أسرار السلطة في صفحات من تاريخ العراق الجمهوري المعاصر

دراسة  نقدية في أوراق ليث الحمداني:ذاكرة تاريخية عراقية

اهداني  الصديق الاستاذ  ليث الحمداني  رئيس تحرير  جريدة  البلاد  الكندية  ، كتابه  الرصين  «أوراق من ذاكرة عراقية :  هوامش من سيرة صحفية «  منذ  اكثر  من  عام  مضى  ،  وهو  الصادر  عن مطابع دار الأديب، عمان – الأردن، ط 1، 2016  ، ولم  يتسن  لي اكمال  قراءته الا  قريبا  ، اذ  تمتعت  به  جدا  ، ويكشف الرجل  باسلوبه  المتميز  عن معلومات  لم  تكن  الناس  تعرفها ، وهو  يحكي  لنا  مخاض  تجربته  المهنية  في العراق  ، وخصوصا  اولئك  الذين  تعامل  معهم  .   وقد  قّدم الكتاب  الصديق د. عبد  الحسين  شعبان  بمقدمة  طويلة  جدا ، اذ  عتبت  عليه  ان  يقدّم  كتابا  بهذه الطريقة  التي  استحوذ  فيها  من  خلال الكتاب  على  قارئه  ،  وما  هكذا  يكون  اسلوب  تقديم  الكتب  ، اذ  كنت  اتمنى عليه مخلصا ان يختصر  كلامه في تقديمه على  اهمية  الكتاب  ومزايا  صاحبه  بدل ان  يغرقنا  بفقرات لا علاقة  لها  بالموضوع  ، وكان من الاهم أن  ينشرها  لوحدها  بعيدة  عن  نص  هذا « الكتاب « ، كونها  تحمل  تفاصيل شخصية لا  علاقة  لها  بالموضوع  !  كما  حملت  « المقدمة  «  تعابير  مغرقة  بالمجاملة والاكثار  منها  مع اسهاب  في غير  محله ،  واسترسال لا  حاجة  له  ابدا  في هذا  المكان  وعلى  حساب  اوراق  الكتاب  ومضمونه !  وكم  كنت أتمنى  ان  تجمع  عبارات  عديدة  لتنشر  في  مكان  آخر  ، اذ  يتضمن  بعضها  بعض  الافكار  الجيدة  .

اهمية المذكرات  لقد  وجدت  في النص  الذي  كتبه  المؤلف الاخ الحمداني ، انه  نص   زاخر  بمعلومات تاريخية  جديدة  ، وهو  يتحدث  عن  حقبة  تاريخية  مهمة  عايشها بكل  احداثها ، وخصوصا  في  ميدانه  الصحفي  على  امتداد  قرابة  اربعين  سنة  . وعليه  ،  فان  مادة  « الكتاب  « ومضمونه  : اعتبرها  ليس  مجرد  مرجع  عادي  ، بل  تعدّ مصدر  معلومات ، وذاكرة لها مصداقيتها  لصحافة  العراق  خلال  العقود  الاخيرة  الاربعة من حياة العراق المعاصر  ، وهي  مرحلة  زمنية  تشحّ  فيها المعلومات  ، وتختلط  فيها الاراء  ،  وتختفي  خلالها  الحقائق  ،  وتصطرع  فيها التيارات السياسية  والدعايات  المؤدلجة  والشعارات  الثورية مع خطابات المعارضة  من خارج الحدود  منها  الشجاع  ومنها  ما  ينشر على  استحياء   ..  ولكن  تنمو  خلال تلك المرحلة جملة من  الابداعات  الادبية  والفنية  والتشكيلية  ، فضلا  عن  نمو  الصحافة  وضمورها  ، وهي التي  كانت  معبرّا  اساسيا  عن  ضمير  العراقيين  على امتداد القرن  العشرين 

ان كتاب ليث الحمداني يحفل بحكايات وقصص وأراء  ومعلومات  وتقييمات وسجالات ونقاشات ونماذج  ومواقف  .. كتبها بأسلوب أدبي جميل ، وهو  بكتابه هذا  ، يفتح الابواب   امام  الاخرين  لكتابة  ما  يعرفونه  وما  خبروه  او  عايشوه  من حقائق الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت  سائدة  في البلاد ، ابان  عهدي  احمد  حسن البكر  1968 – 1979 وصدام  حسين  1979 – 2003 ،  وخصوصا  خلال الحرب العراقية – الإيرانية  1980 – 1988 وما تبلور  بعدها من تداعيات ومؤثرات .. ثم  الحدث  الدراماتيكي المفاجئ  بغزو  العراق  للكويت  عام  1990 ،  وما  جر  هو  الاخر  من تداعيات وآثار  صارخة  .. ومن  بعدها كذلك سنوات الحصار  القاسية اللاحقة وصولا الى  العام 2003  ، حيث  سقوط  النظام السابق ،   وما  ستجر  اليه  الاحداث الدراماتيكية من تداعيات مأساوية ومتغيرات  جد  صعبة  .  .

المؤلف .. من يكون ؟

ان  ليث  الحمداني  ، صحفي  عراقي  متميز  ، كنت  اتابع  مقالاته  ومحرراته  وتسجيلاته  منذ  زمن  بعيد  في العراق  ، وخصوصا  من خلال  جريدة  الاتحاد  ، وهي  جريدة  مستقلة  ..  وقد  عرفنا  من خلال اوراقه  كم  هي  خبرته المهنية العراقية

واسعة  مذ  بدأ هاويا  مراسلا  صحفيا  ، ثم  تمكّن  من  الصناعة  الصحفية ،  والتحرير  الصحفي ،  والادارة  الصحفية  ، والاشراف الصحفي ،  والمحرر الاساسي  ورئاسة  التحرير  . من هنا  تنبثق  خبرته المخضرمة اليوم بين  زمنين  ومكانين . 

وعليه  ،  فان  شغف  الرجل   بمهنته هذه  وعمله  فيها  ليل  نهار  جعله واحدا  من اهم  المبدعين  الصحفيين العراقيين  على  امتداد  نصف  قرن  مضى  ، بل  وغدا  يصلي  في محراب  هذه  المهنة ليل نهار ، وهو  يحفظ  من خلالها  اسرارا سياسية  وثقافية  واجتماعية  واقتصادية  عن  بلد  منذ  كانت  تهزه  الانقسامات السياسية والشعارات الصارخة حتى  تجرد من  حرياته  الابداعية  وغدا  مسجونا  في  زنزانة  مظلمة،  وصولا  الى  تمزقاته  الطائفية على  ايدي  طبقة  سياسية  جاهلة ومراوغة  وفاقدة  للروح الوطنية    !  كان الرجل  يجدد نفسه  حسب  المراحل   الزمنية  التي  يمر  فيها  مع  تمسكه  بمهنيته  اولا   واخلاقياته  ثانيا  ..  مع  عشقه  للصحافة الساخرة  التي  احبها  منذ  صغره  ،  ولازمته الفكاهة  على  امتداد  حياته  المهنية  حتى  اليوم .  لقد  عاصر  مختلف العهود  الجمهورية  ، صحفيا  وناشطا  وسياسيا  ،  وانتهى  به  الامر   اليوم  في كندا  رئيسا لتحرير  جريدة  رصينة  شهرية الصدور  ينشرها  من  مدينة لندن  اونتاريو  التي  يقيم  فيها . ما  يعجبني  في الرجل  ايضا  صراحته  ووضوحه  ، فهو  يعرض  كل  ما  يدور  في رأسه  ، ولم  يتحفّظ  ابدا  على  بعض  صفحات  ذكرياته  ويعرض  على  ما  يعجب

الاخرين ، بل  يبدو  صريحا  في  كل  ما  مرّ   به  ،  وكتب  عن  كل من عمل  معه  او  برفقته او  تحت  سلطته  ..  والامر   الاخر  ، انه  يميل  نحو  عرض  الايجابيات  اكثر  من فضحه للسلبيات  ، بمعنى  انه  يميل  في نواياه الى  الاخذ  بالحسن  دوما  ، وهو  لا يسيئ الظنون  الا  بعد  ان  يتأكد  من الشيئ القبيح  بالرغم من  معاناته  ازاء  تقلبات  الزمن  ، وما  اكثر  تلك التقلبات  في العراق  الجمهوري المعاصر 

شاهد عيان على دراما الصراعات  العراقية  ان  ذكريات  الاخ  ليث الحمداني  تضم  معلومات  جد  مهمة  عن  بعض مؤسسات الدولة  والتي  نالها الخراب ، وحل  بها الخلل  مذ  دخلت  السياسة  والايديولوجيات والشعارات الفارغة والتحزبات التنظيمية في  كل الدوائر  والمرافق الرسمية  والاجهزة  والمؤسسات المدنية  والعسكرية  ، وعاش  اغلب العراقيين  على  هوس تلك الشعارات  ردحا  طويلا من الزمن  ،  تلك  « الشعارات  « و « الدعايات « التي  انتقلت  مانشيتاتها  من عهد  سياسي الى  آخر  ! مع  التكتم  على  الخلل  الذي  كان  العسكريون  من ورائه  ، وهو الذي   سمح  لكلّ من هب ودب  ان  تكون  له  حصة  في  حكم البلاد  ، اذ  عرف العراق  من العام  1958  عملية  توزيع المناصب  بشكل  عشوائي  ، واختلطت  الامور  ، وضاعت الموازين ،  واصبح  الشارع  وعواطف  الناس  فيه  هو المحرك  لزعماء العراق  الذي  جاءوا  فجأة  الى  الحكم من دون اية  معرفة  عامة  بالبلاد  ، كما  لم  تكن  لهم  اية  خبرة  بمؤسسات الدولة واجهزتها  ، وغدا  الصبيان والجهلة  وزراء  وسفراء  ومتصرفين  ( محافظين ) ومدراء  عامين  .. الخ   ..  بل  وعدوا  المجتمع  مجرد  افراد خانعين في ثكنة  عسكرية  في دولة جمهورية  اسموها  بالجمهورية الخاكية الخالدة !   وراح المجتمع العراقي  يصارع  بعضه  بعضا  من خلال تيارات  سياسية  كمنظومات متنازعة  دمويا حول الاستحواذ  على السلطة  والنفوذ  وكسب المصالح  والمكاسب ، لا  من اجل  مبادئ  وطنية او  قيم  عليا ،  وخصوصا  بين تيار  شمولي  يمثله الماركسيون  ( واغلبهم من الشيوعيين )  وبين  تيار  شمولي  آخر  يمثله  القوميون  ( واغلبهم من الناصريين والبعثيين مع  وجود  بعض الاسلاميين )  ، اذ  عاش  المجتمع العراقي  حربا  سياسية  باردة  وساخنة  في  اماكن  واحيان  مختلفة ،  ووصل التنافر  الى  اقصى  مدياته  ،  بحيث   جرّ  الصراع  الى  حدوث حمامات  دم   . واستخدم  الجيش  في  محاولات  انقلابية  عديدة  ،  واعدم  العديد  من الضباط  والقادة  العسكريين  كونهم من المتآمرين  والعملاء  .. 

لقد  اطلعتنا  ذكريات  ليث الحمداني  على  سجايا  بعض  المسؤولين المخلصين من الذين حملوا  العراق على  كاهلهم  وناضلوا  من اجل  المبادئ  التي  حملوها ، في حين  تلمسنا  كم  وصل الى  السلطة  او  الى  المناصب  من اناس رعاع  واشقياء وقطاع  طرق  لم  يستحقوا  ان  يكونوا  في  اماكن  لم  يحلموا  بها  أبدا  جراء  سوء  ما  حملوه  من  نزق  وتفاهة  ، او  ما  كانوا  عليه  من امراض  نفسية متوارثة ، اذ تجسدت  عندهم  ركامات من الضغائن والاحقاد  والكراهية ، وما  فعلوه من وشايات  ومشاغبات  ، وما  قاموا  به  من دسائس  وتلفيقات وخيانات  وايقاع  بالاخرين  ظلما  وعدوانا ،  وكل  هذا  وذاك  يقترن  بالوعي  المزيّف  والثقافة  التافهة  وضعف  المعلومات وترويج  الشعارات  الكاذبة   .. مع  عادة استخدام الاغلبية  للمجاملات  والمداهنات ، وما  كانوا  يفعلونه  في  ظل  اي نظام  من التملقات  لهذا  المسؤول  وذاك  الوزير  ، او  هذا المدير  او  التصفيق  لهذا الزعيم  او  التمسح  بذاك الرئيس  ..  وهذا  ما  أقوم بمعالجته اليوم  في  كتابي  الجديد  عن « تشكيل  الشخصية  العراقية «  التي  كان  لها  دورها  في  صنع الخراب  والدمار  لبلد  كان  يمكن ان  يكون  من  افضل  البلدان في العالم ابان  النصف الثاني من القرن العشرين  ، نظرا  لقوة  موقعه  ،  وكثرة  موارده  ،  وجمال بيئاته  ،  وذكاء  اهله   ..   

الامانة  التاريخية

كان المؤلف  حريصا  ان  يقول  الحقائق  كما  عايشها  ، والواقع  كما  هو  عليه  ، وقد  كان  نزيها  في  شهاداته  ، اذ  لم  يسئ الى  احد  ولم  يبالغ  في  تقدير  المواقف  مستخدما  لغة  سهلة  الفهم  ، ولكنها  عميقة  في المعاني  .. وكان  ذكيا  في  رسم  الاحداث  من دون اية مغالاة  بأي  اتجاه  ، علما  بأن  الواقع  كان  معقدا  جدا  ويعج  بالتناقضات  التي لا  تعد  ولا  تحصى  ، وهي  تعكس  حالات  كان  المجتمع العراقي  قد  تشبّع  بها  . وعليه ، فانني  انصح  كل  الاجيال القادمة  في العراق  اعتماد  هذه « المذكرات «  مرجعا  لكتابة  تاريخ  بعض الجوانب  لمن  يتدارس  مشكلات  العراق  في  مؤسساته  ، وما  عانت  منه  الدوائر  السياسية  والاعلامية  والعسكرية  التي  كانت  وبالا  على  مؤسسات  اخرى  تخص  الخدمات  والاقتصاد  والتخطيط  والتربية  والتعليم  والصحة  والمرافق  الحيوية  الاخرى  .

كتب  مقدم الكتاب الصديق د. عبد  الحسين شعبان  يقول : «  لقد كان الحمداني وفياً للصداقة إلى أبعد الحدود، وفي الوقت نفسه وفياً للحرف والمهنة، التي لم أصادف أحداً امتلك هذه الإمكانات الكبيرة وعمل في حقول مختلفة وتجوّل في مواقع عمل ومطبوعات كثيرة، وظلّ عند مواقعه يتحسّس الأرض التي يقف عليها، بواقعية مذهلة وقدرة عجيبة على شمّ المخاطر والتقاط الجوهري من الأشياء ومعرفة خفايا وخبايا وأسرار يحفل بها الكتاب، بل إنني حسبما  أعرف ، لم يعرفها كثيرون، حتى من المقرّبين لتلك الفترة والمرحلة، خصوصاً في أجواء السرّية المطبقة، فكل شيء، بما فيه معلومة بسيطة تصبح من أسرار الدولة وجزء من الأمن الوطني، فما بالك بمعلومات في غاية الخطورة «  .

ان  «  كتاب ليث الحمداني، شهادة شفيفة على مرحلة كاملة بما فيها من تناقضات وصراعات وتنازعات مشروعة وغير مشروعة، ناهيك عن كونه عرض بانورامي لعدد من مفاصل الدولة المهمة وقطاعاتها المختلفة وعدد غير قليل من إدارتها ومسؤوليها وطريقة تفكيرهم وأساليب عملهم، لاسيّما خلال فترة عصيبة، سواء باتجاه الحكم تدريجياً نحو الانفراد بالسلطة وإقصاء خصومه أو منافسيه من القوى الأخرى أو من داخله، فضلاً عن الحرب العراقية- الإيرانية وما تركته من جراحات، زادها عمقاً وألماً مغامرة غزو الكويت في 2 آب / اغسطس 1990 ،  وحرب قوات التحالف الدولي ضد العراق  1991 ، حيث بدأ مسلسل الحصار الاقتصادي «  .

اسرار  عهدين  جمهوريين

ثمة  اسرار  تاريخية  يكشف عنها  الاخ  الحمداني  في ما  يخص  الفترة  بين 1963 – 1968  ، وما  فيها  من فساد ، وخصوصا  ما  يخص  التسلح  والصفقات  والضحايا  من تأثيرها  ، فضلا  عن  الغباء  السياسي  الذي  حظي  به  البعض  في معالجة  القضية  الكردية ..  واذا  كان  الاخ المؤلف  له  تقييماته  الايجابية  عن  بعض المسؤولين  العراقيين  خلال  تلك  المرحلة  وما  اعقبها  ،  فانني  اجد  ان  كل  المسؤولين السياسيين  القياديين  والتنفيذيين  والعسكريين  لم  يكونوا  مؤهلين  لشغل  تلك  المناصب  كونهم  اتوا  الى  السلطة  باساليب  غير  شرعية  ابدا  ،  اذ  عاش العراق  منذ العام  1958  سلسلة  انقلابات  عسكرية  وحزبية  اتت  بمسؤولين الى  السلطة  من دون  وجه  حق  ، وجلسوا على  الكراسي  بلا  فهم  ولا  مؤهلات  ولا  اية  خبرات  ، فاساءوا الى  الحكم ، وان  كل  ما  صدر من قرارات  وما  شرع من  قوانين  كان  يخالف الشرعية  جملة وتفصيلا  !!   علما  بأن  الكوادر  الوظيفية  العراقية  كانت  في اغلبها  نزيهة  ومخلصة  في مهنيتها  وقوة  عملها  ومنتجها  قبل  ان  تتلوث  اثر  العام  1979  مع  اندلاع الحروب  واستشراء  الدكتاتورية وانتشار الرعب  ،  وفي  قناعتي  الراسخة  انها  كانت  نتيجة  لما  عاشه العراق  لاكثر  من عشرين  عاما  1958-  1979  على  مرحلتين اثنتين هما :

اولاهما  الجمهورية  الخاكية  وتسيّد  العسكريتاريا  القاسمية  والعارفية  على  اغلب المؤسسات الحيوية مع تفاقم  الصراعات  الايديولوجية  بين الماركسيين والقوميين  ، وبين القاسميين  والناصريين  ، وبين الشيوعيين  والبعثيين  ..  الخ 

وثانيهما  الجمهورية  الحزبية على  عهد  الرئيس البكر  وتصفية  كل الخصوم  السياسيين  والعسكريين  ( وحتى  بعض المستقلين  المدنيين وشيوخ العشائر  )  في قصر  النهاية وخنق اي صوت معارض  بابشع الاساليب  ليتم  قطف  الثمار  عام  1979  الذي  بدأ  بمجزرة  مؤامرة  الرفاق المرعبة  وهيمنة  الرئيس  صدام حسين  على  كل العراق 

تنوّع النخب  العراقية

بدأ  ليث الحمداني  مسيرته الصحفية  مذ  قدم  اصلا  من الموصل  الى  بغداد  مشبعا  بثقافة  متمكنة  ، ونفسية  طموحة  ،  ومنطلقا من بيئة  زاخرة  بالمواريث  القوية  ليكون  في بغداد  العاصمة  الكبيرة  التي  تتميز  بثقلها  وتنوع  ثقافات  ابنائها  وازدحام  مؤسساتها  بالادباء  والاساتذة والكتاب والشعراء والفنانين  والمسرحيين  والتشكيليين  .. بدأ  خطواته  مصححا  ،  وانتهى  رئيس  تحرير  فهو  يعيش مع الاوراق والاخبار  والمقالات  والمتابعات  ليل نهار  وشغفه  بالقراءة  لكل ما كان  يصدر  بالعربية  من صحف ومجلات  طوال حياته ، ولقاءاته  مع الناس  المتنوعين  في  مركز  يقصده  كل  صاحب  شأن  وكل  المثقفين  في حياة  جيل  كانت الصحافة  متنفسه الاول والاخير   ، فكان ان عقد  صداقات  استمرت  طويلا  ، وشهد  فصول  ازمات ، وتبدل  رجالات  ، ومجالسة  اساتذة  وكتّاب وعلماء  ولغويين ومثقفين حقيقيين ، وتصادم  متناقضات ، وتمرس  مذيعين ومذيعات  ، مع  ابداعات  فنانين وفنانات  مطربين  ومطربات  مسرحيين  ومخرجين وممثلات  .. فمنهم من يذكره  سريعا  ومنهم  من  يطيل  الوقوف  عنده  هنيهات  ..  وكل  تلك  الكوادر  قد  ساهمت  في بناء  العراق  المعاصر  ، لولا  هجمة  العسكريين  وغدر   المجانين  من الساسة  للاستحواذ  على  السلطة  من خلال الانقلابات ..  والضحك  على  العراقيين  المهوسين بالشعارات الخيالية  التي  لا  يمكن تحقيقها  على ارض الواقع  أبدا !

معاناة  في التعامل  مع  قادة ومسؤولين  جهلة    

لكن  الرجل  عانى  كثيرا  ، وخصوصا  في تعامله مع  سياسيين  جهلة  لا  علم  لهم  بالصحافة  ولا  دخل  لهم  بالثقافة  ، وكم  عاش  من مفارقات  وما  لها  من  معاتاة  ومواجهته  مواقف  مرعبة  ومخاوف  وهو  يفصح  عن  شدة الشعور  بالقسوة  لدى  الصحفي  الجاد  ، وهو  يعمل  موظفا  في  دائرة  رسمية  بعيدا  عن  طموحه  ورغباته وامنياته .   كانت  معاناة  الحمداني  كبيرة ، اذ  كان  واقعا  بين مطرقة  السلطة  وسندان المهنة  ، وذاك  لعمري  حرج  كبير  ، فهو  لا  يستطيع  ابدا  مخالفة  الاوامر  الصادرة  عن السلطات  السياسية والادارية  وبنفس الوقت  ليست  له  القدرة  على  تزييف  الحقائق  وفبركة  الاحداث  كي لا يسئ  الى  مهنته  الاكثر  حساسية  وخطورة  وخصوصا  في العراق  ، فالصحفي  المحترف  لا  يمكنه  وقت ذاك  الا  المشى  على  المسامير  او  الجري  فوق الجمر  .. انه الراكض  في حقل  الغام  مدمّر !  ان  تسلّط  قادة  من الحزبيين  الجهلة  على  مؤسسات حيوية  في الدولة  ، مثل القطاع الصناعي  واصدار  اوامر  بانهاء  كل التنظيمات  النقابية  في العراق  لاسباب سياسية  وليست  مهنية  ، واتباع اساليب  غير  اخلاقية  ولا انسانية  ابدا  ، وكبت  اي  صوت  حر   يقوم  بنشر  نقدات  ، او  يعارض  اي  قرار  ، فهو  يدرك ان مصيره الموت  المحتم  .. ويقدم  الحمداني  مثالين  للمقارنة  او  نموذجين  مختلفين  اولاهما  طه  الجزراوي  بكل  صلفه  ورعونته  وعنجهيته  ،  وثانيهما   فليح حسن الجاسم  بكل مرونته  وهدوئه  وقد  دفع حياته  ثمنا  لموقفه  الرافض  ..  ثم  يسوق  لنا  المؤلف  نموذج  ناجح محمد  خليل  ، وهو  الاكاديمي المطيع ،  ولكن محمد  عايش  الذي  اعقبه  حول الوزارة  الى  منظمة  حزبية  .. اي  ان  مؤسسة  كهذه  يقودها  عامل  متخلف  جاهل  ويحولها الى  وكر  حزبي  وبعد  اعدامه  تسلم  الوزارة  طاهر توفيق العاني وقد وصفه المؤلف بـ» الوزير الطيب والنزيه»، وهنا  اخالف  الاخ  المؤلف  ، فما  مؤهلات  هذا الاخير  ليتسلم هذا المنصب  ؟  المشكلة  ليست  في  طيبته  او  نزاهته  ، ولكن  في  ضآلته  ازاء  هذا المنصب  ، اذ  حدثني  احد  اعيان  الموصل  عندما  كان  طاهر  توفيق العاني  محافظا  لنينوى  ، وكان  يتنقل في   بعض الامسيات بين  مجالس  عدد من  شخصيات  المدينة المعروفين  ، فزار  المحافظ  مجلس  احدهم  في بيته  مساء  ، وضمن  ما  دار  من احاديث ، سأل  احد  الاساتذة  الحاضرين  المحافظ  الضيف  قائلا  :  ان من تولى  ادارة  مدينة الموصل  على العهد  الملكي  ، قام   ببناء الحدائق  مثل  حديقة  الشهداء  وحديقة  البلدية  وحديقة  باب الجسر  التي  كانت  متنفسا  للاجيال  ، وصنع  النوافير  ، بل  وشيّدت  غابات الموصل  النموذجية  التي  عدّت  رئة  للموصل أم الربيعين .. واليوم  ، فان  هناك  مساحات  شاسعة  بين  كليات  الجامعة  ومجموعة  من التلول  بحاجة  الى  ان  تكون  جنائن  وحدائق  واشجار  اسوة  بجامعات العالم  ، وبامكانكم  تحويلها  من ارض  جرداء  الى  حدائق  غنّاء تزدحم بالطيور  والعصافير   .. فقاطعه العاني  قائلا :  والله  انت  بطران  ،  الناس  في الموصل  لا  تشرب  الماء  ، وحضرتك  تريدني  اسويلكم  حدائق  وازرع لكم  اشجار  وزهور   ؟؟؟؟  نظر  الجالسون  احدهم  في الاخر  ،  وهب  المحافظ  العاني  مغادرا  .  ان  مجرد  التأمل  في هكذا  اجابة  تخبرنا  عن  ضحالة  العقلية  التي  حكمت  العراق  منذ  ازمان  وحتى  يومنا  هذا  مقارنة  بالرجال  الافذاذ  الذين  كانوا  بناة  رائعين  للعراق  

مأساة طارق حمد  العبدالله   

ويحكي الاخ الحمداني  لنا  عن  تجربته الوفية مع  طارق حمد العبدالله، فيسهب  عنه  اذ  كان  قد  خوّله  صلاحيات كبيرة  من اجل  تسهيل  مهمة  الصحفيين وانشطتهم وفعالياتهم ، وقد  توثقت  عرى  العلاقة  بين المؤلف  وبين  العبدالله  ، ويقدم  لنا المؤلف  صورة  سردية  تراجيدية مرعبة  عن  نحر  العبداللة  والتي  قيل  ان   الرجل  قد انتحر  زورا  وبهتانا .  لقد وجدنا  المؤلف  يوثق  اخلاصه  في  فصل  كامل  خصصه عن العبد الله  ، ويميط  فيه اللثام  عن  اسرار   نحره  ، وفي  هذا الفصل  يهدي ما  يكتب  الى  روح الرجل  « الانسان الذي  لن  انساه  مهما  مرّ الزمن « – كما  يقول المؤلف –   ، وفيه اعتذار  منه  لتأخر  نشر  هذه الاوراق  كيلا  توظّف  في  الضد  . ويكتب  الحمداني  سيرة  العبدالله  وثقته به ودفاعه  عنه  عند  استدعائه  الى  دائرة  المخابرات للتحقيق  معه  .. ويصف  نجاحه  وانسانيته وكيف  كان  ذلك  سببا  في تصفيته  من خلال الرسالة  التي  كتبها  الى  صدام حسين  .  وكان  العبد  الله  قد  تعّرض  لمحاولات  اغتيال  نجا  منها  ، ولكنه  نحر  في  نهاية  المطاف بدم  بارد  ،  وبكل  ما  اتصف  به  من ( خصال  ) .

الجزء الثاني غدا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here