ثقافة ادب الحياة، حياتنا بعد الخمسين!

(*) د. رضا العطار
– ضرورة العناية بالجسم !

ان التهيؤ الجسمي يتم بالعناية بالجسم حتى لا يسمن ويستكرش. فان الاستكراش يعد من اسؤ عيوب الشيخوخة. وهو يؤدي الى الكسل، كسل النفس والذهن. زيادة على الامراض التي تحدثها السمنة. في البداية تبدو تافهة ثم تتفاقم. فكل انسان يتوقى السمنة ان يشرع في المحافظة على النحافة وذلك يتجنب النهم في الطعام والاطعمة الدسمة مع ممارسة القليل من الرياضة وزيارة الطبيب وهو غير مريض. اي يجب الاّ ينتظر المرض. لان للامراض نذرا قد لا يحسها الجسم. لكن الكشف المختبري يظهرها. واذا عرفناها استطعنا ان نكيف معيشتنا وسلوكنا في الطعام واللباس والحركة بما يقتضي قبل ان تتفاقم، اي يجب ان نعالج اجسامنا من وقت لآخر بالترمينات الخفيفة قبل ان يضطرنا الاهمال الى المعالجة بالهدم والجراحة.

اما التهيؤ النفسي فيجب ايضا ان نبدأ منذ الخمسين ان لم يكن قد بدأناها قبل ذلك. باهتمامات اجتماعية وفنية وذهنية واقتصادية. فعلى الانسان المتعلم ان يشترك في الاندية والجمعيات وتكون له مشاركة فيها مهما كانت صغيرة وان يعني باختيار الاصدقاء وان يرتاد المسارح التي ترفع من ذهنه الثقافي. لكي تبقى نفسه حية يقظة العواطف وحتى لا يحمله خواء النفس على الوقوع فيما يضره من عادات الادمان في التدخين او الخمرة او الافراط في الاكل. وهذا النشاط الاجتماعي جدير بان يبقى الى ما بعد السبعين يحول دون الركود.

اما التهيؤ العقلي فيحتاج الى المشاركة في الحركة الفكرية، يقرأ الجريدة بعناية كل يوم حتى يتعود الاهتمام بالسياسة المحلية والعالمية، فهو جزء من نشاطنا لا نستطيع تركه بعد الستين والسبعين. ومحال ان نتمرس هذا الاهتمام اذا لم تكن بذوره قد زرعت قبل الخمسين. والاهتمام بالجريدة والمجلة يجب ان يحملنا على الاهتمام بقراءة الكتب والعناية بالحركة الفكرية العالمية. ومن اعظم الميزات للقراءة انها تحول دون ذلك النسيان الذي يصيب بعض المسنين بسبب تصلب شرايين الدماغ. وهذا النسيان كثيرا ما يعرقل التفكير المثمر ويجلب الاستهزاء بالمسن ويوحي اليه الضعف والهزيمة. فيزداد سوءا وانحطاطا. فاننا ما دمنا نقرأ كل يوم تبقى المعاني ماثلة في اذهاننا بشبكة من الكلمات، فتبقى الذاكرة حية والتفكير مثمر حتى لو بلغنا التسعين من العمر.

واذا اعدّ الموظف جسمه بالنحافة والصحة، ونفسه بالاهتمامات العاطفية وذهنه بالثقافة فانه يستطيع ان يستبقي حيويته بعد الستين لسنوات طويلة اذا عرف قيمة النظام في العمل، ثم عليه ان يعلم الموظف الذي اقيل من عمله كيف يكيف حياته بعد الوظيفة ليبقى عضوا نافعا في المجتمع. فيزداد سرورا وتفائلا وحتى يحمله نظام العمل على اليقظة الدائمة. يقظة النفس والذهن التي تستبقي يقظة الجسم. وفي اغلب الاحيان يكون الجسم قد ترهل، نتيجة لركود النفس والعقل.

هناك من الموظفين المحظوظين الذين تعلقوا بهواية مجدية وهم في وظائفهم، فأولوها عنايتهم وتعهدوها بالوقت والمال حتى برزوا فيها. فهؤلاء لا يحتاجون لقراءة هذه المقالة لان الهواية التي ستشغل وقت فراغهم بعد الستين ستجعلهم يعيشون في الشباب الدائم
وقد تكون هذه الهواية دراسة خاصة تحملهم على التأليف او العناية بالزراعة او هوسا في شراء التحف ام جمع السجاد النادر اوفي اعمال البر والاحسان او الغيرة والحماس في اصلاح شؤون المجتمع الاجتماعية. ولذلك لا يسأمون حياتهم ولا يحسبون ذلك الخواء الذي يحسه الموظف المتقاعد العاطل. اني لم اذكر موضوع المرأة ذلك لان ظروف المرأة العربية خاصة، تحتاج الى فصل آخر.

كان القاضي هولمز رئيس المحكمة العليا في واشنطن , وهي المحكمة التي تفصل بين حقوق البرلمان وحقوق الرئيس في الولايات المتحدة . ولما تجاوز سنه التسعين أذاع حديثا استهلّه بعبارة لفيلسوف اغريقي ( ان الموت يجذب اذني ويقول عش فأني قادم ) . ان هذا القول وكأنه ترجمة لقول الأمام علي بن ابي طالب حين قال : اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدأ، (كاتب السطور) .
وعندما زاره الرئيس الامريكي روزفلت سنة 1932 عقب انتخابه للرياسة , وجده يقرأ كتاب – الجمهورية – لأفلاطون . فسأله : ماذا تبغي من قراءة هذا الكتاب في سنك هذا ؟
فأجاب القاضي هولمز : أبغي ترقية ذهني يا مستر روزفلت .

فليتأمّل القارئ هذا الشاب التسعيني الذي دخل العقد العاشر من عمره . كيف يقرأ ويدرس كي يرقى ذهنه في هذه السن . وكيف انه يذكر قول الفيلسوف اليوناني هنا لا لكي يكف عن العيش ويتقاعد ويقضي وقته في الفراش , بل لكي يهب ويعيش ويدرس ويرقّي ذهنه . وعلينا ان نذكر ان هذا الاسلوب المعيشي الذي انتهى به الى اعتياد الدرس وتوخي الارتقاء الذهني بعد التسعين , هو نفسه الذي ساعده على ان يحتفظ بصحته واتزانه في عمره المديد . فإن هذا الاسلوب رتّب له نظاما , كما عين له توجيها وسدد حياته نحو غاية الارتقاء الشخصي . وعلى ألاّ يقنع من الحياة بأنه قد ادّى ماعليه في هذه الدنيا وعليه الان ان يهيئ نفسه للرحيل , بل أنه حي يعيش ويستمتع ليسعد.

* مقتبس من كتاب حياتنا بعد الخمسين لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here