نقاش مفتوح مع الدكتور طلال الربيعي حول الرأسمالية اللبرالية بالعراق

كاظم حبيب
نقاش مفتوح مع الدكتور طلال الربيعي حول الرأسمالية اللبرالية بالعراق

وصلني التعليق الآتي، على مقالي الموسوم ” الصناعة والزراعة هما قاعدتا التنمية والتقدم الاجتماعي في ظل نظام ديمقراطي علماني بالعراق” المنشور بتاريخ 29/12/2017 في الحوار المتمدن وصوت العراق والناس ومركز النور ومواقع أخرى، من الأخ الفاضل الدكتور طلال الربيعي وتحت عنوان ” استحالة التطور الرأسمالي- ليبرالي لاقتصاد العراق”، بتاريخ /12/2017
استاذ المحترم د. كاظم حبيب
كل الشكر على مقالك.
مع احترامي الشديد لاختصاصك ومع اني مجرد هاوٍ في المواضيع التي يتناولها مقالك، الا انه اسمح لي القول اني اجد من الصعوبة بمكان الاتفاق مع استنتاجك باعتبارك شخصا واحدا مثل الدكتور برهم صالح او غيره مسؤولا عن السياسات النيولبرالية للعملية السياسية. وانه بالطبع يمكنك ان تتمنى -على الدكتور برهم صالح أن يتخلى عن ذهنية اللبرالية الجديدة المتطرفة وليس عن فكره الرأسمالي، فهذا غير مطلوب منه، ولكن المطلوب منه أن يفكر بمصالح كل مكونات الشعب العراقي، ومنه شعب إقليم كردستان العراق، على المدى القريب والبعيد!- ولكنه تمني لا يمكن مطلقا ان يتحقق على ارض الواقع على صعيد العملية السياسية بمجملها. فالقضية لا ترتبط اطلاقا بهذا الشخص او ذاك.
فكما نعلم ان رئيس مجلس حكم الاحتلال، بريمر، والذي تشير اليه المقالة، قد أصدر قرارات لتكريس السياسات النيولبرالية في العراق، وقد وافق على القرارات كل اعضاء مجلس الحكم وقتها. وهذه القرارات لا تزال سارية المفعول قانونيا.
ولكون العملية السياسية هي صناعة بريمرية بامتياز، لذا لا يمكن لها ان تكون سوى عملية محكومة بقرارات بريمر النيولبرالية. ولذا انه من غير الممكن ان يتوجه العراق توجها رأسماليا ليبراليا وكما تدعو اليه مقالتكم. كما ان الطبقة الحاكمة في العراق هي برجوازية كومبرادورية ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالرأسمال العالمي كتابع له. ولذا فان طريق التطور الرأسمالي الليبرالي في العراق مسدود الأفق بغض النظر عن ميزان القوى الآن او لاحقا في ظل العملية السياسية.
واني اعتقد ان اقتصاد العراق محكوم عليه بالفشل الى ابد الآبدين ان لم ينح منحا اشتراكيا. وهنا يكمن التحدي الكبير او الهائل الذي تواجهه القوى اليسارية التي يتحتم عليها بأسرع وقت ان تعي ان تطور العراق لا ريعيا والنهوض باقتصاده انتاجيا على صعيد الصناعة والزراعة هو عملية مستحيلة بوجود العملية السياسية التي تحكمها قرارات بريمر والتي تقوم بتنفيذها برجوازية كومبرادورية لا يهمها سوى تكريس تبعية العراق للرأسمال العالمي.
مع وافر تقديري واحترامي
**********************
أخي العزيز الدكتور طلال الربيعي المحترم
تحية طيبة وتمنيات بعام جديد وسعيد،
ابتداءً لك شكري على تفضلك بقراءة المقال والتعليق عليه. وهو تعبير عن اهتمامك بقضايا الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهي ليست ملاحظات هاوٍ بقدر ما هي وجهة نظر احترمها وقابلة للنقاش، وسأحاول ذلك فيما يلي:
أولاُ: اتفق معك تمام الاتفاق بأن ما خطط للعراق ونفذ من جانب الإدارة الأمريكية كان الدفع باتجاه إقامة وتكريس علاقات رأسمالية تابعة وبمنحى نيولبرالي وجد تعبيره في القوانين التي وضعها المستبد بأمره پول بريمر والمهيمن على السلطة وقراراتها، ووافق عليها مجلس الحكم الانتقالي من جهة، والدور المحدد الذي مارسته المؤسسات المالية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، في فرض شروطهما المعروفة دولياً للدول النامية على مجلس الوزراء العراقي حينذاك من جهة ثانية، ووجود أغلبية كبيرة في مجلس الحكم الانتقالي، وفيما بعد الحكومات العراقية المتعاقبة، وافقت على تلك الشروط والوجهة المحددة لها من جهة ثالثة، مما أسهم في دفع العراق بالاتجاه المطلوب له. وعلينا هنا أن نتذكر شروط هذه المؤسسات الدولية والمتمثلة في نموذج وسياسة “التثبيت والتكيف الهيكلي” بالارتباط مع الموق من ديون العراق الخارجية. إلا إن الحكام الإسلاميين السياسيين الطائفيين والقوميين الذين تسلموا الدولة بسلطاتها الثلاث، بدعم من الولايات المتحدة وإيران، وهم أجزاء من الفئات الرثة والبرجوازية التجارية الكومبرادورية المتخلفة، لم يعوا بعمق الوجهة التي زرعها بريمر بالعراق، وحتى من فهمها منهم لم يهتم بذلك، بل توجه اهتمامهم صوب نهب الموارد المالية والاغتناء الذاتي، والتركيز على تشديد السمة الريعية والاستهلاكية غير الإنتاجية في الاقتصاد العراقي، أي أنهم حتى لم يهتموا بتـأمين مستلزمات تطور القطاع الخاص في الزراعة أو في تطوير الصناعة النفطية، عدا الاستخراجية. وكان لإيران وتركيا دورهما البارز والمميز في الدفع باتجاه الرثاثة الفعلية والتبعية الكاملة للاقتصاد الإقليمي والدولي. وقد حقق البلدان، إيران وتركيا، أرباحاً طائلة على حساب الاقتصاد العراقي، كما استطاعوا زرع أجهزة أمنية في كل مكان وتعزيز دورهما في حياة البلاد السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الاقتصادية، ولاسما إيران في كل العراق، وتركيا بالإقليم على نحو خاص. كما إن الصراع الطائفي، الذي كانت خلفه وأساسه مصالح اقتصادية للقوى الأجنبية المؤثرة على القوى السياسية المحلية، إضافة إلى القوى المحلية ذاتها، قد أسهم بدوره في شل أي قدرة فعلية على تطوير الاقتصاد العراقي ومعالجة بعض مشاكله، بل عمقت هذه السياسة البائسة والرثة في المزيد من تشوه بنية الاقتصاد العراقي، بما فيه اقتصاد الإقليم أولاً، وإلى استمرار التشوه في بنية المجتمع الطبقية ثانياً، وكل ذلك أثر بقوة على استمرار تدني مستوى الوعي الفردي والجمعي بالعراق. ولا شك في أن هناك قوى حاكمة ومجتمعية مهيمنة كانت ولا زالت تعمل من أجل نشر الفكر والممارسة النيولبرالية بالاقتصادي والمجتمع بالعراق، وهو ما يفترض أن يتم التصدي له والكشف عنه وفضحه. كما إن السياسة المالية ولنقدية قذ خضعت من الناحية النظرية والعملية لهذا النهج المخالف لمصالح الاقتصاد والمجتمع.
ثانياً: أتفق معك بأن كل القوى التي شاركت في مجلس الحكم الانتقالي، ومن ثم في مجلس الوزراء لثلاث دورات (علاوي، الجعفري، المالكي دورتين، والعبادي الحالي)، تتحمل مسؤولية الموافقة على النهج الذي اختطه بريمر، رغم طرح بعض الآراء المخالفة والتي انتقدت سياسة وتوجهات بريمر في العمليتين الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرهما السلبي الشديد على واقع العراق وتطوره اللاحق وكذلك دوره في فرض المحاصصة الطائفية والأثنية في الحكم وبدعم مباشر من الدولة الإيرانية، إلا إنها لم تكن مؤثرة ولم تمنع حصول ما أراده المهيمنون على الحكم، إذ إن الخط العام وزخم التدخل الخارجي وطبيعة الحكم ذاتها والفئات التي تسند هذا الحكم وتتبناه ويعبر عن مصالحها، كان وما يزال يمتلك القدرة على التحكم بوجهة التطور الاقتصادي بالعراق. وحين نتابع كتابات تلك الفترة سنجد أمامنا الكثير من الصراعات الفكرية والسياسية بهذا الصدد والتي نشرت في المواقع الإلكترونية العديدة. إلا إن القوى السياسية الحاكمة وهي الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية والأحزاب الكردستانية، كانت تجد في ذلك ضالتها للوصول إلى الموارد المالية النفطية لتغتني بها ذاتياً وتساوم المجتمع على تحسين شكلي ومؤقت لمدخولاتها، ولكن في الحقيقة قد سعت إلى تجنب أي تنمية اقتصادية حقيقية أو أي دور فعلي لقطاع الدولة الاقتصادي، كما أهمل توفير مستلزمات تطور القطاع الخاص والمختلط. إنها الرثاثة بعينها، وأهملت بالتمام مصالح المجتمع ولاسيما الفائت الكادحة وذات الدخل المحدود، مما أدى إلى ارتفاع كبير في عدد الفقراء ومن هم تحت خط الفقر المعروف للدول النامية، وتزايد كبير في عدد الذين يعانون من البطالة! لقد كان هدف الفئات الحاكمة المتصارعة، كما هو معروف، الهيمنة المطلقة على السلطة والتحكم بالمال العام، وتأمين أوسع نفوذ في المجتمع وعليه. كان هذا الصراع وما يزال هو الذي يميز العملية الجارية بالعراق منذ سقوط الدكتاتورية البعثية وقيام نظام الاستبداد الطائفي. وهي عملية سياسية ما تزال في إطار القوى الحاكمة، وليس للمجتمع الدور فيها حتى الآن. ولكن ليست هذه الحالة ذات ديمومة بل هناك من المؤشرات ما يمكن القول باحتمال كسر هذه الحلقة البائسة والخروج من طوق القوى الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية الحاكمة.
ثالثاً: لقد نشرت حلقات من مناقشتي للدكتور برهم صالح، وكذلك مناقشات مستفيضة أجريتها مع الأخوة الدكتور سيار الجميل والدكتور بارق شبر والدكتور محمد علي زيني وآخرين، وهي كلها تصب في رفض الرأسمالية النيولبرالية المتوحشة التي يراد فرضها على الاقتصاد والمجتمع بالعراق. وهي مناقشة للقوى الحاكمة أيضاً، وهي ليست العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المشروطة التي يمكن ويفترض أن تتطور في الاقتصاد العراقي والتي يفترض التحكم بوجهة تطورها لصالح المجتمع والاقتصاد الوطني.
أخي الفاضل، حين أطرح وجهة نظري لا يجوز لي أن أجنح بخيالي بعيداً عن الواقع. إذ لا بد من الانتباه إلى عدة مسائل جوهرية، إذ بدونها يصعب على الإنسان تحديد وجهة تطور البلاد والقضايا النضالية التي يفترض أن تتصدر المهمات مرحلياً مع الرؤية الواقعية لاستراتيجية التنمية والتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي بالعراق:
1. ضرورة الاستخدام السليم والعلمي للمنهج المادي الجدلي في البحث والتحليل والتدقيق في الظروف الملموسة لواقع العراق.
2. الانطلاق من واقع الحياة اليومية للمجتمع ومن المتغيرات الجارية على الاقتصاد والمجتمع وعلى فكر ووعي الفرد والمجتمع أولاً، وكذلك التغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي ثانياً، من أجل تحديد المهمات والأهداف المرحلية والابتعاد عن محاولة القفز فوق المراحل أو حرقها.
3. تأمين الربط العضوي بين عملية التغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية بالعراق، وبين تطور وعي الفرد والمجتمع وسعيهما المشترك لصالح حرية الإنسان وحقوقه المشروعة وسعادته والعدالة الاجتماعية، واستخلاص مدى الاستعداد الفعلي للمشاركة في عملية التغيير.
4. تشخيص دقيق وسليم للقوى الاجتماعية التي يهمها إنجاز مهمات المرحلة والتي يفترض أن تتبلور في:
أ‌. مجال تحديد المهمات في إطار برنامج تستوحيه طبيعة المرحلة،
ب‌. وأن تكون المهمات المطلوب تحقيقها متطابقة مع القدرات الفعلية للقوى الاجتماعية والسياسية المعنية بالنضال لتحقيق المشروع الوطني والديمقراطي.
ت‌. وثم سبل العمل وأدواته من أجل رفع وعي واستعداد الغالبية العظمى من المجتمع، ولاسيما الفئات المتضررة من الواقع القائم لإحداث التغيير المنشود.
استناداً لهذا المنهج في التحليل توصلت إلى إن على العراق أن يتخلص من بقايا العلاقات البالية ما قبل الرأسمالية، وأن يبني القاعدة المادية الإنتاجية للتطور والتقدم الاجتماعي والتي تستوجب تحقيق التراكم الرأسمالي البدائي الغائب حالياً عن الاقتصاد العراقي، أي إن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ستأخذ ردحاً من الوقت لتنمو وتتطور بالعراق، وعليه أن يستفيد من موارد النفط المالية لهذا الغرض ولإجراء تغيير في البنية الاقتصادية بتجاه التصنيع وتحديث الزراعة واستخدام التقنيات الحديثة. ولكن الأسئلة الأكثر أهمية التي تثار هنا، منها مثلاً: من هي القوى التي ستقود المسيرة في هذه المرحلة، وما هي طبيعة العلاقة بين الاقتصاد العراقي والاقتصاد الرأسمالي العالمي، وهل هناك إمكانية لقطيعة فعلية مع الرأسمالية العالمية في حالتها العولمية الراهنة، ومن حيث مدى ومستوى القدرة على ممارسة الاستقلال في اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية وتنفيذها بعيداً عن الإملاءات الرأسمالية الدولية ومؤسساتهما المالية. طبعاً سيكون ممتازاً لو تمكنت القوى الاشتراكية التي تسعى لبناء الاشتراكية كاستراتيج بعيد المدى، دون أن تحاول حرق المراحل، الوصول إلى السلطة وأن تعمل بوحي من المنهج العلمي وعلى وفق المنظور المطروح في أعلاه، ولكن هل تتوفر مثل هذه الإمكانية حالياً؟
أن ثورة أكتوبر الاشتراكية وتطورها في فترة وجود لينين، الذي شعر بضرورة تغيير الوجهة وطرح السياسة الاقتصادية الجديدة، أي إقامة علاقات إنتاجية رأسمالية، ولكن تحت رقابة وإشراف الدولة، والتي كانت تعني رفض الإملاءات الرأسمالية العالمية على الاقتصاد الروسي، والتي ألغاها ستالين حال تسلمه السلطة، بل حتى وقبل البدء بتنفيذ النهج الجديد “النيپ”. ومن ثم علينا متابعة التطور الجاري في الصين الشعبية التي يمكن أن تمنحنا القدرة على التفكير والاستفادة الواعية والعميقة من هاتين التجربتين العالميتين المهمتين. إن فشل الأولى، ولأسباب ذاتية وموضوعية، لا يعني بأي حال فشل النموذج الاشتراكي أو الفكر الاشتراكي، بل سيتحقق ذلك في آماد لاحقة.
نحن بحاجة إلى إعادة بناء الاقتصاد الوطني عبر القطاعات الآتية من حيث الملكية:
1) قطاع الدولة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية والممكنة؛
2) القطاع الخاص المحلي وفسح المجال له للتوظيف وبالتنسيق مع قطا الدولة في إطار خطة اقتصادية حكومية؛
3) القطاع المختلط بين الرأسمال الحكومي والرأسمال الخاص وفي إطار الخطة الحكومية،
4) الرأسمال أو القطاع الأجنبي الذي يفترض ويمكن أن يساهم في التنمية تحت إشراف ورقابة الدولة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع بأسره وضمن الخطة التي تقررها الدولة.
أي لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في هذه المرحلة ومراحل لاحقة. كما لا يمكن الاستغناء عن العلاقات الاقتصادية الدولية، ولكن يفترض أن تكون السياسة الاقتصادية قادرة على منع إملاءات الاقتصاد الرأسمالي العالمي ومؤسساته المالية والنقدية الدولية، وفي مثل هذه المرحلة يمكن أن تنمو وتتطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في ظل حكومة وطنية وديمقراطية. ومثل هذه الإمكانية غير متاحة حالياً بفعل وجود الحكم السياسي الطائفي والفئات الاجتماعية الرثة الحاكمة.
لا يمكن الاستغناء عن دور البرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة في الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إنها لا تخضع لرغبات هذا الإنسان أو ذاك، بل تخضع لبنية المجتمع الطبقة وطبيعة المرحلة والنضال الذي تخوضه مختلف الفئات الاجتماعية. وفي المرحلة الراهنة يمكن للبرجوازية المتوسطة الصناعية والبرجوازية الصغيرة أن تلعب دوراً مهماً في النضال من أجل الخلاص من الواقع الراهن. وهذا يعتمد بدوره على مدى قدرة ودور القوى الديمقراطية والتقدمية بالداخل، أي على ميزان القوى الداخلي. إن طبيعة الدور الذي تمارسه البرجوازية المتوسط يخضع لميزان القوى السياسي والاجتماعي، ولمصالحهما بالدرجة الأولى، إذ يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى فئة كومبرادورية خاضعة للرأسمال الإقليمي والدولي، إن غاب وزن ودور القوى الطبقية القادرة على الحد من هذا الميل وعقلنته ولجمه وإخضاعه لمسيرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ويمكن أن يكون ميلها بتجاه وطني وديمقراطي حين تكون القوى الديمقراطية وقوى الطبقة العاملة والفلاحين قادرة على فرض وجهة أخرى وحين تطرح الشعارات التي تجسد حاجات مختلف فئات المجتمع بما فيها البرجوازية المتوسطة، والمعبرة عن طبيعة المرحلة.
ليس بمقدور من يستلهم مستلزمات التحليل السابقة أن يطرح شعارات اشتراكية لمهمات راهنة، فهو هروب إلى الأمام، يحمل معه إمكانية العزلة والانكفاء الشديد إلى الوراء، لاسيما حين لا تكون لها أي أرضية واقعية اجتماعية صالحة لذلك. ولكن الأمر الوارد حين تكون هناك استراتيجية بعيدة المدى يستلهم الإنسان منها ويعمل من أجلها دون الاستعجال بها، مع شرط عدم الخلط واستبدال التكتيكي بالاستراتيجي، إذ عندها يتحول الاستراتيجي إلى تكتيكات يومية مؤذية.
حين تشير المصادر النظرية إلى أن الاشتراكية هي عشية الإمبريالية، أي عشية التطور الكبير في العلاقات الإنتاجية الرأسمالية بحيث يصبح التناقض بين العمل ورأس المال، بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية في أسلوب الإنتاج الرأسمالي غير قابلة للمساومة، عندها ستنشأ الظروف والمستلزمات لحسم المسألة. وهذا يعني بعبارة أخرى، إذا اردنا تحقيق البناء الاشتراكي في بلادنا، فلا يمكننا أن نبنيه على التخلف والعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والعلاقات العشائرية والجهل والأمية وغياب الوعي الفردي والاجتماعي المناسبين أو غياب التنوير الديني والاجتماعي الضروريين، بل يفترض أن تنهض طبقة عاملة وعمال زراعيين وفلاحين واعين ودور مناسب للبرجوازية الصغيرة، بمن فيهم فئات المثقفين والمثقفات والطلاب والطالبات ودور أفضل للنسوة في الاقتصاد الوطني والمجتمع…الخ. أي علينا أن نعجل في بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، ولكن تحت شروط ومستلزمات مهمة وضرورية لكيلا تكون تابعة وخاضعة للرأسمال الأجنبي أو الإقليمي، بل تخضع لبرنامج وطني وديمقراطي تقدمي. لن يكون هذا سهلاً ولكنه ليس مستحيلاً في ظروف وواقع العراق من جهة وواقع العولمة الجارية في الاقتصاد والسياسة الدوليين.
كما تعرف فأن القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية واحدة، ولكن يختلف الأمر في فعلها على وفق واقع ومستوى تطور كل بلد من البلدان وواقع القوى الاجتماعية والسياسية فيه ودورها وإمكانياتها في تحقيق السوق الاجتماعي في ظل العلاقات الرأسمالية التي لا تعني الاشتراكية في أي حال، ولكنها تعني تقييد قوى الرأسمال في عملية استغلالها للطبقة العالمة والمجتمع، وتوفير مستلزمات التأثير الإيجابي على حركة السوق والقوانين الفاعلة فيه وعلى طبيعة العلاقات مع الخارج، ودور النقابات والقوى السياسية الديمقراطية والاشتراكية.
اكتفي اليوم بهذا القدر وسأحاول أن أنشر قريباً مقالاً أوسع بهذا الصدد. مع شكري وامتناني لإثارة الموضوع وأملي التواصل في الحوار والمناقشة. مع الود والاحترام. كاظم حبيب، بتاريخ 31/12/2017

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here