رؤى مختلفة ومتصارعة إزاء حق الشعب الكردي في تقرير مصيره (1-4) مضامين الرؤى الفكرية والسياسية إزاء القضية الكردية بالعراق

كاظم حبيب
رؤى مختلفة ومتصارعة إزاء حق الشعب الكردي في تقرير مصيره
(1-4)
مضامين الرؤى الفكرية والسياسية إزاء القضية الكردية بالعراق
كانت القضية الكردية بالعراق وما تزال تواجه وجهات نظر ومواقف متباينة من الناحيتين الفكرية والسياسية. والحالة ذاتها يجدها المتتبعون في كل من إيران وتركيا وسوريا، حيث جرى تقسيم أرض الشعب الكردي على هذه الدول الأربع منذ نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، في حين كانت ذات الأرض قد قسمت على الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية في اعقاب انتصار قوات الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول في معارك جالديران التي جرت في العام 1514 على قوات الدولة الفارسية بقيادة إسماعيل الأول الصفوي. ومنذ ذلك الحين وهذا الشعب يناضل بصيغ شتى من أجل التمتع بحقوقه المشروعة وحريته وكرامته على أرضه. ورغم إقامة عدد من الإمارات في فترات مختلفة، إلا إنها كانت تنتهي بالفشل بسبب الصراعات الداخلية بين العشائر الكردية أو بسبب سلطات الاحتلال.
لا شك في أن الأمل قد انتعش في صفوف قادة الشعب الكردي بتحقيق الوحدة وإقامة الدولة الكردية في اعقاب الحرب العالمية الأولى، بسبب الوعد الذي منح لممثلي الكرد من جانب ممثلي الدولتين الاستعماريتين اللتين خاضتا الحرب ضد الدولة العثمانية وحليفتها الإمبراطورية الألمانية، إذا ما انتصر الحلفاء في تلك الحرب. ولم يف المستعمرون بوعدهم، كما لم يفوا بوعدهم للعرب في إقامة الدولة العربية الموحدة. ولكن العرب، وبدلاً من تحقيق الوحدة، أقاموا 22 دولة + دولة في الانتظار، هي الدولة الفلسطينية. كما أن كل القوميات في المنطقة أقامت دولها المستقلة، ولكن الشعب الكردي لم يسمح له بذلك. وهذا ينطبق على أتباع القومية واللغة السريانية المجزأة والمبعثرة، وهم الآشوريون والكلدان والسريان، الذين لا يطمحون في الحصول على دولة في الوقت الحاضر، بل على محافظة في شمال العراق أو على حكم ذاتي في إطار الجمهورية العراقية، تحفظ لهم حقوقهم وثقافتهم وتراثهم الحضاري ولغتهم السريانية، بدلاً من التجاوزات والانتهاكات المستمرة التي تعرضوا لها ولا زالوا يتعرضون لها بالعراق وعموم المنطقة.
وبصدد الشعب الكردي، حيث يقتصر الحديث هنا عن الكرد بكردستان العراق، فقد خاض مع العرب وقوميات أخرى، كل على انفراد وبشكل مشترك، نضالاً عنيدا وطويلا من أجل حقوقهم العادلة والمشروعة وتنفيذ الوعد الذي أعطي لقيادة الشعب الكردي السياسية في حينها بإقامة دولته المستقلة. وتجلى ذلك النضال في انتفاضاته وثوراته قبيل قيام الدولة العراقية بقليل (2010) بقيادة عبد السلام البارزاني، و(1919) بقياد شيخ محمود الحفيد البرزنجي، أو بعدها، حين لم تكن الموصل قد ألحقت بعد بالدولة العراقية الملكية الحديثة، التي تشكلت في عام 1921. وكانت الطموحات القومية للشعب قد بدأت تبرز لتوها على صعيد النضال الوطني وتؤثر بشكل ملموس على حركة الجماهير. وكان الدور البارز في قيادة هذا النضال بيد شيوخ العشائر وعلماء الدين. وعندما ألحقت ولاية الموصل، وبضمنها كردستان الجنوبية، التي كانت تضم الى جانب الموصل المناطق الكردية، إضافة إلى السليمانية وأربيل وكركوك، إلى الدولة العراقية في العام 1925/1926، لم يتوقف الشعب الكردي عن النضال في سبيل حقوقه المشروعة التي أقرت في حينها في عصبة الأمم، رغم تخلي انكلترا وفرنسا عن وعودهما له. إذ لم يؤخذ رأي الشعب الكردي في الموقف من إقامة دولته الوطنية المستقلة، أو الاندماج بالقسم العربي من العراق وتكوين الدولة العراقية الملكية، أو إقامة الحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية. وكان موقف الشعب الكردي واضحاً وصريحاً، إذ كان يريد إقامة دولته الوطنية أو إقامة الحكم الذاتي لكردستان. ولم يكن هذا ينسجم مع أهداف ومصالح بريطانيا، الدولة المنتدبة على المنطقة والمستعمرة لها، كما لم يكن منسجماً أيضاً مع تصورات أو أطماع مجموعة من الحكام العراقيين حينذاك.
ومنذ تلك الفترة تقريباً سادت في صفوف السياسيين والمثقفين والمهتمين في الشؤون العراقية العامة من العرب، وأغلبهم من خريجي المدارس والتربية العثمانية، رؤية قومية عروبية ضيقة إزاء الكرد وحقوقهم المشروعة والعادلة في إطار الدولة العراقية، رغم أنهم كانوا من أوائل من ناضل في سبيل الحقوق القومية العادلة للعرب بالعراق وضد سياسات التتريك العثمانية، ولكنهم لم يدركوا بعمق ومسؤولية مفهوم الحرية والديمقراطية التي يفترض أن تتمتع بها جميع الشعوب، ولأنهم أنفسهم لم يكونوا أحراراً فكرة وممارسة.
ومنذ أن تصاعد النضال الكردي وفرض وجوده في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية، برزت رؤى أخرى لدى الأحزاب والقوى السياسية العربية إزاء الموقف من القوميات وحقوقها بالعراق.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين تبلورت تدريجاً بالبلاد ثلاث رؤى إزاء الحقوق القومية للشعب الكردي وللأقليات القومية وسبل معالجتها والحلول التي تسعى كل منها إلى ممارستها. ورغم مرور عشرات السنين على وجود وصراع بين هذه الرؤى، ورغم كثرة المحن والكوارث والمآسي التي عاشها العراق من جراء التعامل غير الواعي وغير العقلاني وغير المنصف مع هذه المسألة الحساسة والحيوية، فأن هذه الرؤى ما تزال تتصارع وكأن دروس الماضي لا قيمة لها أصلاً عند أصحاب الرؤية الأولى والثانية، وكأن العراق بحاجة إلى مزيد من المحن والكوارث والمآسي والموت لمزيد من البشر، وكأن الشعب الكردي لا حق له، كبقية الشعوب، في التطلع إلى الحرية والديمقراطية والوحدة القومية والتمتع بها. ونحاول هنا بلورة الرؤى الفكرية والسياسية الثلاث حول المسألة الكردية:
الرؤية الأولى: تبنت هذي الرؤية، التي سادت بالعراق في مختلف المراحل المنصرمة ومارسها الحكام بإصرار عجيب في العهدين الملكي والجمهوري، مبدأ رفض الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي، ومنها حقه الثابت في تقرير مصيره على أرض وطنه وإقامة دولته الوطنية المستقلة أو حقه في إقامة الحكم الذاتي أو قيام اتحاد فيدرالي للإقليمين العربي والكردي في إطار عراق جمهوري ديمقراطي موحد. وتبنت هذه الرؤية أسلوب ممارسة القوة والعنف والردع والتأديب وخوض المعارك والحرب ضد الشعب الكردي لحرمانه من تمتعه بتلك الحقوق ومطالبته الملحة بالاستجابة لها. وتجلى هذا الموقف، حتى بعد الاعتراف بوجود شعبين بالعراق، إضافة إلى وجود أقليات قومية، بعد أسقاط الملكية وقيام الجمهورية، عندما سعى المشرع العراقي أن يكرس في الدستور المؤقت الرؤية التالية: يعتبر العراق جزءاً من الوطن العربي، جزءاً من الأمة العربية. وهذا يعني باختصار أن لا حقوق قومية خاصة ولا وجود لشعب كردي أو أمة كردية، وأن العراق كان وسيبقى جزءاً من الوطن العربي، وعلى الأكراد أن يقبلوا بذلك، شاءوا ذلك أم أبوا، أن يقبلوا بالوحدة مع العراق العربي دون حقوق قومية خاصة. علماً بأن الدستور المؤقت الذي طرح بعد ثورة تموز أشار إلى إن العرب والكرد شركاء في هذا الوطن، الذي هو العراق. ولكن كان هذا نظرياً ودون أن يجد له الممارسة الفعلية.
واشتدت هذه الوجهة الفكرية والسياسية بعد الانقلاب الفاشي في شباط/فبراير عام 1963، وتبلور في مواقف الحكومات التي تشكلت في أعقابه. إذ اعتبرت القوى والأحزاب التي تناضل في سبيل الاعتراف بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي ومطالبته بالحكم الذاتي بمثابة قوى عميلة (جيب عميل!) تريد الانفصال عن العراق، وهي جريمة لا تغتفر! وكرس هذا النهج سياسة العنف والحرب لفرض الحل الأوحد الذي تراه وتريده على الشعب الكردي. ولم تتبن هذا الموقف، سواء في العهد الملكي أم في العهد الجمهوري، القوى والأحزاب السياسية الحاكمة فحسب، بل بعض القوى والأحزاب التي كانت في المعارضة في هذين العهدين أيضاً، إذ أنها كانت وما تزال تعبر عن وجهة فكرية وسياسية قومة ذات طبيعة شوفينية بغض النظر عن وجود هذه القوى أو تلك في السلطة أم خارجها.
ولم يكن الموقف من المسألة الكردية وسبل معالجتها هي المسألة الوحيدة التي تختلف الرؤى حولها، بل كانت هناك قضايا أساسية أخرى، ومنها موقف التعامل غير المتساوي والتمييزي إزاء الكرد بالعراق من جانب الحكومات المختلفة والتي تتجلى في مختلف مجالات الحياة اليومية ابتداءً من حرمانهم من الدراسة بلغة الأم والقبول في الجامعات والمعاهد المختلفة، وخاصة العسكرية منها، أو التوظيف في الوزارات المختلفة، وخاصة الخارجية والداخلية والدفاع .. الخ، وكذلك التمييز البارز في مجال توظيف رؤوس أموال الدولة في عمليات التنمية في كردستان العراق، حيث كان نصيبها محدوداً بالقياس إلى مناطق معينة من العراق. وقد بدا هذا واضحا وصارخاً بعد انقلاب البعث عام 1963، تماماً كما كان نصيب بعض محافظات الوسط والجنوب المهملة من جانب الحكم البعثي القومي حينذاك. وكانت المشكلة تبرز أيضاً في مجال التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وخاصة المناطق الريفية أو إقامة “الطرق الاقتصادية” الخاصة بنقل السلع الزراعية وتأمين تخزينها وحفظها من التعفن وتسويقها. وهذه أمثلة محدودة على ممارسات كثيرة تعرض لها الشعب الكردي من النظم الحاكمة ببغداد. ولا شك في أن الرؤى كانت مختلفة أيضاً إزاء مفاهيم ومضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وأهمية التمتع بها وممارستها الفعلية.
الرؤية الثانية: برزت بشكل واضح في فترات لاحقة، ولكنها تنطلق من حيث المبدأ من الإيديولوجية الإسلامية السياسية التي بلورها شيوخ الشريعة القائلة بأن كل الشعوب والقبائل يشكلون جزءاً من الأمة الإسلامية، وأن القوميات لا بد لها أن تذوب في الإسلام، وبالتالي لا يجوز إقامة دولة على أساس قومي. هذا من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية فأن أي قومية كانت تصل إلى السلطة، كانت تفرض حكمها “الإسلامي!” القومي، وتمارس سياسة قومية شوفينية ضد القوميات الأخرى ولا تساوي بينها وتفرض إرادتها على بقية القوميات بكل السبل المتوفرة لها. ويمكن أن نتابع مثل هذه المواقف بشكل صارخ بإيران (فرس 51%، وآذريين (أتراك) 24%، وجيلاك ومازندرانيون 8% ، وأكراد 7%، وعرب 3%، ولور 2%، وبلوش 2%، وتركمان 2%، وقوميات أخرى 1% . (المصدر: كتاب حقائق العالم، وكذلك ويكبيديا، الموسوعة الحرة عن السكان بإيران). وتركيا (الأتراك 75%، والأكراد 20%، والعرب 2%، الأرمن، الآشوريين/السريان، الأذربيجانيين، الشيشان، والشركس). (المصدر ذاته)، وكذلك بالنسبة للأمازيغ في الدول المغاربية مثلاً…الخ. وسنتطرق إلى موقف القوى الإسلامية السياسية العراقية إزاء القضية الكردية في أعقاب عام 2003، أي بعد إسقاط دكتاتورية البعث وصدام حسين.
الرؤية الثالثة: أما الرؤية الثالثة فقد عبرت عنها قوى وأحزاب وشخصيات سياسية يسارية وديمقراطية تقدمية، إضافة إلى مثقفين يساريين وديمقراطيين مهتمين بالشؤون العامة، فكانت في الغالب الأعم تسود في صفوف المعارضة بشكل عام، إذ كان أتباع هذه الرؤية وما زالوا يؤكدون ما يلي: إن الحل العملي والواقعي للمسألة الكردية يتم أولاً وقبل كل شيء على أساس الاعتراف المبدئي بوجود شعب كردي إلى جانب الشعب العربي إضافة إلى قوميات أخرى عديدة، تعتبر بحكم لوائح الأمم المتحدة أقليات قومية. ويترتب على هذا الاعتراف ثانياً تمتع الشعبين بحقهما في تقرير مصيرهما واختيار الوحدة مع بعضهما في دولة واحدة أم الانفصال وإقامة دولتين مستقلتين على أرض القسم العربي من العراق وعلى القسم الكردي منه، كما أن وحدتهما الاختيارية يمكن أن تتم على أساس الحكم الذاتي أو الاتحاد الفيدرالي. وهذه القضية يقررها كل شعب بمفرده ويتم الاتفاق بينهما على الشكل المناسب الذي ينص عليه بالدستور الدائم للبلاد. ومثل هذا الحل يتم عبر التفاوض الديمقراطي السلمي وفي ظل حكم دستوري ديمقراطي تعددي لا مكان للاستبداد والعنف والقسوة فيه. إنه الحل الوحيد الذي يرضي جميع الأطراف ويستند إلى قرارات الأمم المتحدة بحق الشعوب صغيرها وكبيرها في تقرير مصيرها. كما يفترض أن تتمتع بقية القوميات بحقوقها الإدارية والثقافية المشروعة التي تعتبر إغناء لثقافات البلاد وتلاقحها. ويلتزم الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية وديمقراطية أخرى بهذا الرأي السديد بشأن القضايا القومية بالعراق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here