يتسائل داروين : كيف ارتقى عقل الانسان ؟ ح 22

(*)
بقلم د. رضا العطار

كان تشارلس داروين يحتاط كثيرا في كل ما يقوله بخصوص نظريته، فلم يتورط مرة في القول بأن اصل الانسان قرد، وانما قال ما نصه: ( اننا والقرود العليا نرجع الى حد بعيد الى اصلِ واحد، هذا الاصل لم يكن قردا ولم يكن انسانا، ونحن غير قادرين على ان نتصور شكله، كان ذلك قبل ملايين السنين ) واضاف : أن الجهاز العصبي في معظم الكائنات هو اداة استجابة للعوارض الخارجية. لذلك كان اول ظهوره على السطح الخارجي للجسم الحي، حتى اذا ما تركز بعض الحواس في الرأس كالسمع والشم والبصر والذوق، صار مكان الراس مركزا للقوى العصبية. واخذ الراس يكبر بالتدريج، فأكبر الكائنات الحية دماغا بالنسبة الى جسمه هو الانسان، الذي تبلغ سعته تسعة مليارات خلية عصبية، ووزنه في حدود كيلو غرام واحد ونصف. فهو آخر واعلى حلقة في سُلًم التطور.

ورغم كل ذلك، نجد الانسان يعتمد في اكثر من نصف اعماله على الغريزة وحسبنا دليلا على ذلك ان اكبر ما يدفعه الى السعي والنشاط غريزتان هما البحث عن الطعام والبحث عن الانثى. لكن دماغ الانسان مع ذلك يفوق دماغ ارقى حيوان، فالهوة بينهما كبيرة جدا. فلا بد من ان نعتبر الظروف التي دعت الى هذا التفوق هي :

1 – ان الانسان كائن له يد بها ابهام.
2 – ان له عينين في وجهه.
3 – ان له لغة.
هذه هي العوامل الثلاثة التي ساعدت على كبر دماغه، فالانسان لاقى ضروبا من تنازع البقاء اهلكت منه كل ضعيف و ابله. وربما لا يوجد في قصة التطور شئ بأستثناء العين، اعجب من اليد، فأننا للآن لا نعرف كيف انها تطورت، اذ لسنا نجد في الحيوانات الدنيا يدا ذات ثلاث اصابع تترقى الى اربع ثم الى خمس، لا، انما نلاحظ في جميع الفقريات خمسة اصابع، وفي بعضها مندمجة، كما هو الشأن مثلا في حافر الفرس او ظلف الثور او جناح الطائر او زعنفة الدولفين.

والدليل على قِدم اليد لدى الانسان، لاحظ يد الطفل الرضيع وعمره اسبوعين، كيف انه يستطيع ان يحمل جسمه في الهواء متعلقا بيديه بعصا.
والأرجح ان الكائن الحي عندما خرج من الماء الى اليابسة قبل مئات الملايين من السنين، استعمل زعنفه للتسلق كما يفعل بعض الاسماك الآن على شواطئنا. فلما تطورت الزعنفة الى يد، بقيت كذلك الى ان وصل الانسان الى مرتبة الانسانية.
اما في سائر البقية، تطورت الاصابع الى حافر او ظلف او مخلب او جناحا اواندمغت في الجسم ثانية كما في الثعبان.

ومن عوامل كبر الدماغ في الانسان تحول العينين من الصدغين الى الوجهه. فان العينين في جميع الفقريات تقعان في الصدغين كما هي الحالة في الطيور. فإذا اراد الديك ان ينظر الينا أمال رأسه كي ينظر بعين واحدة، فيتراءى لنا كأنه يصعر خده. واذا ركبنا فرسا واراد ان ينظر الطريق امامه ثنى عنقه قليلا كي ينظر بعين واحدة، وقد كان الانسان كذلك في اول عهده، كما يدل عليه تطوره الجيني وهو في رحم امه، فان عيناه تظهران في الصدغين اولا.

اننا نمتاز بهذه الميزة العجيبة التي تتيح لنا رؤية الاشياء بعينين معا، فتيسر لنا الرؤية المجسمة، ثلاثية الأبعاد. Sterioscop vision فجميع الحيوانات بالنسبة الينا فيما يشبه العور، بل هي اكثر من ذلك. ولعل هذا هو السبب في اجفال الحصان عند رؤية الانسان وهو على مسافة بعيدة عنه اذ ان وضع عينيه لا يجعله يدرك البعد الصحيح.
وبعد ان انعمت الطبيعة على الانسان باللغة، هيأت له سبل التعبير عن اغراضه، زاد حجم دماغه، فاليد واللغة والعين، تعتبر من اهم اسباب رقي عقل الانسان، فقد كان بين هذه الثلاثة وبين الدماغ تفاعل مستمر كلاهما يؤدي الى رقي الآخر.

ومما جعل نظرية التطور بعيدة عن فهم الجمهور، اقتصاره على رؤية قردة قميئة يلاعبها الأشخاص في السرك. فيستبعد الناس فكرة الصلة التطورية بين الانسان والقرد بل يكره النظرية لما يرى فيها من الازدراء بقدره ومقامه. لكن هناك انواعا اربعة نادرا ما نراها وهي من القردة العليا كالجبون والأورانج في أسيا والشمبانزي والغوريلا في افريقيا.

فالجبون ليس له ذنب ووجهه يشبه وجه انسان وترتيب اسنانه مثل ترتيب اسنان الانسان وحنجرته تشبه حنجرة الانسان، واذنيه تشبه اذن الانسان، وعدد اضلاع صدره يساوي عدد اضلاع صدر الانسان، فهو اقرب منا في هيئة الجسم ومزاج النفس، تنبعث من عينيه نظرة الهدوء يعيش غالبا في جزيرة سومطرة في الهند الصينية.

اما الآورانج فهو اكثر شبها بالانسان من الجبون، يعيش في جزيرة جاوه، وأطفاله تكاد تكون اطفالا بشرية تتدلل على صدر حاملها وتضحك وتبكي. واذا تركها على الارض وسار بعيدا عنها اخذت في الصياح تضرب الارض كما يفعل اطفالنا. يعيش بشكل جماعات اشبه بالعائلة منها بالقطيع. ولفظة اورانج اوتان تعني في لغة سكان جاوه (انسان الغابة). وهو يمشي على رجليه منتصبا ويعتقد الأهالي انه يستطيع ان يتكلم، اذا اراد، لكنه يتعمد الصمت خشية ان يسترقّه الانسان. وكان الهولنديون المستعمرون يأخذون صغار الاورانج الى اطفالهم لملاعبتهم. والاورانج يمتاز وجهه بالمسحة البشرية، فهو عريض يشبه الوجه الصيني، ولو تأملناه وهو يلاحظ ما حوله بعينيه دون ان يحرك رأسه، او وهو يتنهد او يقطب حاجبيه او يحك جسمه، تكتشف لك، انك امام حيوان قد اوشك ان يكون انسانا.

ولا يعايش الاورانج الأنثى إلاّ وقت التلاقح. وطريقة التلاقح هي الطريقة البشرية، البطن يلي البطن، بخلاف الحيوانات، حيث يجري التعارف الجنسي بينها على اسلوب وجه الذكر الى ظهر الأنثى. وعضو التناسل عند ذكر الاورانج قصير غليظ يشبه عضو التناسل عند الرجل الصيني. واذا سارت الأنثى صحبها اثنان من اولادها، احدهما رضيع والأخر طفل يمشي.

واناث الاورانج كبقية القردة العليا تحيض مثل انثى الانسان، وهذا بخلاف اناث سائر الحيوانات في العالم التي لا تحيض قط. وليس الاورانج لبق الحركة خفيفها في تنقله، بل انه يتحرك برويًة وتفكير حتى يتوهم الناظر اليه انه مرتبك.
واذا اراد الاورانج ان يشرب الماء، فانه لا يضع فمه على المجرى مباشرة كما يفعل الحيوان انما يشربه ملأ كفّه. وهو يأكل جوز الهند مع بعض اوراق الشجر، ووجبته هي الغذاء في الظهر. وهو شرس متوحش وخطر اذا اُسّر، وقد يغير على الانسان ويقتله بيده واسنانه، ولكنه وديع لطيف اذا استؤنس وهو صغير.

والشمبازي، يستعمله الأفارقة في قضاء اعمالهم، (يروي كاتب السطور انه سمع اثناء زيارته السياحية الى تايلند ان القردة هناك تساعد الاهالي في جني ثمار جوز الهند)
كما يستعمله الفنانون في الغرب في بعض الأدوار المسرحية، فهم يؤدونها بحذق ومهارة بعد تدريبهم. ومن شاهد منا فلم ( ذهب مع الريح بطولة كلارك كيبل )، يتذكر الدور الفني البارع الذي ادّاه القرد فيه — كما اني اتذكر عرض مسرحي ليلي شاهدته في مدينة دزني للألعاب في لوس انجلس قبل سنوات، حيث كان قرد الشمبازي يؤدي حركات بهلوانية لبقة تضحك الجمهور وهو مرتدي السترة والبنطلون المزركش، يعلو صدره وردة حمراء، حتى اني عند دخولي صالة العرض خلته امريكي اسود.

والغوريلا اكبر القرود جسما، ويده اقرب الايدي في تركيبها الى يد الانسان. وهو يعيش فيما يشبه النظام العائلي، فإذا جاء الليل انحدر من الشجرة ونام عند جذرها يحرس الأنثى واولادها. وفي علاقته بأنثاه ما يشبه عندنا من الاحترام والوقار، وهو يفهم معنى الانتقام، ويغير على منازل الزنوج ويفتك بهم، اذا آذوه.

ان تخطيط الكف لقرد الاورانج، يتفق مع تخطيط كف الانسان المغولي او الصيني او التيبتي، لكنه يختلف عن تخطيط الكف لدى الأنسان الأفريقي والأوربي.
و جلسة الاورنج اوتان هي نفسها عند الآسيويين من الصينيين وسكان الامم المجاورة، فهو يقعد على عجزه ويطوي ساقيه تحته. كما هي الحال في هيئة الجلوس للزعيم الروحي بوذا. وهذا بخلاف قرد الشمباز في افريقيا الذي يكون في هيئته اقرب الى الاوربي واكثر شبها به.
الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here