موسكو وواشنطن .. إرهاصات الحرب الباردة الجديدة

موسكو – عبدالله حبه
أدرجت الإدارة الامريكية في “إستراتيجية الأمن القومي” التي طرحها الرئيس ترامب مؤخرا كلا من روسيا والصين وكوريا الشماية وايران بين الدول التي تشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة . فهذه الدول تشكل حسب رأي واشنطن تحديا لإزدهار الولايات المتحدة . إن هذه الوثيقة وعنوانها ” أمريكا أولا ” ( على غرار الشعار النازي ” ألمانيا فوق الجميع”) التي تحدد أولويات السياسة الخارجية الأمريكية تلغي في الواقع جميع الإلتزامات والتعهدات الامريكية حيال الحلفاء والخصوم على حد سواء خلال العقدين الماضيين. وهذا يشمل إعادة النظر في الإلتزامات في حلف الناتو وكذلك في معاهدات تقييد التسلح المعقودة مع الأتحاد السوفيتي السابق. ويضع ترامب السلاح النووي بصفته أساس الإستراتيجية الأمريكية ” لصيانة السلام والاستقرار وصد العدوان على الولايات المتحدة وحليفاتها”. ولهذا الغرض خصص مجلس الكونغرس لإعادة التسلح النووي فقط خلال 30 عاما القادمة مبلغ 2ر1 تريليون دولار . ناهيك عن المبالغ المخصصة لإعادة تجهيز القوات المسلحة وتطويرها والإنفاق على حوالي 700 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في جميع أنحاء العالم.ولهذا الغرض أزدادت الميزانية العسكرية الامريكية لعام 2018 الى 700 مليار دولار بدلا من 611 مليار دولار في عام 2017.
وقد عاجل المراقبون في روسيا الى وصف سياسة ترامب المعلنة الآن بإنها “عودة الى الحرب الباردة” ولكن بقدر أكثر شدة . فإن الرئيس الأمريكي حتى لا يعطي أي مجال للتعاون بين البلدين في المجالات ذات المصلحة المشتركة ومنها مكافحة الإرهاب مثلا ، وبدلا من ذلك يفرض العقوبات الجديدة ضد روسيا. ويبدو واضحا أن الجانبين الروسي والأمريكي لا يجدان لغة تفاهم في الظروف الراهنة . فإن الولايات المتحدة تصر على التعامل مع روسيا بصفتها دولة هامشية يجب أن تخضع لقرارات واشنطن لا سيما في المجال الإقتصادي. ولهذا تسعى الى تحجيم دورها في السوق العالمية ولاسيما في مجال النفط والغاز بإعتبار ذلك من الأخطار الكبرى على الهيمنة الأمريكية. وبرأي وأشنطن إن روسيا الذي تعطي 2 – 3 بالمائة من الناتج الإجمالي مقابل الولايات المتحدة التي تعطي نسبة 20 بالمائة لا يحق لها منافسة الولايات المتحدة في مناطق النفوذ ولاسيما في الأسواق العالمية. زد على ذلك إن روسيا أظهرت بتدخلها في سورية إنها تعتزم أيضا إظهار قدرتها العسكرية لخدمة مصالحها في المجال الإقتصادي والنفوذ السياسي الخارجي. علما إن روسيا كانت تاريخيا تعتمد دوما على القدرة العسكرية في أظهار قوتها في العالم وأزدادت قوة بعد أن أصبحت القدرة النووية الثانية في العالم . وكما قال القيصر نيقولاي الثالث :” لدى روسيا حليف واحد هو الجيش والأسطول”. وقد عمد الرئيس فلاديمير بوتين منذ توليه السلطة الى تطوير القدرات العسكرية للجيش الروسي وتجهيزه بأحدث الأسلحة وليس بالسلاح الصاروخي – النووي فقط. وقد أثبتت الحرب في اوسيتيا الجنوبية والمواجهة في شرق اوكرانيا والقرم حيث إنسحب الجيش الأوكراني من شبه الجزيرة من دون إطلاق رصاصة واحدة والآن في دعم العمليات ضد داعش في سورية ان الجيش الروسي أصبح قوة لا بد أن تأخذها واشنطن بنظر الإعتبار. ولذا ليس عبثا أن اعتبر البنتاغون والكونغرس الامريكي أن روسيا عدو خطير للولايات المتحدة . ويستغل المحافظون الجدد ضعف الرئيس ترامب في الكونغرس للضغط عليه في كل مجال للحيلولة دون حدوث أي تقارب مع روسيا ، فيجري إتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية وتفرض عقوبات جديدة عليها وتستخدم المحافل الدولية والرياضية والثقافية للتشهير بروسيا .ولا يسمح لترامب حتى في إجراء لقاءات مع الرئيس بوتين لبحث قضايا تعتبر مشتركة مثل صيانة السلام والاستقرار الدولي ومكافحة الارهاب وتجارة المخدرات وهلمجرا.
لهذا لا تعتزم واشنطن السماح الى روسيا بالتمدد في منطقة الشرق الاوسط وافريقيا وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا. علما إن روسيا لا تروج الآن الى أية ايديولوجية كحال الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان يصبو الى نشر الفكرة الشيوعية في العالم ، ولهذا لا تشكل روسيا خطرا يهدد العالم الرأسمالي لأنها نفسها أصبحت دولة رأسمالية. إذن إنها لا تعتبر منافسا ندا للولايات المتحدة مثل الاتحادالسوفيتي الذي وقف ضد الولايات المتحدة في فيتنام والشرق الأوسط والبحر الكاريبي وأفغانستان ، وحاولت الولايات المتحدة بكل السبل تجنب حدوث مواجهة مسلحة معه سابقا خوفا من قدراته النووية. لكن الجانب الروسي يريد أن تعترف الولايات المتحدة وحليفاتها بالخطوط الحمراء التي تمر بها مصالحه القومية سواء في اوكرانيا وجورجيا وابخازيا وبريدنيستروفيه وجمهوريات آسيا الوسطى. لكن واشنطن ترفض ذلك بشكل قاطع فتواصل إستثارة الهستيريا العسكرية على الحدود القريبة من روسيا في مناطق البلطيق وبولندا ورومانيا وبلغاريا حيث نصبت شبكة الدفاع المصاد للصواريخ ، وبدأت مؤخرا بتزويد اوكرانيا بالأسلحة الحديثة. ويبدو إنها تريد بذلك إستنزاف قدرات روسيا وإعادتها الى أيام الرئيس جورياتشوف والرئيس يلتسين حين كانت موسكو تقدم التنازلات تلو التازلات الى الغرب. فمثلا في معاهدة تصفية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي وقعت في أيام جورباتشوف وتشيفاردناده قدم الإتحاد السوفيتي التنازلات الى الولايات المتحدة بتقليص قدراته من الصورايخ والرؤوس النووية بقدر يعادل ضعفي تقليصها من قبل الولايات المتحدة. علما إن هذه الصواريخ لم تشكل خطرا على الولايات المتحدة لأنها قصيرة المدى وكانت تهدد الحلفاء الاوربيين فقط. وكان الهدف سلب الآتحاد السوفيتي قدرته على الردع النووي. ولم تنافس روسيا الولايات المتحدة في مجال الصواريخ المجنحة إلا منذ عدة أعوام لدى بدء إنتاج الصواريخ المجنحة ” كاليبر” التي إستخدمت بنجاح في سوريا. علما أن وضع روسيا اليوم أضعف بكثير من وضع الاتحاد السوفيتي الذي كان لديه حلف وارشو ووجود قواته في دول اوروبا الشرقية .
ولم تعد روسيا ثاني أكبر دولة اقتصاديا في العالم كما كان الإتحاد السوفيتي وقبل ظهور الصين الجديدة التي تنافس الولايات المتحدة في هذا المضمار حاليا. لكن روسيا تحتفظ بالمكانة الثانية في مجال صادرات السلاح التي تزداد من عام لآخر.
إن إحتمال وقوع مواجهة بين روسيا والولايات المتحدة في الحرب الباردة الجديدة ولو على النطاق الإقليمي يعتبر حسب رأي كثير من المحللين في روسيا ممكن لدى وقوع أي حادث إستفزازي سواء في سورية أم في بحر البلطيق او القرم حيث يبدي البنتاغون نشاطا بينا في الفترة الأخيرة . ان القيادة الأمريكية ترغب في جر روسيا الى أي نزاع مسلح مديد يستنزف قواها كما حدث للاتحاد السوفيتي في افغانستان في الثمانينات من القرن الماضي. علما أن الامريكيين يمكن أن يستغلوا القوى المحلية الاقليمية وليس القوات الأمريكية بصورة مباشرة. كما يمكن الإستفادة من نفوذ الولايات المتحدة في الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي وغيرها من المؤسسات ضد روسيا. والشئ الرئيسي إن هدف واشنطن هو إبقاء روسيا في حالة توتر مستمر بإستخدام مختلف الوسائل كبث الأنباء الكاذبة حول تدخل “الهاكرز ” الروس في المنظومات الأكترونية للمؤسسات الامريكية أو حول تدخل الروس في الانتخابات في الولايات المتحدة وفرنسا والمانيا .. وأي مكان آخر. ويتهرب المحافظون الجدد الامريكيون من طلب موسكو بإعادة النظر في معاهدات الحد من إمتلاك السلاح النووي او حظر سلاح الدمار الشامل ، بالاخص لدى ظهور دول نووية مثل كوريا الشمالية واسرائيل وباكستان والهند وإحتمال ظهور دول أخرى في المستقبل القريب جدا حيث تشيد مفاعلات نووية. علما ان الولايات المتحدة تنفق على تطوير الأسلحة النووية عشرة أمثال ما تنفقه روسيا .
إن القيادة الروسية تسعى كما يبدو بكل السبل الى إيجاد أي مجال للتفاهم مع الولايات المتحدة وإتخاذ مواقف متقاربة بصدد العديد من قضايا الأمن الدولي. ويبدو أن الكرملين ما زال يأمل في حدوث تغيير في السياسة الامريكية ولو بتقديمه بعض التنازلات التي لا تمس الأمن القومي للبلاد، بغية تخفيف خطر الحرب الباردة الجديدة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here