تناقض وأزدواجية قباني

عدنان الظاهر

شاعر الحب والجنس والبحر نزار قباني كان قد ابتنى لنفسه هرما مصريا رابعا من حلمات النساء فأرتقى القمة وأستراح على الرأس المدبب حيث قال :
فصّلتُ من جلد النساء عباءة وبنيت أهراما من الحلمات
( ديوان الرسم بالكلمات )
ثم جرب أن يحرث كالحصان , بل وطلب من احدى نسائه أن تعامله كحصان فقال :
حاذري أن ترفعي السوط ألم تركبي قبل حصانا عربيا
( قصيدة حصان )
لكن نزار كان قد أبدع في وصف ( السحاق ) وهو الشذوذ الجنسي الذي تمارسه امرأة مع أخرى :
مطرٌ مطرٌ وصديقتها معها ولتشرين نواحُ
والباب تئن مفاصله ويعربد فيه المفتاحُ
أشذوذ اختاه اذا ما لثم التفاحَ التفاحُ
( القصيدة الشريرة ) .
وأسأل نزارا لماذا المطر في زمن الحب الشاذ في عرفنا وغير الشاذ في عرف الأقوام الأخرى ؟ ولماذا شهر تشرين ونواحه ؟ احزان نزار معروفة وتشرين هوفصل الدموع لديه :

وما بين فصل الخريف وفصل الشتاءْ
هنالك فصل أسميه فصل البكاءْ

( تناقضات ن.ق. الرائعة ) .
ان نزارا لا يقول في شعره كم نوعا من الحب الجنسي ( وأنواعه لكثيرة اليوم ) مارس في حياته , فهل تعمد اخفاء هذا الأمر أم قد قال الحقيقة كلها ؟ اذن فنزار مارس نوعا مكررا واحدا من الحب مع عدد ( في ظني) اقل من القليل من النساء رغم قصائد الغزل ومغامرات ” ديك الجن ” و ” دون جوان ” و” دون كيخوت ” و ” شهريار ” . فلدي شك قوي في دعاوى نزار وحكاياته الغرامية الطويلة رغم قدرته الفائقة على اقناع القاريء بما يدعي . وتلك ميزة عظمى يتفرد بها الشاعر الفذ والفنان الأصيل تخدمه في مد جسور التواصل وقنوات حرارة الشعور مع قرائه :

وفي اللحظات التي تتشابه فيها جميع النساء
كما تتشابه كل الحروف على الآلة الكاتبة
وتصبح فيها ممارسة الجنس
ضربا سريعا على الآلة الكاتبة .

( تناقضات ن. ق. الرائعة ) .
هنا الدليل القاطع – وليس الدليل الوحيد – على أن نزارا لم يمارس في جل حياته الا نوعا واحدا من الحب . مارسه مع نمط واحد من النساء قليل فطغى طابعه العام على معظم شعره . فشعره في الحب وفي الغزل يكاد يكون واحدا , ذبذبة واحدة مكررة ومقاما واحدا ثابتا الا فيما ندر . ونجد آثار هذا الطابع العام حتى في رثائه لأبيه وولده توفيق بل وحتى في ذكراه لأمه :
كل النساء اللواتي عرفتهن
أحببني وهن صاحيات
وحدها أمي
أحبتني وهي سكرى
فالحب الحقيقي هو أن تسكر
ولا تعرف لماذا تسكر

( المقطع التاسع . الصفحة 732 . الجزء الثاني . الأعمال الشعرية الكاملة لنزار ) .
لا أحسب أن مثل هذا الكلام يليق في ذكرى والدة متوفاة لكنه يذكرني بسكر المتنبي حيث قال ( وما كان الرجل يعرف الخمر):

أفيقا ، خُمارُ الهمِّ علّمني السكرا
وسكري من الأيام جنّبني الخمرا

فالحب الذي لا يأتي إلا مع السكر انما هو حب زائف . الحب الحقيقي أكبر وأجل . انه اليقظة التامة مع الصحو الكامل وليس غيبة ودروشة .( الحب الحقيقي هو أن تسكر ) . ما قال مثل هذا عمر بن أبي ربيعة وما قاله قيس الملوح وما قاله حتى زعيم العشاق بايرون . بلى كان قد قاله الشاعر الألماني العظيم يوهان غوته في فصل ” ساقي نامه ” من كتابه المسمى ( الديوان الغرب – شرقي ). ففي هذا الفصل يجلس المتكلم في حانة للخمورثم يقول :
الذي لا يستطيع أن يشرب kann Wenn man nicht trinken
لاعليه أن يحب ,ٍٍSoll man nicht lieben
…….
والذي لا يستطيع أن يحب ًWenn man nicht lieben kann
لا عليه أن يشرب . ٍSoll man nicht trinken

نعم , قيل هذا الكلام في حانة للخمور وليس في مناسبة لرثاء والدة .
ثم من قال ان حروف الآلة الكاتبة متشابهة ؟ وأن النساء متشابهات؟
لقد ذكر الشاعر الروسي المعاصر ” يفتوشنكو ” الآلة الكاتبة عندما أراد تصوير الرتابة التي تبعث الملل والكآبة في المجتمع حيث أن هذه الآلة لا تطبع الا كلمتين اثنتين لا غير : لا أو نعم . ولقد قمت بترجمة هذه القصيدة شعرا عن اللغة الروسية بعنوان ” نعم ولا ” ونشرتها مجلة ” الأداب ” اللبنانية في نيسان ( أبريل ) 1967 .
وفي مرثيته لولده توفيق الرائعة نرى بعض الأدلة على طغيان مقام الحب والهوى الأوحد على مجمل شعر نزار . ففي المقطع الرابع يقول :
سأخبركم عن أميري الجميل
عن الكان مثل المرايا نقاء
ومثل السنابل طولا ومثل النخيل
وكان صديق الخراف الصغيرة
كان صديق العصافير , كان صديق الهديل
سأخبركم عن بنفسج عينيه
هل تعرفون زجاج الكنائس ؟
هل تعرفون دموع الثريات حين تسيل ؟

أليس هذا من كلام الغزل بالنساء الذي عودنا نزار عليه ؟ ثبات النبرة وثبات الشعور دليلان قاطعان على ثبات التجربة لدى الشاعر وعكوفه على امرأة واحدة فقط هي امرأته الثانية المرحومة ” بلقيس الراوي – من العراق ” .
اذا تركنا جانبا دعاوى نزار في دنيا المغامرة والغرام وتعاليه على المرأة حينا وساديته حينا آخر منذ قصيدة ” رسالة من سيدة حاقدة ” التي غنتها فأبدعت ” فائزة أحمد ” و قصيدة ” الى أجيرة ” ثم قصيدة “حبلى ” ودفاعه الحار عن حرية المرأة عموما والمرأة الشرقية على وجه الخصوص … اذا ما تركنا ذلك جانبا لنزار الشاعر فاننا سنواجه نزارا الحقيقي عاريا كما ولدته أم المعتز ( والدته ) : نزار الحزن والبكاء، نزار البحر وتشرين والمطر, الشاعر- الأنسان والأنسان – الشاعر.
نزار الحقيقي هو نزار عالم الحزن واني لأتمنى أن أستطيع إحصاء المرّات التي يتكرر فيها الحزن في شعره وما يشتق منه أويترتب عليه من صور ودلالات ورموز . ولا بأس من ذكر عناوين بعض القصائد التي لها علاقة بموضوع الحزن : ” نهر الأحزان ” , ” حقائب البكاء ” , ” قصيدة الحزن ” , ثم قصيدة ” اللجوء ” التي لا ترقى الى مستوى الكثير من قصائد نزار لكنها تقول الكثير عن نزار الأنسان , نزار الرجل وليس الشاعر :

لو كنت أعرف ما أريد
لو كنت أعرف أين أقضي ليلتي
لو كنت أعرف أين أسند جبهتي
ما كان أغراني الصعود
أنت ادخلي نامي
سأصنع قهوتي وحدي
فاني دائما رجل وحيد
تغتالني الطرقات ترفضني الخرائط والحدود
أما البريد … فمن قرون ليس يأتيني البريد .

هذا هو نزار قباني اذا كان وحيدا فهو سوداوي المزاج متقلب الأهواء ضعيف أمام الأقدار التي لا يعترف بها أصلا . أما شهر تشرين والمطر وفصول البكاء فانها لكثيرة في شعره ودلالاتها شديدة الوضوح , وأنها لتستحق رسالة دكتوراه في الشعر الحديث .
في قصيدة ” قارئة الفنجان ” جمع نزار الحزن والحب معا في رائعة تنضح باليأس والهزيمة – وقد غناها عبد الحليم حافظ فأجاد – لنستمع اليه ماذا يقول :
قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
يا ولدي قد مات شهيدا
من مات على دين المحبوب
فنجانك دنيا مرعبة
وحياتك أسفار وحروب
ستحب كثيرا وكثيرا
وتموت كثيرا وكثيرا
وستعشق كل نساء الأرض
وترجع كالملك المغلوب
بصرت ونجمت كثيرا
لكني لم أقرأ أبدا
فنجانا يشبه فنجانك
لم أعرف أبدا يا ولدي
أحزانا تشبه أحزانك .

نزار والنهود والطفولة

ما هي دلالة النهد في عالم نزار قباني ولماذا هذا الألحاح في ذكره ؟
في قصيدته الطويلة – 102 بيتا – التي أسماها ” افادة في محكمة الشعر ” التي ألقاها في مهرجان الشعر التاسع في بغداد عام 1969 قال نزار :

أصدقائي حكيت ما ليس يحكى
وشفيعي طفولتي والنقاءُ
افهموني فما أنا غير طفل
فوق عينيه يستحمُّ المساءُ

فهل يصح الربط بين هذين الأمرين : الطفولة والنهد ؟ جوابي نعم ! لا أدري أكان نزار محروما في طفولته من حنان الأم أو الأب أو كليهما ؟ لماذا اذن نراه يمارس النكوص بل ويفخر به ؟ النهد ( هو الصدر ) وهو رمز واضح لطلب الدفء والحنان ( الأمومة ) وإنه مصدر الحياة الأول حيث يمددنا باللبن وسيلة وقوت الحياة المجاني والجاهز في لحظة ميلادنا .
أفلا يحق لنا الأستنتاج أن صديقات أو حبيبات أو عشيقات نزار ما هن سوى صور مختلفة للوح السالب المفرد الأصل : الأم !!
في عالم نزار الميتافيزيقي أمٌّ وفي عالمه المادي الأرضي صورتها : المرأة الأخرى . لو كان ” فرويد ” حيا لكنا فهمنا نزارا بشكل أفضل .
لا أعرف من أطلق على نزار اسم ( شاعر البز العربي – والبز هو النهد بلغة أهل الشام) . هو فعلا لكذلك لكن علينا أن نعرف الأسباب والموجبات بدل اطلاق النعوت الظالمة وكيل السباب ونهش الأعراض .

ازدواجية نزار

في نفس القصيدة السالفة قال نزار :

أنا لا أعرف ازدواجية الفكر
فنفسي بحيرة زرقاءُ

فهل هو حقا كذلك ؟ لنستمع اليه في قصيدة ” راسبوتين العربي”:

أنا المنحاز كليا الى نهديك
والعصري والحجري
والمدني والهمجي
والروحي والجنسي
والوثني والصوفي
والمتناقض الأبدي
والمقتول والقاتل
أنا المكتوب بالكوفي فوق عباءة العشاق
والعلني والسري
والمرئي والمخفي
والمجذوب والمسلوب والحشاش والمتعهر الفاضل.
……
هل أحتاج الى تعليق ؟ ثم ان ” راسبوتين الروسي الأصل ” كان مسيحيا وليس صوفيا أو وثنيا وما قتل أحدا في حياته بل هو مات مقتولا غيلة .
لعل أبرز تناقضات نزار وازدواجيته تتمثل في وقوفه في صفين متناحرين لا يلتقيان تماما كالخطوط المتوازية . فهو مع معاوية وبني أمية اذا تغزل بدمشق أو بلاد الشام وأفتخر . وانه مع علي والحسين ساعات الحزن والرثاء والأسى . ففي قصيدة ” من مفكرة عاشق دمشقي ” التي ألقاها في مهرجان الشعر بدمشق في كانون الأول (ديسمبر ) 1971 قال نزار :

يا شام أين هما عينا معاوية
وأين من زحموا بالمنكب الشهبا

في حين قال في قصيدة ” الى الأمير الدمشقي توفيق قباني ” يرثي ولده :

لأي سماء نمد يدينا ؟
ولا أحد في شوارع لندن يبكي علينا
يهاجمنا الموت من كل صوب
ويقطعنا مثل صفصافتين
فأذكر حين أراك عليا
وتذكر حين تراني الحسين .

لولا استسلام نزار لجبروت زخم القافية والروي – الياء والنون الساكنة – لكن الأصح أن يقول نزار :

فأذكر حين أراك حسينا
وتذكر حين تراني عليا

لأن الحسين هو ابن علي , وأنه قتل في كربلاء بعد مقتل أبيه الخليفة الرابع . ورغم ذلك فالصورة مؤثرة جدا , فيها شعر وفيها غموض وفيها حزن .
أما في مطولته ” افادة في محكمة الشعر ” التي ألقاها في بغداد فلقد قال :

فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي وبصدري من الأسى كربلاءُ

أنا لست ضد الشاعر اذا ما وظف الرموز والكنايات والإستعارات والتورية لتعميق المشاعر أو لتقريب الصور وتسخير كافة المؤثرات . والذي يرسم بالكلمات يحق له استخدام اللون والظلال . ذلكم حق مطلق للشاعر والفنان لكني أعترض حين ينفي نزار ازدواجيته وتناقضاته وحين يجمع الماء والنار معا ثم يقول كلا ما فعلت ولا تناقضت . ولقد قالها قبله المتنبي في البيت :
وما الجمعُ بين الماءِ والنارِ في يدي
بأصعبَ مِنْ أنْ أجمعَ الجدَّ والفهما

من مفارقات الزمان أن أسجل مقابلة اذاعية لنزار أجرتها له في لندن هيئة الأذاعة البريطانية بي بي سي . B . B . C فأُصاب بالذهول وبالدوار ! هل حقا هذا هو نزار الذي قد قرأت وقد عرفت؟
لقد بدا متواضعا أليفا كأرانب الحدائق العامة , يتلعثم ولا يكاد يبين , ويقع في أخطاء لغوية كأن يقول للمذيع الذي أجرى معه المقابلة (( أنت تجد الشاعر يكتب معلقة من مائة قصيدة – يقصد مائة بيت – تستطيع أنْ توجزها بخمسة أبيات أو تستطيع أن توجزها حتى ببيت واحد يسمونه بيت القصيد )) . ثم يقول :
(( علمتني اقامتي في لندن أن اكون مقتصدا في كلامي . أن أقول ما أريد أن أقول بصياغة أبسط )) .
فهل كان الأمر كذلك يا نزار ؟ اذن فلأذكرك بقصيدة ” افادة في محكمة الشعر ” المكونة من 102 بيتا عدا كان بأمكانك اختصارها حتى الى ما دون العشرين بيتا . لنواصل الأستماع اليه في مقابلة هيئة الأذاعة البريطانية اذ قال :
(( بلغتنا العربية ثرثرة كثيرة وفي – يقصد فيها – زوائد دودية كثيرة ووقت أنا أبتديت اكتشف اللغة الأنجليزية شفتها لغة عملية ولغة ما نسميه موافقة مقتضى الحال , يعني أنت تعبر بالأنجليزية عن حجم ما تشعر به تماما , يعني حجم الفكرة وحجم اللغة تماما متشابهان )) فهل , ترى , للفكرة حجم ؟ وهل للغة حجم ؟ وهل يصدق هذا الكلام على شعر شكسبير وبايرون وشللي ؟ وهل قرأ نزار شعر هؤلاء بالأنجليزية ؟ لنواصل الأستماع الى ما دار من حوار : يسأله المذيع أين تقع لندن في خارطة نزار ؟ فيجيب :

(( تقع على خارطة الحضارة . لندن من هذه المدن التي كانت مفترق طرق بالنسبة لي . جئت اليها أوائل الخمسينات وكنت ألبس عباءة من الغبار الصحراوي . عندما دخلت خضرة الريف البريطاني شعرت أن شيئا ما يتغير في أعماقي . لغتي تغيرت . لندن جعلت شعري مائيا , والشعر اللي ما فيه ماء يتحول الى اسفنجة جافة )) .
هذا هو نزار الأزدواجية . في الشرق عاشق لدمشق وبغداد وبيروت وللروشة والغوطة وقاسيون والقدس ويافا وعكا وشناشيل الأعظمية والمربد ونخيل البصرة وزينب وبلقيس وسعاد . أما في الغرب ….، فانه يعشق لندن ويشتبك مع اللون الرمادي ويحب ضبابها ويفرح اذ يضيع \ باب بيته ومفتاح الباب : عباءة رمادية جميلة على حد تعبيره . ثم يقرأ قصيدة اسمها ” فاطمة في الريف البريطاني ” :

لندن تمطرني ثلجا
وأبقى باشتهائي بدويا
لندن تمطرني عقلا
وأبقى فوضويا .

ذهب الشاعر غربا الى لندن وحمل لها معه عشيقة شرقية اسمها فاطمة . أدخلها الريف البريطاني آملا في أن يتغير شيء ما في أعماقها . نزار هذا سبق له أن قال في قصيدة ” أم المعتز ” :

(( كل مدينة عربية هي أمي. دمشق , بيروت , القاهرة , بغداد , الخرطوم ,الدار البيضاء , بنغازي , تونس , عمان , الرياض , الكويت , الجزائر , أبو ظبي , وأخواتها …, هذه هي شجرة عائلتي. كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها وأرضعتني من ثدييها … ))

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here