ابونؤاس في سطور !

(*) بقلم د. رضا العطار

نحيي تراث ابي نؤاس، العربيّ الحسبِ والنسب، يماني المنبت، فهو ابن هاني بن عبد الاول بن مولى الجراح بن جعاده الحكمي، الذي كان يشغل منصب محافظ لدى الملك ذو نواس، آخر ملوك حمير اليمنية، ومنه اتخذ كنيته، بأقتراح من استاذه خلف الاحمر الذي قال له :
( انت من اليمن، لتكن كنيتك اسم احد ملوكها الأذواء ) . وكلمة – ذو – كانت تسبق اسماء ملوك اليمن القدماء زمن الجاهلية. والملك ذو نواس هو صاحب الأخدود الذي ورد ذكره في سورة البروج ( رقم الأية 4 ) من القرآن الكريم.

واذا علمنا بأن دولة بني امية كانت اعرابية وكان جيشها عربيا لا يُخترق، فإن من البديهي ان يكون ابو نؤاس عربيا اصيلا، وإلاّ لما جُنّد ابوه هاني في جيش الخليفة مروان بن الحكم، فالكثير من الرواة اعتبروه يمانيا عربيا صرفا حتى ساقوا نسبه الى قحطان .

ولد ابونؤاس في الأهواز، احدى محافظات الدولة العباسية العربية عام 145 للهجرة من ام فارسية اسمها جلبان، وعند موت ابيه وهو في الثانية اخذته امه الى البصرة فنشأ فيها نشأة عربية عراقية خالصة، وظهرت علامات النبوغ عليه وجاشت فيه مواهب الشعر وهو لن يزل في السادسة. يروى عنه انه مرت به فتاة، ورمت عليه بتفاحة معضعضة مزاحمة اياه، فرد عليها على الفور :

ليس ذاك العض من عيب لها * * انما ذاك سؤال للقبل

ويبدو ان جلبان ضاقت بأعباء الأمومة وتخلت عن ولدها، خاصة بعدما حظيت برباط زوجي جديد، فدفعت بصغيرها الى دكان عطار. كان هذا اخر العهد لأبي نؤاس بما تبقى له من رعايته الأسرية. فقد امضى نشأته الاولى موزعا بين دكان العطار ومسجد المدينة يكسب من عمله كفاف حاجته مثلما يشبع نهمه الى معارف عصره وثقافته عبر مجالس علماء الكلام وادباء الشعر. كل هذه المواهب كانت تتداخل في التلوين الفكري لتفجر قابليات وتفاعلات تكشف عن شاعرية فذة ما زالت حتى في عصرنا الراهن هي قمة العطاء المفعم بأشكال التضاد والوان التناقض التي يتعانق بها الهزل والجد، العبث والوقار، الكفر والايمان، التهتك والتوبة، الزندقة والزهد.

انطلق ابو نؤاس الى البادية قاصدا صحراء نجد, بهدف كسب ملكة اللغة واخذ الفصيح من كلام العرب وبعد ان اكمل تعليمه على يد شيوخ ادبائها، علما انه كان قد رافق سيبويه سنوات وكان له باع طويل في النحو, ولم تقتصر ثقافته على علوم اللغة والدين انما كان متعمقا في فلسفة الاغريق وحكمة الهنود كذلك.

وعندما عاد الى العراق، استقر في بغداد وتمثل بين يدي الخليفة هارون الرشيد الذي اعجب بشاعريته ونال الحظوة عنده وفاز بالكثير من عطاياه، وبعد موت الرشيد عاصر ابونؤاس ولديه الامين والمامون وراى بام عينه بشاعة سياسة الظلم الاجتماعي التي كان ينتهجها خلفاء بني العباس تجاه الشعب المغلوب على امره، الذي كان عليه ان يتصبب عرقا ويتجرع من مضض الحياة ما يطاق وما لا يطاق ليهيئ للحكام الظلمة اسباب النعيم، من البذخ السافر الى الترف الكافر، فقد كان معظم سكان العراق انذاك من الفلاحين الفقراء.

كان نظم أبي نؤاس من لون خاص هدفه تصوير مفاسد المجتمع العباسي وفضائح سلوك خلفائه، فقد اراد به ان يعرّي ممارساتهم اللااخلاقية وزيف فضيلتهم . فقد نخرت الفجور نفوسهم بعدما ركب الشيطان رؤسهم، فأصبح العبث ديدنهم واللهو مذهبهم. حتى عجت دار خلافتهم بالجواري والغلمان، وشاعت حولهم قولة السوء , كان اهالي بغداد يصفونها بالحانات الليلية .

تقول الدكتورة احلام الزعيم، المتخصصة في الأدب العباسي والاستاذة في جامعة الكويت، في كتابها (ابونؤاس بين العبث و الاغتراب والتمرد) :
لم يكن ابو نؤاس ذلك الماجن الزنديق الذي يصوره العامة من الناس، انما كان الرجل مسلما علويا متصوفا، يجري على مذهب التقية، فكان يزين شعره بمفردات غزلية او خمرية تسترا، لئلا ينكشف امره امام اعين الرقباء . وإلاّ فما معنى ان يقول :

فلما شربناها ودب دبيبها * * الى موطن الاسرار قلت لها قفي
مخافة ان يسطو عليّ شعاعها * * فيطلع الندماء على سرّي الخفي

عند هذا الحد ارتقى الشاعر صهوة التمويه كضرورة امنية بعد ان استوعب وطأة الصراع وادرك انه يعيش في زمن القرود وعليه ان يسمع ويطيع :

هذا زمان القرود فأخضع * * وكن سامعا ومطيعا .. ويضيف :
مت بداء الصمت * * خير لك من داء الكلام
انما السالم من * * الجم فاه بلجام

اقول : ان دلائل تشيع ابي نؤاس مبثوثة في ثنايا نظمه، تؤكد موقفه المخالف لخط العباسيين الذين اغتصبوا الخلافة الاسلامية من حلفائهم العلويين حسب اعتقاده، كان ابونؤاس احد اقطاب الشيعة الذي كان الامام محمد الباقر زعيمهم الروحي الموقر.
وعندما اجبر الخليفة المأمون الامام الرضا بقبول ولاية العهد واقام له مراسيم الأحتفال في ولاية خراسان, امر ابا نؤاس ان ينشد قصيدة بهذه المناسبة التاريخية، فأرتجل قائلا

قيل لي انت اوحد الناس طرّا * * في فنون من المقال النبيه
فعلام تركت مدح ابن موسى * * والخصال التي تجمعن فيه
قلت : لا استطيع مدح امام * * كان جبرائيل خادما لأبيه
و القصيدة التالية في مدح اهل البيت، ينسبها ابن خلخال لأبي نؤاس :

مطهرون نقيات ثيابهم * * تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا
من لم يكن علويا حين تنسبه * * فما له في قديم الدهر مفتخر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * * علم الكتاب وما جاءت به السور
لقد قيم الجاحظ ادب ابي نؤاس قوله : ( ما رأيت احدا كان اعلم من ابي نؤاس في اللغة ولا افصح لهجة ولا اكثر حلاوة ) كما قيم شعره قوله : ( شعره كان كالمسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا ).
الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

مقتبس من كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف القاهرة 1975 ومن ديوان
ابي نؤاس لعمر فاروق الطباع دار الارقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 1989 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here