ثقافة ادب الحياة، حياتنا بعد الخمسين !

(*) د. رضا العطار

هدفي من وراء نشر المعلومات التالية ان ارى ابناء وطني، العراق العزيز، صغارا وكبارا وهم يتابعونها لغرض الاستفادة منها, كلُ بما يناسب عمره ومستوى تعليمه وظروفه الاجتماعية والاقتصادية، فيعرف الشاب مثلا كيف يثقف نفسه ليعيش اسعد، ; يكيًف حياته ليتنعم بدنياه اكثر، وكذلك في مراحل الكهولة و الشيخوخة، عليه ان يعمل
بالارشادات الصحية، ليحيا حياة افضل.

ان ما اشاهده من الشيخوخة المتهدمة في العراق قد حملني على دراسة هذا الموضوع الذي كان احق بدراسته اولئك الذين بلغوا الثمانين واحتفظوا بشباب العقل وهم قليلون واقل منهم اولئك القادرون على النقد والشرح والتعبير.
وفي اوربا والولايات المتحدة مؤلفات كثيرة عن الشيخوخة التي اصبحت علما يدّرس. والمسن عندهم يبلغ من العمر عتيا . ذلك بسبب الوسط الاجتماعي والنظام الغذائي واسلوب العيش. كل هذا يساعد على ايناع الشيخوخة لتكون مثمرة مجدية بدلا من ان تكون محطّمة مريضة.

ان الشيخوخة في العراق مشكلة اجتماعية خطيرة تحتاج الى حل. وذلك لاسباب كثيرة ليس اقلها ذلك المطبخ العراقي الذي لا يزال يقدم لنا الوانا من الطعام تثقلنا بالشحوم فتعرقل نشاطنا وتعجل في تدهور صحتنا اضافة الى اسباب اخرى كثيرة, نفسية وذهنية واجتماعية. ففي بلادنا كثير من المسنين بلغوا الستين لكنهم لا يستمتعون بالحياة بل يقاسونها. فهم يعانون امراض الجسم وخواء الذهن وضمور النفس . فقد فقدوا اهدافهم وانقطعت الصلة بينهم وبين عصرهم. فهم في الم وتذمر. واذا نظرت اليهم حسبتهم امواتا تأخر دفنهم. ان الشيخوخة عندنا فقر مدقع لا تحتوي نضرة ولا زهرة.

كثير من المسنين يهرمون بالوهم, قبل ان يهرموا بالشيخوخة وهم يعانون خواء ويكافحون سأما. كان من الممكن ان يكونوا غير ذلك لو عالجوا مشاكلهم الجسمية والنفسية على نحو سليم لكيلا يحسوا انهم شاخوا وهرموا وصاروا عقما زائدا على الدنيا بل بالعكس عليهم ان يشعروا انهم قد اينعوا وانهم في هذا الايناع جديرين بأن يستمتعوا بالحياة وينشطوا لجني ثمرات الماضي في رقيهم الشخصي ورقي المجتمع.

ان مرحلة المتقاعد من الوظيفة يجب الاّ تفضي على الانسان الشعور انه قد تقاعد من الحياة ويعمد الى البطالة القاتلة يوغل فيها، بعد ان بلغ من العمر اينعه ويظن خطأ انه نال منه اشده, فالبطالة تغرس في ذهنه من الاوهام ما تجعله يعتقد انه زائد على المجتمع تحمله على الركود والاغتمام وصرف الوقت فيما يزجيه او يقتله كأنه عدوه.

ونحن نعرف ان البطالة تضر حتى بالاشياء المادية فضلا عن الأحياء . فإن الكاتشوك الجديد اذا ترك مدة طويلة في مكان واحد يجمد ويفقد مرونته وليونته، والآلات التي لا تعمل تصدأ . فكيف بالحي الذي تعد الحركة من خصائص حياته ؟ وكل منا قد رأى بالاختبار في نفسه او في غيره ان العضو الذي نربطه ونمنع حركته لأي سبب يفقد مرونته يضعف و ينضمر.

ان الموظف الذي يغادر وظيفته وهو على اتم الصحة يجد بعد سنوات من الركود انه قد بطئء في حركته وتثاقل في مشيته وانحنى ظهره وفقد خصائصه السابقة في هندامه ودقة لغته. وليس في كل هذا اصل في بناء جسمه, وانما ترجع هذه الحالة الى اتجاه نفسي جديد هو احساس باطني, قد لا يدري به يوهمه ان اقالته من وظيفته قد انطوت بالفعل على اقالته من الحياة . وانه اصبح رجلا غير نافع وان المجتمع يطلب وفاته.

وهنا تتضح لنا الميزة العظمى للعمل الحر على الوظيفة فإن التاجر والمزارع والصانع عندما يبلغ احدهم الستين لا يجد هذا القرار الرسمي الذي يجده الموظف بانه قد بلغ نهاية المنفعة من العمر، ولذلك لا يجد هذا الأثر السيكولوجي في نفسه و هذا النداء في ان يتقاعد ويتماوت ولهذا السبب نرى كثيرا من التجار في السبعين او الثمانين يعملون في متاجرهم نشطين وعلى وجوههم امارات اليقظة والتنبّه وفي اجسادهم تلك المرونة التي ترى في الشباب ذلك ان نفوسهم يقظة بأهتمامات الكسب او حتى بقوة الاندفاع السابق الذي لم يجد ما يعطله بقرار رسمي كهذا الذي تسلّمه الموظف بأنه قد احيل على التقاعد اي على الشيخوخة.

ليس من حقنا ان نطالب الدولة بأبقاء الموظف بعد سن التقاعد كي تستبقي شبابهم ونشاطهم ولكن يجب على كل موظف ان يعد نفسه منذ الخمسين لهذا اليوم الذي يترك فيه الوظيفة ويعود عاطلا وعليه ان يتأمل حاله عندما يحال على التقاعد وكيف انه سوف يقضي نهاره دون عمل الذي سرعان ما يغدو سمينا مستكرشا نتيجة قلة الحركة, فتثقل مشيته وتقل عنايته بهندامه وزيه حتى ليهمل حلق لحيته او استحمامه. وسيجد نفسه بلا وعود ولا مواعيد . ينتهي تدريجيا على خشبة المقهى , وقد يقرأ الصحيفة اليومية لكن بدون امعان . وقد لا يجد لنفسه اصدقاء او هدف او هواية.
الى الثلاثاء في الاسبوع القادم !

* مقتبس بتصرف من كتاب حياتنا بعد الخمسين لسلامة موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here