الحب… الجسد … الجنس

د. عدنان الظاهر مايس 2004

( في أشعار ثلاث شواعر معاصرات : الكويتية سعاد الصباح والعراقية بلقيس حميد حسن واليمنية آمنة يوسف ).
مقدمة :
ليس غرضي من هذه الدراسة البحث في لغة أو شاعرية هؤلاء الشواعر الثلاث. ولا أن أعقد مقارنات نقدية فيما بينهن. تلكم مسألة أخرى قد يحين يوماً أوان الخوض فيها فإنها لا تخلو من طرافة ومن فائدة بالنسبة للمهتمين بالشعر النسوي على وجه الخصوص. إنما سأركّز جهدي في هذا البحث على :
أولا : تأثير بيئات الشواعر المختلفة في وعلى كيفية وأسلوب ولغة تعاطي موضوعات الحب والجسد والجنس ( البيئة والمحيط).
ثانياً : الإختلاف في طبيعة وشخصيات وظروف هؤلاء الشواعر ( العامل الذاتي ).

أعترف بداية أنَّ في هذا الموضوع صعوبات جمّة. وإنه ربما يتسبب في إثارة شيء من الحساسية لدى البعض من هؤلاء الشواعر الفاضلات. وعليه فسوف لن أخرج عمّا ورد في شعرهن من ذكر ومعالجة لهذه الأطروحات الثلاث موضوعة البحث. ثَمّةَ مسألة أخرى : حين أنصرف للتفكير في هذا الموضوع أتذكّر الشاعرة الخنساء وأرى شاخصةً أمام نواظري نازك الملائكة وفدوى طوقان وعاتكة وهبي الخزرجي ولميعة عباس عمارة، ثم الشاعرة الإنجليزية إديث ستويل Sitwell من خلال بعض أشعار بدر شاكر السياب، إذ كان لها عليه تأثير خاص ما كان ليُخفيه.
الدكتورة سعاد الصباح
( المصدر : كتاب لآليء الخليج، مختارات شعرية بالعربية والألمانية.ترجمة د. عدنان جواد الطعمة. الطبعة الأولى Marburg 1995 ).

وُلِدتْ هذه السيدة الشاعرة في الكويت عام 1942 . درست الإقتصاد في مصر ثم نالت شهادة الدكتوراه في التنمية والتخطيط من جامعة Surrey البريطانية. ترمّلت في أوج شبابها بعد أن أنجبت أربعة من البنين والبنات.
الشاعرة ونزار : لا تُخفي الشاعرة إعجابها بشعر ومنهج المرحوم الشاعر السوري نزار قباني. تأثير شعره على طروحات الشاعرة وطريقة تناولها لموضوعاتها الشعرية واضح جداً وبصمات أصابعه لا تحتاج إلى دليل.
الحب والجسد والجنس في أشعار سعاد :
دراسة سعاد الصباح في كل من مصر وبريطانيا، ثم ليبرالية الكويت مجتمعاً وسياسةً أفرزت أو أنجبت هذه الشاعرة المتميزة في قوة شخصيتها وإنصرافها للدفاع عن بنات جنسها من جهة وعن الفقراء عموماً من الجهة الأخرى. وهي عضو في المنظمّة العربية لحقوق الإنسان. قالت عن الفقراء في المقطع الثالث من قصيدة ( للأُنثى قصيدتها وللرجل شهوة القتل ) :

أتحداهم بشعري
وبنثري
وصُراخي
وانفجاراتِ دمائي
أتحدى ألفَ فِرعونٍ على الأرضِ
وأنظمُّ لحزبِ الفقراء.
في المقطع الرابع من نفس هذه القصيدة، قالت هذه الشاعرة الجريئة والواثقة من خطواتها ومواضع قدميها :
سيظلون ورائي
بالإشاعاتِ ورائي
والأكاذيبِ ورائي
غيرَ أني
ما تعوّدتُ بأنْ أنظرَ يوماً للوراءْ
فلقد علّمني الشعرُ بأنْ أمشي
ورأسي في السماءْ.
وقالت في المقطع الثاني من قصيدة ( فيتو… على نون النسوة ) :
يقولون :
إنَّ الكلامَ امتيازُ الرجالِ
فلا تنطقي !!
وإنَّ التغزّلَ فنُ الرجالِ
فلا تعشقي !!
وإنَّ الكتابةَ بحرٌ عميقُ المياهِ
فلا تغرقي
وها أنذا قد عشقتُ كثيراً
وها أنذا قد سبحتُ كثيراً
وقاومتُ كلَّ البحارِ ولم أغرقِ.

وعن الحب وعمّن تُحب قالت في الجزء الأول من قصيدة ( تمنيات إستثنائية لرجلٍ إستثنائي ) :
أنا أرفضُ الحبّ المُعبّأَ في بطاقات البريدْ
إني اُحبّكَ في بدايات السنةْ
وأنا أُحبكَ في نهايات السنةْ
فالحبُ أكبرُ من جميع الأزمنةْ
والحبُ أرحبُ من جميع الأمكنةْ
ولذا أُفضّلُ أنْ نقولَ لبعضنا
” حبٌّ سعيد ْ ”
حبٌّ يثورُ على الطقوسِ المسرحيةِ في الكلامْ
حبٌّ يثورُ على الأصولِ على الجذورِ على النظامْ
حبٌّ يحاولُ أنْ يُغيّرَ كلَّ شيءٍ في قواميسِ الغرامْ.
الصديق في أشعار سعاد الصباح
وعبّرت عن الصداقة مع الجنس الآخر بصدق وحرارة وعفوية. سأختار أجزاءً مما قالت
عن هذا الموضوع في قصيدة ( كُنْ صديقي ) :
كُنْ صديقي !
كم جميلٌ لو بقينا أصدقاءْ
إنَّ كلَّ امرأةٍ تحتاجُ أحياناً إلى كفِ صديقْ
وكلامٍ طيّبٍ تسمعُهُ

كن صديقي !
إنني أحتاجُ أحياناً لأنْ أمشي على العشبِ معكْ
وأنا أحتاجُ أحياناً لأنْ أقرأَ ديواناً من الشعرِ معكْ
وأنا – كامرأةٍ – يُسعدُني أنْ أسمعكْ.

كُنْ صديقي !
فأنا مُحتاجةٌ جداً لميناءِ سلامْ
وأنا مُتعَبةٌ من قصصِ العشقِ وأخبارِ الغرامْ
وأنا مُتعَبةٌ من ذلك العصرِ الذي يعتبرُ المرأةَ تمثالَ رُخامْ.
وكعضو في المنظمّة العربية لحقوق الإنسان، تطوّعت للدفاع عن حقوق بنات جنسها بصوت قوي صريح. صوًرت ما تعانيه المرأة المكبوتة والمخنوقة الصوت في المجتمعات الذكورية. صرخت في قصيدة ( المجنونة ) :
أنا في حالة حبٍّ… ليس لي منها شفاءْ
وأنا مقهورةٌ في جسدي
كملايينِ النساءْ
وأنا مشدودةُ الأعصابِ لو تنفخُ في أُذْني تطايرتُ دُخاناً في الهواءْ

يا حبيبي :
إنني دائخةٌ عشقاً
فلملمني بحقِ الأنبياءْ
أنتَ في القطبِ الشماليِّ وأشواقي بخطِ الإستواءْ.

إنتمائي هو للحبِّ وما لي لسوى الحبِّ انتماءْ.
دلالة كلمة ( سيدي ) في شعر سُعاد الصباح
أحسبُ أنَّ قصيدة ( إمرأة بلا سواحل ) إمتدادٌ لقصيدة ( مجنونة ) السابقة. نَفسٌ واحد ودفقة شعورية واحدة تعبّر عن غَرض واحد : الحاجة الطبيعية إلى الآخر، الحاجة إلى الرجل. إستخدام لفظة ( سيدي ) في خطابها للرجل إنما هو أسلوب شرقي صرف لا وجود له في الشعر الغربي. إنها آلية شفافّة للإفصاح الخجول عن الرغبة في الآخر. في اللفظة تودد وإتضاع وخضوع. إنها من بقايا عصور الحريم الغابرة. إنها الخطاب الموجّه من الأسفل إلى الأعلى. إنها الجذور القديمة الضاربة في تربة النشأة الأولى للشاعرة على أرض الكويت. فإذا وجدنا في بعض أشعارها نكهة أو لمسة غريبة عما نعرف عن أحوال وظروف المرأة في الكويت فإنما قد جاءتها متأثرةً بتلك الأجواء الجديدة عليها التي عايشتها خلال فترات إقامتها ودراستها في كل من مصر و بريطانيا. ذلكم أمر طبيعي. من عاشر القومَ أربعين يوماً صارَ منهم… كما يُقال.
حين تستخدم الشاعرة لفظة ( سيدي ) يتبادر إلى ذهني على الفور شعر الولاّدة بنت المستكفي حيث خاطبت إبن زيدون مرّةً بالقول :
غارُ عليكَ من نفسي ومنّي
ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ

وإني لو خَبَأتُكَ في عيوني
على طولِ الزمانِ لما كفاني
هل خاطبت الشاعرةُ الأندلسية إبن زيدون بلفظة ( سيدي ) ؟ ليس لي بذلك علم.
في قصيدة ( إمرأة بلا سواحل ) كررت سعاد ( سيدي ) عدّةَ مرات فما دلالة ذلك ؟
يا سيدي :
مشاعري نحوك بحرٌ ما له سواحلْ
وموقفي في الحبِ لا تقبلهُ القبائلْ
يا سيدي : أنتَ الذي أُريدُ لا ما تريده تغلِبٌ ووائلْ

يا سيدي : سوف أظلُّ دائماً أُقاتلْ
من أجلِ أنْ تنتصرَ الحياةْ
وتورقَ الأشجارُ في الغاباتْ
ويدخلَ الحبُّ إلى منازلِ الأمواتْ
لا شيءَ غيرُ الحبِّ يستطيعُ أنْ يُحرّكَ الأمواتْ…
يا سيدي : لا تخشَ أمواجي ولا عواصفي
ألا تحبُ امرأةً ليسَ لها سواحلْ ؟؟
لو كان السؤال الأخير مُوَجهاً لي لكان جوابي: كلاّ. لا أحب إمرأةً لا سواحل لها !! الأمواج والعواصف إنما هي في البحار. وللبحار كما نعرف شواطيء وسواحل وحدود تسمى مياهاً إقليمية. وللبلدان على الكرة الأرضية حدود وطنية معترف بها وأجواء عالية إقليمية لها سيادتها وإستقلاليتها شبه المُقدّسة في القانون الدولي. فأية إمرأة هذه التي هي بلا حدود معينة وبلا سواحل مُعتَرف بها تجوبها دوريات وزوارق خفر السواحل ؟! أية إمرأةٍ هذه ؟؟
إستخدام لفظة ( سيدي ) يدخل في خانة التوسّل. وفعلا… كتبت الشاعرة عام 1982 قصيدة كاملة بإسم ( توسلات ) كررت فيها الفعل ( أتوسّل ) ست مرّاتٍ. فقه اللغة العربية يقرر أنْ لو تشابهت حروف أو معظم حروف كلمتين تشابهت معانيهما. وعليه فإن معنى الفعل ( أتوسّل ) هو نفس ما يعنيه الفعل ( أتسوّل ) !! التوسّل = التسوّل.
القلب والإبدال أسلوبان معروفان في العربية.
هذه السيدة الشاعرة التي درست في مصر وبريطانيا ونشرت الكثير من دواوين الشعر باللغة العربية تدافع فيها عن حرية المرأة في الحب وإختيار من تحب وعن حرية الإنسان وحقه في الكلام وهاجمت الجاهلية والرجعية وأنظمة المباحث ( قصيدة وردة البحر )…
هذه الشاعرة الثائرة لم تستطع التخلص من آثار وبقايا إرث عمره أربعة عشرَ قرناً من الزمان الثقيل. إنه كالماء ( النزيز ) تحت أراضي القصب والحلفاء والبردي. إنه مياه جوفية قابعة تحت رمال الصحارى. ما أن يحفر المرءُ قامةً حتى تتفجرَ ينابيعَ وعيوناً. مع الفارق الكبير فيما بين نوعية الماءين.

بلقيس حميد حسن

( المصدر : مخاض مريم، ديوان شعر/ دار الطليعة الجديدة، دمشق. الطبعة الأولى 1998 ).
الآنسة بلقيس حميد شاعرة من جنوب العراق ( محافظة ذي قار، الناصرية أو المنتفك ). تُقيم وتعمل في هولندا منذ أكثر من عقد من الزمان. إلتقيتها في مناسبتين في لندن مطلع شهر أيلول عام 2000 . كانت المناسبة الأول ( مساء السادس من أيلول ) خلال مشاركتنا معاً في أُمسية شعرية نظمّها الدكتور رشيد بندر الخيّون في ديوان الكوفة. ثم إلتقينا ظهر اليوم التالي ( السادس من أيلول ) في ستوديوهات فضائية ( المستقلة ) حيث أجرى معنا الدكتور كاظم الموسوي، كلاًّ على حِدة، مقابلة مسجّلة أُذيعت فيما بعد.
كيف عالجت بلقيس موضوعات الحب والجسد والجنس ؟ كيف أسهمت هولندا في إنضاج وتطوير وتنويع معالجاتها لهذه الموضوعات وما هي مساحة الحرية التي مارستها في التعبير عن هذه الأمور الشائكة بالنسبة لإمرأة عربية عراقية مسلمة ؟؟؟ دُهِشتُ كما سيندهش القاريء من جرأة هذه الشاعرة في تقحّم المصاعب وإختراق الأسلاك الشائكة وتحدي التابو المفروض على الشعر خاصةً وعلى الأدب الأنثوي بشكل عام. تأثير بيئة هولندا وأجوائها الإجتماعية والسياسية واضح على ما قالت من أشعار منثورةً حيناً وموزونة أحياناً أخرى. بهذا تختلف عن سعاد الصباح التي كتبت أغلب قصائد أشعارها موزونة بوزن واحد وقوافٍ متعددة. ثمّةَ فرق آخر:لم ترد في أشعار سعاد لفظة ( حرمان ) التي تكررت كثيراً في أشعار بلقيس وأشعار الدكتورة آمنة يوسف، بنت اليمن.
لقد تجاوزت بلقيس الخطوط الحُمْر المعروفة فلامست موضوع الجنس ملامسة مباشرة حيناً، وقاربنته مقارباتٍ مبطّنة رمزاً أو إشارةً أو مجازاً أحياناً أُخَر. كانت أكثر جُرأةً وأكثر جسارةً من سعاد. كانت نموذجاً مقداماً ورائداً في عالم الشعر النسوي.كما أنها خاضت في مواضيع شتى متباينة الأغراض والأهداف عالجتها من زوايا كثيرة التفاوت. فحين تعرض مأساة المرأة العراقية فإنها لا ترفع في الهواء شعاراتٍ طنانّة من قماش زاهي الألوان أو ورق. ولا تتقدم تظاهرة نسوية في أحد شوارع عواصم العرب حاملة بيدها مكبِّر صوتٍ ( مايكروفون ) تحتجُّ وتصرخ وتفضح وتستغيث صارخة بأعلى صوتها في محاولات يائسة لإيقاظ الموتى. كلاّ، إنها تكشف المساويء والعورات بكل هدوء وموضوعية مع الكثير من الجرأة والإقدام ومعرفة عميقة بعادات وتقاليد المجتمع العرقي. قالت في قصيدة ( تهاوين قبل الآوان ) :
في غرفةٍ للحريمْ
كانَ الحِجابُ سميكاً
وكان التنصّتُ رغمَ الحِجابِ عظيماً
فأدرج كلُّ الرجالِ مجالسهم
في ثقوبِ الجدارِ
بُحّتْ ليالٍ
نادت عيونٌ
تلمّستْ النهدَ غضّاً
فجُنَتْ
وزادتْ ثقوبُ الجدارِ…
في هذه القصيدة الطويلة التي كتبتها عام 1997 في هولندا والتي إستغرقت عشرين صفحةً من الديوان، عرضت الشاعرة بانوراما عريضة زاخرة بالصور المتحركة والمشاهد الحيّة لوضع المرأة في العراق عموماً وفي بعض مدنه ونواحيه وقراه على وجه الخصوص. ففي مفتتح القصيدة رسمت الشاعرة صورة رمزية بالغة الدلالة لما يعتري الرجال من هلع وخيبة حين تضع نساؤهم بنتاً أنثى. هذه هي البداية ! بداية مأساة المرأة في الشرق (( وإذا بُشِّرَ أَحَدُهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مُسوَّداً وهو كظيم. يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّرَ به أيُمسِكُهُ على هُونٍ أمْ يدسّهُ في الترابِ ألا ساءَ ما يحكمون / سورة النحل، 58 و 59 )) نواصل قراءة وإستقراء القصيدة – البانوراما فالبنت ككل البشر تكبر وتنضج وتنمو:
صحتِ…
وصار زمانُكِ طقساً لكلِ العصورِ
دخَلتِ تقاليدَ عهدِ العبيدِ
بغُرفاتِ كلِّ الملوكِ
بخمرِ الفجورِ
بآه الآلهِ
خطيئةُ كلِ الرجالِ
خطيئةُ شهواتهم لفخذٍ يصيحُ وخِصرِ…

خذوا زهرتي وامنحوني التفكّرَ والأرقَ المُستحبَّ
خذوا حفنةً من شبابي لأحيا مع الريحِ ساعةَ تهدأْ
وساعةَ تصخبْ

نساءٌ
ودمعٌ تزيّنَ بالكحلِ
والخجلِ المستميتِ إلى لمسةٍ من حبيبِ.
تنقلنا الشاعرة إلى مشهد قروي يعرفه العراقيون : يرسل بعض سكان القرى والأرياف من المزارعين ومربي الماشية، يرسلون نساءهم أو بناتهم إلى المدن لبيع البيض والدجاج والألبان وبعض مشتقاتها ( الكيمر، القيمر، القشطة ). والويل للمرأة المسكينة إنْ آبت في نهاية النهار إلى بيتها ولم تستطع أن تبيع كلَّ ما حملت في الصباح المبكّر من بضاعة. لذا فتُضطرُ إلى ممارسة البِغاء كي تجمع النقود التي يريد وينتظرُ زوجها أو أبوها :
أُفتّشُ عنكِ بكلِ العصورِ
أراكِ تخطّينَ درباً
مع الفجرِ للنصرِ أو للهروبِ
أراكِ
حين يقولُ لها في الظهيرةْ
تبيعينَ كلَّ خوابي اللبنْ
تعودينَ عند الغروبِ وجيبكِ ممتليءٌ بالنقودِ وإلاّ…

دروبُ المدينة تأكلها
تَكْسَدُ تلك الخوابي فينزلقُ الثوبُ
برعشةِ تاجرةٍ للجسدْ
تبيعُ اللبن
تبيعُ سواه …
ويولجه في الغروبِ بأثمان خمسِ
أو ست ( مغليةٍ ) للَبنْ
هَلُمَّ، صارَ المغيبُ
تأخرتُ دعني
أبي يقتلني
خذ نقودكَ
أخرجْ شيطانكَ اللايكلُّ ولا يستريحُ…
بهذه الجرأة والوضوح كشفت بلقيس إحدى مآسي المرأة في العراق. لقد فسّرت لنا لماذا تتاجر المرأة بجسدها وتحت أية ظروف ومن هو المسؤول عن ذلك. إنه هو، هو الرجل. الرجل الذي أنجبها وأنضجها ليكلفها أن تأتيه آخر النهار بالنقود. وإنه هو الرجل الغريب الآخرالذي لا يفهم المسألة ولا يهمه أن يتحرى أسباب لجوء هذه المرأة إلى عرض جسدها لقاء أن يشتري منها ما تبقّى من بضاعة كسدت في آخر النهار.( هذا جناهُ عليَّ أبي…).
أجل، كتبت الشاعرةُ المأساةَ بمنتهى الصراحة وعالجتها على المكشوف: ( يولجه في الغروب ) … ( أُخرجْ شيطانك اللايكلُّ ولا يستريح ).
في المقطع السادس عشر من هذه القصيدة تلامس الشاعرة موضوعة الجسد والآيروس المكشوف كما عوّدتنا. إنها تتكلم عن فتاة نضج جسدها فكيف تتعامل معه حين تخلو به في عتمة لياليها ؟
تقولُ نضجتُ
دعوني أنامُ لوحدي
أمُدُّ الأصابعَ ساعةَ شئتُ
أُكوّنُ عرسي
بناموسيتي والبياضِ
أزغردُ صمتاً
أوزِّعُ حلوى من الرغباتِ
على جسدي في الفراشِ
أُحسُّ ساعةَ يهجمُ سِحرُ الجسد
أنَّ البراكينَ في الجلدِ تسري…
في نهاية القصيدة تصرخ المرأة – الشاعرة بصوتٍ عالٍ :
قوانينُكمْ والشرائعُ صُفْرُ
هو الرأسُ يصعبُ أنْ تراهُ
بلا جسدٍ في الخلاءِ.
الخمرة… العشق… الحرمان في قصائد بلقيس
لم أجد للخمرة وكؤوسها ذكراً في شعر سعاد الصباح، الشاعرة الكويتية المقيمة في الكويت. لكني وجدتها في أشعار بلقيس حميد، العراقية المقيمة في هولندا. غير أني وجدت كلمة ( العشق ) موضوعاً مشتركاً فيما بينهنَّ. لقد مارستا إستخدام هذه اللفظة بحريّة وبدون أيما حرج. تعاطي الخمور أمرٌ محرّمٌ قانوناً وعَلَناً في الكويت. لذا يكون تعاطيها عادةً في السر… شأن كل ما هو مَحرّم في الحياة. يتم تعاطي الممنوعات والمحرّمات سرّاً… عادات سرّية، جدلية السر والعلن : المحرّمٌ في الشارع محلل في البيت. والمحرّمٌ في البيت محللٌ في الشارع.
في قصيدة ( تقولين لا ) كتبت بلقيس حواراً مع نفسها يكشف حالة صراع مع النفس حول أمر يتكرر دوماً في الغربة وبشكل شديد الإلحاح. موضوع هذا الصراع من الوضوح بحيث لا يقتضيني أية زيادة في التوضيح :
كما كنّا نتشابك
نريدُ ال…
ولن يحدث
لوني عربي
عيناي من الماضي تأتي

يسألني كأسي
لِمَ تقولين لا ؟
الكل ينتظر وتقولين لا ؟
أدركتِ الوحدة قبل أوانكِ
ها خصركِ يتلوى لحنان الرغبة
وها صدركِ يعبقُ
تُخبئينَ ماذا ؟
وتتركين ماذا ؟
تخافينَ مِمَ ؟
الدنيا هيتَ لك
أتخافينَ وعصفوركِ يحكي ؟
أتخافينَ وأجراسُكِ ترنُّ ؟
زمانكِ هذا
ماذا تنتظرين ؟

لقد سبق وأن أجابت بلقيس على سؤالها الأخير هذا في بداية القصيدة (( لوني عربي، عيناي من الماضي تأتي )). فهي إذن فتاة عربية محافظة ومشدودة إلى تقاليد وأصول وأخلاق أهلها وعشيرتها وجيرانها الأقربين.
كتبت هذه القصيدة بتأريخ 1/12/1996 في هولندا.
في ساعات التأزم يفكر المرء بما يشاء ويخطط لما يشاء من مشاريع. لكنه يشطب على كل هذه المشروعات والأفكار لحظة أن يزول التأزم وتختفي مسبباته. تماماً كما يحصل لنا جميعاً في عالم الأحلام (( كلام الليلِ يمحوه النهارُ )). في قصيدة ( وأعشق ) كررت الشاعرة لفظة و ( أعشق ) سبعَ مراتٍ،حتى لكأنها أرادت أن تتحدى جهةً ما أو أمراً ما. يذكّرني هذا التحدي بحروب ( دون كيخوت ) بسيف خشبي مع طواحين الهواء. وهولندا معروفة بكثرة ما فيها من هذه الطواحين. لنستمع إلى بلقيس تتحدى ( هولندا 11/7/1997 ):

محكومة بالعشق مدى الحياة
تتآمرون عليَّ… وأعشق
تقتلون أيامي… وأعشق
تسرقون أفراح طيوري… وأعشق
تجتمعون جميعاً لتخيطوا لي عباءةً سوداء
تلفّون بها بياضي… وأعشق
تنسجون عني الأقاويل
تريدون إستباحةَ بهائي… وأعشق
تطرقون بابي لتدخلوا القلق … وأعشق
تستفزونني
يرتفع صوتي مقاتلاً :
الحب،
فوق كل القوانين.
وقالت في قصيدة ( شحوبك / هولندا 11/5/1997 )
اليومَ تهالكتُ عليك
تراكضت غزلاني صوبك سراعاً
إبتذلتُ الروح
لمَستُكَ
عَبَرت المتعة حدودَ المعقول
وضاعت قوانين الجسد
سكرى كنتُ
أُريدُ أن أُخبِّئك بين ذرّات قلبي
فأين موضعي وفتاتُ روحي تتطايرُ
بين فسحاتِ أنفاسك ؟
وقالت في قصيدة ( عطور الياسمين / هولندا 1997 ) :
زارني حبُّكَ فانهالت عطور الياسمينْ
فوقَ أغصانِ فؤادي
دع فراشاتيَ تلهو
إسقني
جفَّ رحيقي
حينَ قرّبتَ لظى كأسِكَ مني
إقتربْ
قرّبتُ قاموسَ حياتي
واقتطفْ باقةَ زهرٍ
علَّ برداً في عظامي يتمردْ.

أخيراً نقرأُ في قصيدة ( تنويعات، المقطع الثالث عشر ) آيروساً مكشوفاً :
تفجأني بإقحواناتك
فتيّة لا تَمَلُ الطَرب
لها أشرعتُ سماواتي
وها ألفُ جناحٍ للشهوة
أتلوى
للذةٍ أٌقدّمُ عُنُقي وأهيم.
وبعيداً عن الكأس والجنس والجسد وأخيلة الشعراء مرهفي الإحساس والهائمين في كل وادٍ
(( والشعراءُ يتّبِعُهُم الغاوون. ألم ترَ أنهم في كلِّ وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون / سورة الشعراء، 224، 225، 226 ))… بعيداً عن كل ذلك، أرى أن ألفت النظر إلى قصائد جيدة في ديوان الشاعرة بلقيس حميد حسن، عبّرت فيها عن محنة الفتاة الشرقية وتمسكها بعفتها وشرفها رغم القسوة والتغرب والجو الأوربي ( المتمدين ) وشعورها بالوحدة المريرة بعيداً عن أهلها ووطنها الذي فارقته على الكراهة كما قال الجواهري :
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أُفارقهُ
على الكراهةِ بين الحينِ والحينِ

إني وردتُ عيونَ الماءِ صافيةً
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني.

القصائد التي عنيتُ هي ( الحرمان ) و ( الزورق الوحيد و ( سنين المرافيء ) و ( سر الريح المجنونة ) و قصيدة ( أزيحوا نعشي عن أرجلكم ).

الدكتورة آمنة يوسف

( المصدر : إنكسارات، ديوان شعر/ الناشر : الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، الجمهورية اليمنية. الطبعة الأولى 2001 ).
إلتقيت الأستاذة في جامعة صنعاء الدكتورة آمنة يوسف خلال فعاليات أمسية شعرية – ثقافية قام بتنظيمها نادي المغتربين السوريين في مدينة ميونيخ الألمانية، لمناسبة زيارة وفدٍ من الشعراء والشواعر والكتّاب اليمانيين. كان ذلك مساء الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني ( نوفمبر ) 2001.
ما الذي يُميز آمنة وشعرها عن سعاد وبلقيس وما الذي يجمع بينهن ؟ ذلكم سؤال عسير، سأسعى للأجابة عنه بمسح قصائد ديوان آمنة وإبراز مواضع الأطروحات الثلاث التي إرتكز البحث عليها في الأساس ( الحب، الجسد، الجنس )، وكيف تعالجها وتتعاطاها إمرأة شابة من اليمن، واليمن ليست هولندا ولا الكويت. وما هذه الأطروحات إلاّ الكوى التي يرى الإنسان الضوء من خلالها، جسداً ورأساً. والنوافذ التي يتسرب داخل الإنسان منها إلى خارجه. الخروج من دائرة العتمة إلى عالم الأضواء. (( الخروج من القوّة إلى الفعل ))… كما يقول الفلاسفة. والحب هو مفتاح الجسد والجنس جسره وبرزخه إليه. الجنس في الجسد يولّد البشرَ ويُديم حياة النوع البشري على الأرض وبهما تكتمل دائرة الوجود الأزلية. فمن يستطيع الهروب من جبروت هذا الثالوث الذي (( فيه الخصامُ وهو الخصمُ والحكمُ // فيك الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ / أبو الطيب المتنبي )).
تقول آمنة في قصيدة أهدتها (( إلى الأب الروحي الدكتور عبد العزيز المقالح )) إنها يتيمة :
( لم أرَ في حياتي سوى اليتم / ص 37 ). الدكتور المقالح شاعر من اليمن ورئيس جامعة صنعاء. لقد قالت لي آمنة في تلكم الأمسية إنها يمانية مولودة في العربية السعودية. اليُتم إذن وغربةُ التولّد. مفتاحان جيدان لفهم شخصية وأشعار الشاعرة.
الحزن والحرمان في ديوان آمنة
أكثرت الشاعرة من ترديد هذين الموضوعين في أشعارها، في حين خلا الديوان من ألفاظ
الخمر والكؤوس وجاء مُترَعاً بالحب العُذري المتسامي، حب رابحة العدوية وولاّدة بنت المستكفي والحلاج وإبن الفارض. كما إنها أكثرت من ذكر الظمأ والعطش ثم الترقب والأمل والخوف من المجهول. رأينا في شعر الكويت عشقاً وحباً، نعم، وقرأنا في أشعار هولندا عشقاً وكؤوسَ خمرٍ وآيروسَ صريحاً ومبطّناً. العلاقة بالطبع وثيقة بين الحرمان والحزن. إنه حزن الحرمان بكافة أنواعه…
ففي قصيدة ( حرمان ) كتبت آمنة يوسف :
في دمي أنتَ وفي أعماقِ قلبي،
بين عينيَّ وأحلامي وحزني
غيرَ أني
لستُ أحظى منكَ إلاّ بالتمنّي.
وأكّدت ثانيةً على موضوع الحزن في قصيدة ( تهميش ) :
تتخللني،
تتسرّبُ ليلاً ونهاراً،
تُصبِحُ روحي
جسدي
وطني
تستحوذني وتُهمِّشني حتى
لا يبقى في قلبي غيرُ الحزنِ !
في قصيدة ( هامش ) قالت :
على هامشِ الحُلمِ أمضي
اُفتّشُ عن زمنٍ يرتديني
وعن وطنٍ… كلّما أرهقتني رياحُ يقيني ّ
أفتِّشُ … لا أرى غيرَ قلبي
وغيرَ المدى
وغيرَ السؤالِ الحزينِ.
كما كتبت حزن 1 وحزن 2 فقالت في الحزن الأول :
حُزنٌ بيضاوي القِمّةْ
ومساءٌ مُنحَدِرُ الهمّةْ
وأنا بينهما لا أدري
من يرسمُ في صدري البسمة ؟!.
لا يكاد الحزن يفارق قصائد ديوان إبنة اليمن السعيد. يمن سد مأرِب وبلقيس ملكة سبأْ.
وعن الظمأ كتبت قصيدتين قصيرتين ( ظمأ 1 وظمأ 2 ). في الظمأ الأول قالت :
من يقتطعُ لِحُلمي ؟!
وطناً وهميا…
في أوردتي العطشى حتى يغشاني ما يغشى
وأثورَ على الظمأِ اليوميِّ ؟!
هل يحتاج العطش والظمأ والغشيان إلى تفسير ؟ لا أظنُّ ذلك. اللسان يفضح ما في الجسد. والجسد يُجبر اللسان أن ينطق وأن يُعبّرَ نيابةً عنه عمّا يُريد.
في قصيدة ظمأ 2 شعور واضح بالخوف من المجهول والحسرة على مرور الوقت على حساب الشباب:
مُرهِقٌ وهمي وذابلةٌ دروبي
والمدى ليلٌ يبددُ نجمَهُ التجوالُ والظمأُ
وهذا اللاصدى يُصغي إلى حُلُمي ولا أدري
بأيِّ شواطيءٍ ترسو نهاياتي ؟!.
وفي نفس هذا السياق جاءت قصيدة ( نبض ) :
لم يَعُدْ لي ظلُّ نجمةْ
يَبُسَ البدرُ وأرضي
ليس فيها ظلُّ بسمةْ
رقدَ الفجرُ ونبضي طائرٌ يرتادُ همّهْ
عصفَ الدهرُ وبعضي بيدرٌ يقتاتُ وهمهْ.

لعل قصيدة ( وحيدة ) هي أجمل قصائد الديوان. قالت فيها :
لأني وحيدةْ
أُلوّنُ صدرَ المساءِ بألبومِ حزني
فيعرضُ عنّي ويَكبَرُ فيَّ البكاءْ !
لأني وحيدةْ
أُدوِّنُ كفَّ الفناءْ
بعصفور فنّي
فتسأمُ منّي
وتصغرُ فيَّ السماءْ
لأني وحيدةْ
أُكوّنُ طيفَ الفضاءْ
بمجنونِ لحني
فيُعلِنُ أني :
شقيقةُ هذا الغناءْ.
من أين أتى حفيدةَ بلقيس، مليكةِ سبأٍ ومأرِب وعرشِ سُليمان، من أين أتاهاكلُّ هذا الحزن والشقاء والظمأ والشعور بالوحدة ؟ اليَمَن تعني الجنوب ( جنوب الجزيرة العربية ). ويُقال تعني اليمين، ويُقال اليَمَن إسمٌ مُشتقٌ من اليُمْن والتيمن، لذا سُميت اليمن السعيدة، يَمَن تُبّع وحِمْير. يَمَن البُن والقات… بعد أنْ إنهارَ سدُّ مأرِب.
ملاحظة أخيرة : جاءت قصائد الديوان جميعاً خُلواً من تواريخ كتابتها. لذا تصعب محاولة تقصي وتتبع خط تطور شاعرية آمنة يوسف الموزونة والمنثورة. إنه الديوان الأول للشاعرة كما أحسب. وبحكم كونها تتعاطى تدريس الأدب العربي في جامعة صنعاء فإنها لا شك قادرة على تطوير أساليبها وقدراتها في التعبير عن خَلَجاتها ومشاعرها ومخاوفها وآمالها العِراض. أتمنى لها مستقبلاً زاهراً في حياتها الشخصية الذي سينعكس حتماً على عالمها الشعري، ثم في حياتها الجامعية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here