لجم العقول الخلاقة

علي علي

يقول أجدادنا أن الخير يجب أن يصل الى سابع جار، وفي هذا كناية عن تعميم الخير وعدم احتكاره أو الإبقاء عليه في عندياتنا، ولعل هذا يشمل الرقعة الأكبر من الجيران والمنطقة والمدينة، حيث الوطن الذي يضم جمعهم.
أسوق ماقاله أجدادنا وأنا استذكر خبرا كانت قد تداولته وسائل الإعلام قبل حين، وهو خبر اختيار وكالة ناسا الفضائية اختراع أربع طالبات عراقيات بعمر الورود، ليطبق ضمن رحلتها الى محطة الأبحاث العالمية العائمة في الفضاء، ولقد فزن الطالبات الأربع بالمركز الأول في الولايات المتحدة الأمريكية عن ابتكارهن طريقة فريدة من نوعها لتصفية المياه. اللافت في الأمر أن أعمار تلك الطالبات لاتتجاوز الخامسة عشر، ولو عشن في بلدهن العراق لكن اليوم في مرحلة الدراسة المتوسطة.
وخبر تميز العراقيين وابتكاراتهم ليس بجديد على الإعلام العالمي، إذ يسجل العراقيون حضورهم في مجالات العلوم كافة بما يؤكد تفوقهم من بين جنسيات بلدان العالم، فنسمع بين الآونة والأخرى خبر اختراع مواطن عراقي شيئا جديدا في مجالات الحياة الطبية او الهندسية او الزراعية او الإلكترونية، او غيرها مما يعود بالنفع الى الإنسانية جمعاء. وتتناقل القنوات والإذاعات هذه البشرى، وتتصدر مانشيتات الصحف وتكون حديث الساعة بين شرائح المجتمع، وقطعا هم يسلطون الضوء على الاختراع وليس على جنسية مخترعه، إذ أن من المفترض أن بلده هي التي تروج له، وتسعى الى إظهار الصورة بأوسع أطرها، وتكون مدعاة فخر واعتزاز لها.
إلا ان الحكومات التي تعاقبت في عراقنا بدءًا من النظام السابق انتهاءً بالحكومة الحالية، لم تولِ هذا الجانب اهتماما مناسبا، بل على العكس، فقد حاربت العلماء من الذين لديهم طاقات وأفكار جديدة في اختصاصاتهم، وكبحت طموحاتهم ووأدت اختراعاتهم في مهدها، لأسباب عدة. فعلى سبيل المثال ماقامت به سلطات النظام السابق في ثمانينيات القرن الماضي، حين توصل رجل ميكانيكي الى فكرة تصنيع طائرة هليوكوبتر مبسطة، مستغلا بذلك مامتوفر لديه من امكانيات بسيطة من أدوات لسيارات مستهلكة، وحين أراد إدخال اختراعه حيز التنفيذ -وبدأ بالفعل بتنفيذه- اختفى الرجل في دهاليز السلطات الأمنية والمخابراتية لنظام البعث، ولم ير النور بعدها ولم يره أحد الى يومنا هذا، ولا أحد يعلم بأي أرض دفن، وكل الذي يعلمه العراقيون أن اختراعه قد دفن واندرس سره الى الأبد. وتعددت مثل هذه الإختراعات التي لم تلق الأرضية المشجعة لها اوالحاضن لفعالياتها.
وقد تكررت نفس الصورة بأوجه أخرى في باقي العلوم، فالطالبات الأربع لسن الوحيدات في مجال الابتكارات والاكتشافات الجديدة، ولست هنا بصدد الدعاية والإعلان عن أحد، وترويج ما اخترعه اواكتشفه، فهم كثر، اذ هناك من العراقيين كمّ يجب ان لايستهان بعدهم وعددهم وبقدراتهم وامكانياتهم، وبما تجود به عقولهم بكل جديد في مجالات الحياة وتطبيقاتها.
هو أمر ليس بجديد على شعب كالعراقيين، فمنذ سالف العصور كانوا سباقين في مجالات العلوم كافة، فضلا عن الآداب والفنون والصناعات العسكرية. وكانت ابتكاراتهم نبراسا استنار به علماء الغرب فيما بعد. واليوم وبتناسل طبيعي وشرعي، يجيد أحفاد السومريين والبابليين والآشوريين ممارسة دورهم في صناعة الحياة، ومواكبة مسيرة التقدم بمجالاته كافة.
هنا ينبغي على الدولة -لاسيما المؤسسات المعنية- ان ترعى اهتمامات كهذه وتحتضنها وتمول القائم بها ماديا ومعنويا، لتتيح لطاقاته ان تتفجر، وتأتي بما يخدم العراق والعراقيين على وجه الخصوص، والإنسانية على وجه العموم.
أليس من حق هؤلاء ومن حق العراقيين جميعهم على من بيدهم أمر تقدم وازدهار هذا البلد، أن يأخذوا بأيديهم ليسهموا في رقي البلد بعقولهم؟ أم مازال مسؤولونا وساسة عراقنا متمسكين بسياسة كبح الطاقات التي انتهجها من سبقهم، واستعذبوا لجم العقول الخلاقة، واستطيبوا تبديد همم المخلصين لبلادهم، دون اكتراث لما يلحق هذا من ضرر، وقد قال في هؤلاء شاعر الأبوذية:
آنه ام المصايب وآنه ابيها
وهي دوما تبيني وآنه ابيها
خل تغرگ يصاحب وآنه بيها
إذا غرگت سرور يصير بيه

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here