في الأغتراب

في الفلسفة مفاهيم لا تبل جدتها ، بل تزاد مع مرور الأيام غنى ، ومفهوم الأغتراب ، الذي نحت في القرن التاسع عشر، يبدو اليوم أكثر أنطباق على وضع العالم المعاصر . وفِي هذه المقالة التي نريدها مؤجزة ، لما هذا المفهوم من تشعب وغنى نعجز عن الأحاطة بكل تفاصيلها . لذا سوف نعاين تاريخيته ، وأهم معانيه ، عند الفلاسفة الذين طرحوا أهم وأعمق معاني هذا المفهوم . والذي يحسب عادةً ، أنه يعود للماركس ، لكنه ، في الحقيقة لم يكن ماركس مبدع وناحت هذا المفهوم . فهو حسب بعض الدارسين ، يرجع أستخدامه للأول مرة لفخته الفيلسوف الألماني المثالي المشهور ، وأبو المثالية المطلقة ، عاش قبل هيجل ، وقبل ماركس . إلا أن شهرة هذا المفهوم ترجع لهيجل وفيورباخ ، اللذان أول من جعلاه متداول بالطرح الفلسفي . غيرأن ماركس استخدم هذه المفهوم وكيفه للأغراضه ، بعد أن غير أستخدامه من اللغة التأملية ، والمجردة ، إلى اللغة الأجتماعية والعملية . ومنذ ذلك الوقت ، بعد أن حوله ماركس ، من لغته الأصلية ، إلى لغة علم الأجتماع ، والصراع الطبقي ، أخذ يتداول بكثرة ، وبات محل لنقاشات واسعة في العالم .

وعليه سنتابع تاريخ هذا المفهوم وكما تطوّر من أستخدامه الميتافيزيقي لدى هيغل وفيورباخ إلى إلى طرحه لدى ماركس . وعلينا ، أن نذكر في البدء ، بأن ماركس ، هو أمتداد للفلسفة الألمانية ، كما كان يقول لينين ، أي أن لا يمكن فهمه بدون وضعه في الوسط الذي تطور فيه . ولهذافأن مفاهيمه لها صلة بمن سبقوه .

وعندما يقال بأن أصل هذا المفهوم موجود لدى فخته ، فأنهم بالواقع ، يشيرون إلى المقولة الأساسية في فلسفته . ونحن نعرف بأن فخته ، كان تلميذ لكانت ، وأنه أراده ، حسب أعتقاده ، أن يجعل فلسفة كانط متسقة مع نفسها ، فهو أي فخته ، ظن أنه فهم فلسفة كانط أفضل من كانط نفسه . والواقعة الأساسية في فلسفة كانط ، كانت ، هي أن الإنسان هو الذي يفرض مقولات على الأشياء ، بما لديه من مقولات قبلية . ولذا قال فخته ، في تعديله لكأنط ، بأن كل ما يوجد في الكون هو من نتاج الذات أو الآنا الشاملة ، وليس هناك من أشياء في ذاتها ، بحسب ما يظن كانط ، الذي ، اعتقد بوجود عالم خارجي مستقل عن الذات ، ومقولات عقلية تفرضها الذات العارفة على الأشياء فتتم المعرفة ، هذه الثنائية هي التي ألغاها فخته وجعل الآنا هي التي تخلق العالم ، فكل ما ما هو موجود هو من أبداع الذات ، وأن الأشياء المستقلة عن الذات هم مجرد وهم أو من خلق الآنا . ولهذا اعتبر هذا الفيلسوف أب المثالية المطلقة . وبما هذه الذات هي التي تطرح الأشياء خارج ذاتها لتمارس عليها نشاطها ، فهي تعدهم أشياء مغتربة عن الذات ، وبتالي تساهم في ممارسة تأثيرهم على الذات ومن ثم تشكيلها . هكذا فهم فخته الأغتراب وطرحه .

وهيجل طور وعاد صياغة فكرة فخته عن الاغتراب في كتابيه فينومينولوجيا الروح ، وفلسفة التاريخ . فعند هيجل ، أن الناس فعلاً يعيشون بعالم من خلقهم ، فهم خلقوا العالم ، لأنهم أداة في يد روح العالم ، بيد العقل الكلي أو الروح الشاملة ، فهذه الروح تستخدم أفعال الناس وأعمالهم حتى تبلغ هدفها وغايتها في تحقيق وعيها بذاتها . فالروح الشاملة أو العقل الكلي ، هي عند هيجل ، مثل الآنا الكلي لدى فخته ، والتي تعني كل الجنس البشري ، وليس فرد واحد . وهيجل يتحدث عن هذه الروح أو العقل ، وكأنها مكتفي بذاتها ومستقلة ، ولها وجود لا يسيطر عليه أي أحد . ومثل هذه الروح المستقلة ، من طبيعة حرة ، واعيه بذاتها، فهي ما لم تكن كذلك ، أي لا تعتمد على غيرها ، فأنها لن تكون حرة . وهذه الروح تحقق نفسها على مراحل ، خلال التاريخ البشري ، وتمر في أطوار من الوعي المختلف ، وتلك المراحل التي مرت بها هي ، المرحلة الأغريقية ، والمرحلة الرومانية ، والجرمانية ، وأستخدمت الروح شخصيات تاريخية كبيرة ، لعبت دور بطولي ، لتنفيذ أغراضها ، مثل الإسكندر المقدوني ، ونابليون ، وهيجل نفسه . وهكذا تنتج تلك الروح كل عالم الطبيعة بما فيه من أشياء كثيرة ، وعالم البشر بما فيه من ثقافة ومؤسسات ، وقوانين ، ودول ، وفنون ، وفلسفة خلال مسيرتها . وكل هذا الخلق ، وما تصنعه الروح أو العقل ، ما تطرح في الخارج ، أو ما يسمى التخارج ، يصبح غريب عنها ومغترب ، ويقف بوجها ، فهذا العالم الموضوعي ، يصبح له وجود مستقل عن الروح التي أنتجته . وهذا الاغتراب ، بحسب هيجل متأصل في الروح ، وفِي كل خلق روحي ، ولذا من المحتم ، فأن الناس ، خالقوا هذا العالم ، يعانون ذلك الاغتراب ، ويبدو ما يوجد كأنه بعيد عن سيطرتهم ، وحتى معادي لهم ، ويهيمن على أرادتهم ، ويحبط أعمالهم وتمنياتهم . ولهذا يقول هيجل في هذا السياق بأن ” الروح في حرب مع نفسها ، وتحاول أن تتغلب على عقبات كائداء. . لذا فأن هدف التاريخ هو التغلب على هذا الاغتراب وعود الروح لذاتها بعد اغتناها بمسيرتها وجهدها بلوغ هدفها المثالي . ويفسر البعض ، بأن تلك الروح التي تحقق نفسها عبر التاريخ ، هي الله هو يكشف عن ذاته من خلال خلق الطبيعة وتطور عبر التاريخ البشري . والله عند هيجل يتحول من فكرة مجرده ، ومنعزلة ، وقائم بذاته ، ومتعالي ، في مكان ما من الكون ، إلى واقع عيني في الوجود البشري ، فهو عند عقل يتطور وينمو عبر مراحل التاريخ ، وليس شيء ساكن . متعالي على الوجود ، كما في الأديان التوحيدية . هذا التصور المتافيزيقي عن الأغتراب عند هيجل وفخته ، يقابله التصور المادي لدى فيورباخ وماركس . بدأ فيورباخ ، بتحطيم العالم الخيالي لفخته ، والتصور الفلسفي لهيجل . فشرع من فرضية بسيط جداً ، ومعروفه من قبل ، بالقول ، بأن كل المعرفة تأتينا عن طريق الحواس أو أن أساسها قائم في التجربة . فانطلق في عرض أغتراب فخته وهيجل ، أما بموضعة الحاجات البشرية ، كما الحاصل بالدين أو في تجسيد العلاقات الخيالية لنشاط البشري ، عملياً أو نظرياً . فمثلاً ، الكائن الإلهي ، الله ، لا شيء آخر سوى الكاىن البشري منظور له بشكل كامل ، وبشكل مثالي ، وكائن لا عيب فيه ، إنسان مثالي ، وبذلك يجعل منه شيء متميز عن الكائن العادي ، لكي يستحق العباده ، ويقدس . ففي الله الشخصي الذي يجسد الإنسان ، فأن الإنسان لا يعبد سوى صفاته الممثلة والمجسد في كائن خارجي ذو صفات مثالية . فهذه الصفات التي يطمح الأنسان تحقيقها في وجوده وحياته تخلع على من خلق الإنسان ذاته . فهي توق لتحقيق النظام الأخلاقي المثالي . لهذا يقول فيورباخ ” بأن المعني الحقيقي للاهوت هو الأنثربولوجيا ( يعني دراسة علم الإنسان ) . فالدين ، في نظره هو طبيعة الإنسان تأمل ذاتها ، والله ، لا شيء سوى أسقاط للإنسان الكامل الذي يطمح أليه . فالإنسان ، هو الله نفسه ، غير أن يجعل منه كائن خارجي ، ومتعالي ، يعني بنظر فيورباخ اغتراب الإنسان عن تفسه ، فهو يجعل من صفاته الجيدة ممثلة في كائن سماوي ، لا وجود له ، وبذلك يجرد نفسه من أهم ما لديه ، وتصبح تلك الصفات غريبه عنه . فالأغتراب الديني الذاتي ، هو أحساس الإنسان بعدم كفاية ما يعيش عليه من اخلاق . وعليه ، فأن الحقيقة المقدسة هي محض وهم . فيورباخ يرفض الثنائية ، التي بوجود حقيقتين سماوية وأرضية في أي مكان من الكون . وبحسب فيورباخ ، يمكن النظر ، لروح هيجل أو عقله المطلق على أنه شكل من الأغتراب ، وتجسيد ، وتخارج لعقل الإنسان . ويمكننا أن نتحرر من هذا الأغتراب ، بالمعنى الذي شرحه فيورباخ ، بتحرير أنفسنا من عادة التجريد التي تطارد عقولنا ، وتجسيدهم في أشياء مستقلة وخاصة لهم كيانات متفوقه على البشر . ويمكن أن نحرر أنفسنا أيضاً بكتشاف كيف نشؤ في الحياة الأجتماعية ومعرفة وظيفتهم وكيف يحققوها في المجتمع .

وماركس ناقش الاغتراب بحسب الدارسين المتعمِّقين في أعماله في فترة الشباب . ففي المخطوطات الأقتصادية والفلسفية والتي لم تنشر في حياته وعثر عليها مؤخراً ، وفِي كتابه المشترك مع صديقه أنجلس الأيدلوجية الألمانية ، وبعد ذلك ، لم يأتي على ذكر هذا المصطلح . ففي المخطوطات الأقتصادية الفلسفية عام ١٨٤٤ ، عرض ماركس ثلاثة أنواع من الاغتراب (١) الاغتراب عن نتاج العمل (٢) الاغتراب أثناء عملية الانتاج أو اغتراب العمل (٣) والاغتراب عن المجتمع .

والأغتراب عن نتاج العمل يعده البعض مصطلح هيجلي ، والذي يعني تشكيل وتخارج العمل في شكل أدوات الانتاج والتي يقول تقف ضد وتهيمن على العمال كقوى مستقلة وغريبة عنهم . طالما أن أدوات الانتاج تخارج وتموضع انتاج العمل ، لذا فأن من المحتم وفقاً للماركس ، أن كلما بذل العامل مزيد من نفسه في العمل فأنه يزيد في خضوعه ، ويزيد من قلة استهلاكه ، ومزيد من نفسه يصبح عديم الفائدة ، وبأس ، ومنحط ، وتتقلص قواه العقلية .

والشكل الثاني من الاغتراب ، أي الاغتراب عن العمل ، هو ما يسميه ماركس الاغتراب الذاتي ، والذي يمكن أن يعزي إلى الارتباط بين البنية الاقتصادية الاجتماعية والبنية الشخصية للأفراد . وهذه الظاهرة ، اي الاغتراب عن العمل ، تعني أن العمل لم يعد مصدر سرور وحيوية وتحقيق الإبداع للفرد ، وأنما فقط مجرد أنهاك جسدي ، وانحطاط عقلي ، لأن الاغتراب عن العمل دائماً يتم تحت أكراه أجباري ، ولا يشبع أي حاجة أساسية لدى العامل ، فهو مجرد وسيلة للعيش ، أداة لكسب الاجور الكافية لتحفظ العامل على قيدالحياة . فذات العامل ، كمخلوق اجتماعي تعبر عن نفسها في النشاط الخلاق للعمل الذي يمارسه مع زملائه من العمال الآخرين أثناء العمل . والعمل المغترب يحط الإنسان إلى مملكة الحيوان ، وأجور العمل ، تغدو مجرد مادة غذائية له .

أما الشكل الثالث من الاغتراب ، هو الاغتراب عن المجتمع ، والذي يعني الاغتراب عن الناس الأخرين ، وهذا النوع يتضمن انفراط عقد المجتمع ، واستخدام احداهما إلى الآخر كوسيلة للإشباع رغباته . وهذا الاغتراب يحول المجتمع إلى مجموعة من الأفراد لا رابطة بينهم ، سوى استخدام الآخر كوسيلة لحاجاتها ، وبذلك يعزز من اغتراب العمل الذي يعاني منه العامل . وهذه الأنواع من الاغتراب هي التي عالجها ماركس في بداية حياته ، ولم يرجع لمعالجتها فيما بعد ، فقد انهمك في تحليل بنية الاقتصاد الراسمالي ، الذي يتضمن كل تلك الأنواع من الاغتراب ، لأن العيش في ظل النظام الراسمالي يتضمن الاغتراب بأوسع معانيه ، فالعامل مغترب عن عمله ، والإنسان في المجتمع الراسمالي مغترب عن الآخرين لأنهم بنظر لهم كمجرد أدوات لرغباته ، والإنسان في هذا المجتمع لا يحقق جوهره وماهيته ويكشف عن كل مكنوناته . فهو في عرف ماركس ، وكما فهمه ، حاله مؤقته ، ويخص العيش في المجتمع الراسمالي ، وسوف يزول في المجتمع الشيوعي ، حينما لا يغترب العامل عن عمله ، وعن رفاقه في العمل ، والمجتمع .

اما الاغتراب ، وكما ، عالجه الوجودين ، هيدجر ، وسارتر ، فهو من الاغتراب المتأصل في وجود الإنسان ، وشيئ كامن في طبيعة الكون ، وليس نتيجة ظروف اجتماعية ، فهيدجر ، مثلاً ، يقول ، أن الأنسان مقذوف بهذا العالم وحيد ومهجور ، وبلا عون وسند من أي قوى خارجية أو الإلهية . ونظر سارتر إلى الاغتراب من زواية هيجيلة أكثر من وجهة نظر ماركس ، أي من ناحية اجتماعية ، فهو عد الاغتراب جزء من الاغتراب الروحي الشامل الذي تحدث عنه هيجل ، فهو جعل من ماركس هيجلي ، لأن سارتر الذي أراد سد القصور في فلسفة ماركس ، بعد أن اعتبرها الأفق الذي يفكر في ظله . ونظر إلى الإنسان كعاطفة غير مجدية ، وجوده يكشف عن عبث الوجود ،

وبقى هناك نوع آخر من الأغتراب علينا معالجته ، ونقصد به الأغتراب الديني . لدى كبار مفكري الدين . وهؤلاء نظروا للأغتراب من الزاوية المعتاد في التفكير الديني ، وخصوصاً لدى المسيحية ، أعني ، ناحية الخطيئة . التي تشكل حجر الأساس في نظرتهم للعالم ، فهم يساوون بين الأغتراب والخطئية أو الأثم الذي أرتكتبه الإنسان في الجنة . فالإنسان في يومنا هذا هجر الله ، ونزعه عن نفسه وتفكير ، ونكر وجوده . لذا فالاغتراب يجب أن تتم معالجة بالعود إلى الله والخضوع لتعاليمه والأقرار بوجوده وليس في إصلاح الشرور الاجتماعية أو تبديل العالم . فالبعد عن الله ، عند المتدينين ، هو السبب في كل ما نعانيه ، من غربة واغتراب .

وأخيراً ، آن الآوان ، لنطرح على أنفسنا هذا السؤال ، هل ، نحن فعلاً نعاني اغتراب ، أو أن العالم فعلاً ، يعيش حالة اغتراب ، أما هذا الأغتراب هو ، في النهاية ، أذا بحث عن اصله ، نجده ، مجرد أسطورة ابتدعها الفلاسفة الألمان ، أم أنه واقعه تاريخية اكتشفها هؤلاء الفلاسفة ؟ فالاغتراب ، مصطلح ألماني بمتياز ، الجواب على هذا السؤال سيكون موضوع مقالتنا التالية ، إذا تمكن ، بالطبع من الإيفاء بذلك الوعد ، لمن يعيش في عالم كافكوي لا يعرف ماذا سيحدث غداً !

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here