تسمي الأشياء وعلى الآخرين اعتناق تسميتهم . ، في مرحلة الطفولة البشرية سمى آدم الأشياء لهم كما يخبرنا الله ، فحاز على السطوة والسيادة ، ثم جاء عصر الأديان ، فأخذت تسمي الأشياء بما تحب وحسب لغتها ، فنقاد لها العالم ، وجاء بعدها عصر الأمبراطوريات والأستعمار ففرض لغته ، وأن الآوان ، بما أن البشرية وصلت لمرحلة حرجة في تاريخها ، يمكن أن تهلكها حرب مدمرة ، فآن لها أن تعترف بالآخر ، وتنهي ، المرحلة الهيغلية ، التي يعترف فيها العبد بحرية السيد ، بدون اعتراف مقابل من السيد بحرية العبد ، فقد وصل العبد لمرحلة من القوة التي فيرفض فيها حريته على السيد ، وينتزع الأعتراف منه ، فهو ، أي العبد ما عاد يرتجف خوفاً من الموت على حياته في صراع من أجل البقاء ، فبعد فترة طويلة من العبودية ، وصل العبد بجهده الخاص لنيل حريتة من سيد المتغطرس . فما الحرية للكل أو هدم المعبد فوق رؤوس الجميع .

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here