عبد الناصر ودوره التاريخي في مسيرة العرب

لمناسبة ذكراه المئوية الأولى

حسن عاتي الطائي

قام جمال عبد الناصر منذ ظهوره على المسرح السياسي في اعقاب ثورة الثالث والعشرين من يوليو التي قادها في مصر عام 1952 وحتى مغادرته لمسرح الحياة في الثامن والعشرين من ايلول عام 1970 بدور تأريخي استثنائي فخم لم يستطع احد غيره من القادة السياسيين والثقافيين والإجتماعيين القيام به في التاريخ العربي الحديث والمعاصر ربما منذ ما يقرب من الف عام..وحين نقول ذلك فاننا لا نلقي بالكلام جزافا او على عواهنه . فأن ما انجزه عبد الناصر خلال ثمانية عشر عاما فقط وهو ( عمر قصير سياسيا ) على كافة المستويات السياسية والإجتماعيىة والإقتصادية والثقافية على الصعيدين الداخلي والعربي وعلى المستوى العالمي وما يمتلكه الان من تأثير واضح وحضور كبير في مصر والوطن العربي وما تركه لأمته العربية من مشروع نهضوي وحدوي توافقت عليه وتلتزم به الان قوى وحركات سياسية من مختلف المنابع الفكرية قومية واسلامية ويسارية يؤكد ويدعم صدقية وصحة ما ذكراه . لقد أحدث عبد الناصر الذي ولد في الخامس عشر من كانون الثاني عام 1918والذي تحل ذكراه المئوية الاولى هذه الأيام  من خلال صراعه الملحمي مع الإستعمار والصهيونية وقوى الرجعية والتخلف والجمود نقله نوعية فاصلة في الحياة العربية المعاصرة بكافة منحنياتها وتجلياتها واصبح ظاهرة سياسية كبرى هي اكبر ظاهرة سياسية لحاكم عربي منذ مئات السنين . وحقق ما لا يمكن تصوره في الواقع الوطني والقومي وفي وجدان الإنسان العربي من منجزات مادية وروحية بالرغم من مخلفات الركود الحضاري والتجزئة القومية والسياسية التي صنعتها وكرستها القوى الإستعمارية بشتى صورها واشكالها واعطى لحركة القومية العربية التي قادها واصبح رمزا  لها وارتبط أسمه بها بعدها الثوري والإجتماعي والإنساني وهيأ لها مستلزمات الإنطلاق والحضور االدائم لتتحول على يديه الى عقيدة شعبية راسخة آمن بها المناضلون والفقراء والمستضعفون العرب في مختلف اقطارهم . لقد استطاعت حركة الثورة العربية الناصرية في ظل الزعامة العجيبة لجمال عبد الناصر ان تستقطب القوى الجماهيرية لمرحلة تأريخية لامعة هي مرحلة تجديد حيوية الأمة العربية وانبعاثها واطلاق قدراتها والشروع بالتعرف على ذاتها والاتجاه الى فرض ارادتها ونيل حقوقها والمشاركة في صنع الاحداث على المستوى العالمي والتأثير المباشر على حركتها. فكان جلاء القوات الأجنبية عن مصر بعد الإطاحة بالنظام الملكي واصدار اول قانون اصلاح زراعي في الوطن العربي والعالم الثالث حرر الفلاحين من الإستعباد والقهر الإجتماعي وانهى سيطرة الإقطاع على الأرض والإنسان وكانت عمليات التأميم والتمصير للمؤسسات الإقتصادية والصناعية التي ارست قاعدة صناعية عملاقة تجسدت باكثر من1200مصنعا. وكان تحرر المرأة من الإقصاء عن الحياة السياسية ومشاركة العمال والفلاحين في المجالس الشعبية ومجانية التعليم والثورة الثقافية المشهودة في ميادين المسرح والقصة والشعر والرواية ثم جاء كسر احتكار السلاح و تأميم قناة السويس من اجل بناء السد العالي ورفضا للخضوع للهيمنة الاجنبية  تعبيرا عن استرداد مصر لكرامتها وثرواتها الوطنية والتصدي للعدوان الثلاثي الذي تلاه والذي غربت بفشله الذريع شمس الإمبراطوريتين الإستعماريتين البريطانية والفرنسية لتتشكل على اثر ذلك حركة جماهيرية هائلة انتجت قيام اول دولة عربية وحدوية في التاريخ العربي الحديث هي (الجمهورية العربية المتحدة ) كنواة للوحدة القومية الشاملة لتثبت للعالم اجمع ان باستطاعة العرب ان يقيموا دولتهم الواحدة وان ذلك ليس حلما أو وهما وانما حقيقة ساطعة.. وهكذا وبفعل هذا المناخ الوحدوي الشديد الحرارة تصاعد المد القومي الناصري واندلعت شرارة الثورة العربية في كل مكان من الوطن العربي ودخل الضباط والجنود العرب الذين تأثروا بعبد الناصر وثورته الى ساحة النضال الثوري لتنهار عروش الإستبداد والطغيان في العراق واليمن وليبيا والسودان ولتتحرر الجزائر بثورتها الشعبية المسلحة وتضحيات ابنائها الشجعان من قبضة الإستعمار الفرنسي ولتنال المغرب وتونس والصومال وموريتانيا وغيرها من اقطار الوطن العربي الإستقلال والحرية وتتحول القضية الفلسطينية الى قضية حياة او موت بالنسبة للأمة العربية . لقد اتسمت سنوات عبد الناصر بالكفاح الدائم من اجل استرداد الحقوق العربية في فلسطين وفي كل قطر عربي برغم الحروب المتتالية التي اشعلها الصهاينة وحلفاؤهم من الإمبرياليين والرجعيين للتصدي له والقضاء على زعامته التاريخية وحركته القومية الثورية . وبرغم النكسات والهزائم المريرة التي تعرض لها بسبب عدم التكافؤ بينه وبين اعدائه بالمقاييس المادية والإقتصادية فانه لم يستسلم او يركع اويتراجع عن مواقفه القومية الثابتة و لم يغير اتجاهه الثوري في مقارعة الإستعمار والصهيونية حتى اللحظات الأخيرة في حياته الممتلئة بالنضال الذي لم يهدأ وبالعطاء الذي لاحدود لافاقه ..وايمانا منه بوحدة الكفاح ضد قوى الشر والعدوان بشتى مسمياتها فقد ربط حركة الثورة العربية  بحركة  التحرر العالمية وأصبحت القاهرة تحت قيادته الباسلة مقرا ومنطلقا لكل حركات التحرر الإفريقي والآسيوي تسلح وتدرب الثوار والجيوش وتمدهم بالمال والسلاح والخبراء وتقدم لهم مختلف اشكال المساندة والدعم لمواصلة العمل الثوري للتخلص من الهيمنة الاستعمارية وتحقيق الإستقلال ونيل الحرية . ومن اجل ترسيخ نضال الشعوب المضطهدة في العالم الثالث فقد ساهم بقوة في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية ودعا الى وحدة افريقيا واقام حركة عدم الإنحياز الذي كان محركها وقلبها ونجمها اللامع . وبسبب كل ذلك فقد نشأت بين عبد الناصر وبين الجماهير العربية رابطة حب سحرية خاصة قائمة على الثقة المتبادلة والمتكافئة والمصارحة والحوار الصادق دخل بها في كل بيت عربي واصبح اسمه على كل شفة ولسان يشار اليه بكل اعجاب وتقدير وفخر..( لقد  حقق عبد الناصر على الصعيد العربي والدولي الوجود القومي للأمة العربية بالفعل بعد ان كان كان قبل ذلك بالقوة ..لم تعبء الجماهير العربية ثوريا وقوميا في يوم من الأيام مثلما عبئت على يده..لم تذكر البلاد العربية كمجموعة,كوحدة تحت اسم العالم العربي مثلما تردد ذكرها يوم حمل عبد الناصر لواء القومية العربية..بقد دخل العرب ثوريا عالم العصر عندما اصبح عبد الناصر المتحدث الفعلي باسم الأمة العربية والقومية العربية) كما قال المفكر العربي الكبير صلاح الدين البيطار..اعاد عبد الناصر الثقة بالنفس للانسان العربي وايقظ شعروه القومي واحساسه بالكرامة واعتزازه بتاريخه العربي المجيد وحضارته العربية الشامخة وقدم لأمته العربية  مشروعا نهضويا وحدويا تستطيع به ان تصل الى مستقبل عربي ديمقراطي  دائم الازدهار والاشراق.. ان ما قدمه ذلك  البطل القومي التاريخي لوطنه وامته اكبر واكثر من ان يحصى او يخضع لحساب الربح والخسارة .. وللتعبير عن وفائها وتقديرها لجمال عبد الناصر فلقد وقفت الجماهير العربية معه والى جانبه في ساعة الإنتصار وفي لحظة الهزيمة .  فقد تدفقت الملايين الى الشوارع العربية لتمنعه من الإستقالة اثر عدوان الخامس من حزيران عام 1967 وتتمسك به و تبايعه قائدا لمسيرتها الثورية  تشد من ازره لمواصلة مسيرة الثورة والتغيير. وحين توقف قلبه الطاهر النبيل عن الخفقان خرجت مرة اخرى في اغلب المدن العربية لتحمل جثمانه الطاهر على اكتافها بقلوب حزينة وعيون دامعة وتدفنه بيديها مؤكدة ثباتها على مبادئه القومية ونهجه الثوري الوحدوي.. نهج الحرية والكرامة والعدالة الأجتماعية والوحدة العربية.. وليكتب التاريخ ان جنازة الفارس العربي جمال عبد الناصر هي اكبر واعظم جنازة في تأريخ العرب والعالم في العصر الحديث.اما سيرة عبد الناصر الشخصية فهي سيرة انزه وانظف واكثر صفاء ونقاء لسيرة حاكم عربي منذ قرون طويلة..ان احتفال الجماهير العربية في مصر وفي شتى انحاء الوطن العربي بالذكرى المئوية الأولى لميلاده يؤكد بصورة حاسمة انها مازالت متمسكة بمبادئه وافكاره القومية التقدمية مصرة على النضال من اجل تحرير امتنا العربية التي تتكالب عليها قوى الشر والعدوان والأرهاب من كل مكان والتي تمر الان باصعب الظروف واشدها ظلاما من التبعية والهيمنة الأجنبية والتخلص من الإستغلال والظلم الاجتماعي والإستبداد والدكتاتورية والأنظمة القمعية والرجعية وتحقيق الوحدة القومية للشعب العربي في ظل دولة ديمقراطية حرة واحدة مزدهرة لها على الحياة حق الوجود…

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here