الحاجة والدستور والمسؤولية

الكاتب: لقمان عبد الرحيم الفيلي

لعل المنصف يدرك عدم امكانية معالجة التحديات التي يواجها العراق وحكومته في مدة زمنية قصيرة، او بمجرد اتخاذ بعض الخطوات الاصلاحية هنا او هناك. إذ من المستحيل ان تعالج هذه الامور خلال عمر حكومة واحدة او حكومتين، ولابد من التفكير في مراجعة جوهرية وحقيقية للجمود الذي تعاني منه المنظومة التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية في تفعيل الملفات المهمة التي تواجه البلاد مثل الإرهاب والفساد والنظام الريعي والبطالة وقلة الإنتاج وغيرها.

دون ان ننسى ان استمرار دقات الساعة هنا لا تخدم بل انها تعقد الحالة. ولعل من أخطر مؤشرات الحاجة الى عملية تصفير للمنظومة السياسية العراقية هي هول مؤشرات الفساد، مثل العقود المزيفة والمشاريع الوهمية وصفقات التسليح التي بقيت حبرا على ورق، المدارس الوهمية و المستشفيات… الخ والتي كلها عكست توجه ماكنة الدولة نحو التوقف او التراجع و صولا الى اعلان موتها السريري في العقل الجمعي العراقي.

عند مراقبة الحالة السياسية في العراق نستطيع ملاحظة غموض تحديد من هو المسؤول عن إدارة دفة الحكم، المنظومة النيابية الائتلافية تفترض ان رؤساء الكيانات السياسية هي المسؤولة عن وضع معالم إدارة الحكومة واوليات برامجها الانتخابية. وبعدها نرى تبني الأحزاب الحاكمة لهذه البرامج وترجمتها الى تفاصيل قوانين وتشريعات في أروقة مجلس النواب ومن ثم في الوزارات الحكومية المعنية بهذه القوانين.

في نهاية المطاف نرى ان الدور الرئيس للناخب يكون بالمشاركة مرة واحدة في اختيار الكيانات والافراد التي تلبي طموحه وتتماشى مع تطلعاته. اذن المنظومة واضحة وبسيطة، فاين الخلل يا ترى؟ الجواب يكمن في قدرة الناخب على انتخاب الاكفأ والأصلح وقدرة الكيانات في تحمل هذه الأمانة.

من جانب اخر نستطيع ان نقول ان المنظومة الديمقراطية العراقية تجعل المواطن هو المسؤول الاول وتجعل الكيانات والأحزاب هي محل المُسائلة الاولى. ومن الضروري ان لا ننسى هنا دور النخب والتي تعتبر عموماً الرابط الأساسي بين الناخب والكيانات الحاكمة.

نضج النخب وقدرتها على توجيه الكيانات والناخب بالاتجاه الذي يبني العراق هي الحلقة المفقودة الان. وهنا تأتي أهمية إعادة بناء المؤسسات التعليمية لكي تستطع بإنتاج تدفق النخب الناضجة نحو الساحة السياسية للمجتمع. وقد أسهم تعطيل هذا الإنتاج النخبوي في استحواذ العقلية القبلية او الطائفية او القومية على المشروع الوطني الجامع.

طبعاً من المهم ان نفهم ايضاً آليات صنع النخب في المجتمع وليس في مؤسسات التعليم فقط وان كانت الكفاءة مثلاً هي المعيار الأهم ام ان المحسوبية والولاء الشخصي هما من المقومات المهمة لالتحاق الفرد بطبقة النخب، وبالتالي قد نصل الى نتيجة ان ماكينة صنع النخبة فيها خلل وعليه فالاتكال على النخب كوسيلة لإدارة التغيير تكون نتيجة ناقصة وتحتاج مراجعة.

في خضم كل هذا الحراك اين يكمن دور رئيس مجلس الوزراء في منظومتنا الحالية؟ في قناعتي المتواضعة أرى ان المنظومة الحالية لا تستطيع ان تجعل من رئيس الوزراء كقائد مغير بل هو أقرب الى المدير. نعم لعل هناك من يقول ان كل المنظومة الحالية لا تساعد على انتاج القائد، فالمحاصصة والمحسوبية والطبيعة الائتلافية والمعادلة الصفرية بين الكيانات وغيرها من معالم النظام الحالي من عدم مقدرة رئيس الوزراء بإقالة او تعيين وزرائه تمنع بروز القيادة القائدة بالمعنى التاريخي التغييري. طبعاً عندما يحاول أي شخص في هذا المنصب بمحاولة تجاوز هذه المحددات العائقة للعمل نرى تهمة التفرد والدكتاتورية جاهزة للالتصاق به وتقيد فعاليته.

إذا اعترفنا ان الهيكلية الحالية والعملية السياسية للدولة العراقية لا تسمح بتلبية احتياجات وتطلعات المواطن فعليه تحتاج المنظومة العراقية الحكومية الى عملية جراحية تتبعها مجموعة من المعالجات الصحية وفيتامينات مقوية في طريقة ادارتها للدولة مع ثقافة جديدة بعيدة عن المحاصصة والفساد وغيرها من خصال الثقافة الحالية السلبية لتتمكن من التغلب على التحديات الحالية او القادمة.

هذه العملية الجراحية والمعالجات والمقويات ستساعد جهاز الدولة في اتخاذ القرارات المهمة والسريعة والحيوية والتجانس بين أجهزتها التشريعية والرقابية والتنفيذية والقضائية وتحصن الدستور المعدل من مجموعة التناقضات التي يحملها في طياته الدستور الحالي.

من المفيد ان نذكر هنا ان من اهم المعالجات والفيتامينات المقوية لتطوير المجتمع متعلقة بالزيادة الافقية والعامودية للطبقة الوسطى المثقفة في المجتمع، اذ من دون كم ونوع متميز من الطبقة الوسطى فان بناء المجتمع سيتأخر وقد يتراجع وخصوصاً مع ازدياد ظاهرة هجرة العقول لخارج العراق.

دستور جامد او مرن:

نرى ان هناك تناقضا بين القواعد الثقافة السياسية التي وضعت للعراق بعد عام 2003 م، والذي تجلى في الدستور، وبين الممارسات على ارض الواقع وبالتالي أصبح الدستور أقرب الى وثيقة روائية جامدة من عقد سياسي مجتمعي مرن. وأصبح برنامجا وجدولا لأعمال القيادات المختلفة هي حماية مصالح دوائرها الضيقة بعيداً عن شمولية المجتمع، بصرف النظر عن تداعيات تأثيرها السلبية على النظام والمجتمع ككل. ونتيجة لذلك، أصبح النظام مدمرا لنفسه وغير بناء. ولعل تقدم المصالح غير الوطنية وتخلف الاولوية الوطنية وتجذر ثقافة المجموع صفر هي من الأسباب في اختفاء روح النظام الذي وضع بعد 2003م.

وهنا من المؤسف ان نسجل ان طريقة ادارة الحكم عكست للمراقب بان أطراف هذا النظام في حقيقته اتفقوا فقط على إسقاط الجمهورية السابقة وعدوانيتها ولم تكن لهم هناك رؤية مشتركة حول ما ينبغي أن يأتي بعد ذلك وبالتالي صعوبة تطبيق ما اتفق عليه في وثيقة دستور 2005. يمكن وصف الدستور العراقي الحالي بالدستور الجامد وذلك لقرب استحالة تغييره فنياً وعملياً وليس نظرياً.

هنا يأتي السؤال عن سبب وجذور هذا الخلل العملي والذي أدى الى التعطيل العملي لتطور جهاز الحكومة والمنظومة السياسية والتشريعية والتنفيذية الحالية. ضعف الحركة الدستورية أدى الى شلل الجهاز التشريعي وتعطيل القدرة على سن التشريعات المهمة مثل قانون النفط والغاز وتفعيل المادة 140 والاحصاء السكاني والمجلس الاتحادي وقانون المحافظات.. الخ. هذا الاشكال جعل الكثير من الأطراف السياسية تتجاوز على روح الدستور ويتمسك ببعض بنوده على حساب المصلحة العامة للمجتمع.

لذلك من الضروري ان يُعاد النظر بالدستور وتحويله من دستور جامد الى دستور مرن وبسيط يلبي الاحتياجات الأساسية للمواطنين بمشاربهم وخلفياتهم الاثنية والعرقية كافة… الخ.

اكيد ليس من المستحيل من ناحية الاجراءات تغيير الدستور الحالي ولكن الواقع العملي للعقد الأخير يعكس شبه استحالته، وذلك في ظل الانقسام والتوافق على هذا الانقسام وبوجود الطبقة التي استفادت من الوضع الدستوري الهش والعرف السياسي الذي شجع على ترك الإصلاحات الدستورية الضرورية.

هنا نرى من الضروري ان يعاد النظر في طبيعة التحالفات وتحويلها من تحالفات تكتيكية انتخابية آنية الى تحالفات استراتيجية تدور حول برنامج سياسي متطابق ومعتمد على إصلاحات دستورية لطبيعة النظام السياسي الحالي.

المسؤولية على من؟

بعد 2003، يرى المراقب لنظام الحكم العراقي اشكالية كبيرة بخصوص اعتراف النظام الحالي بالخطأ داخل منظومة حكمه وخصوصاً في شؤون إدارة الدولة السياسية والأمنية والاقتصادية، اذ تلقي الحكومة التنفيذية مثلاً باللائمة على السلطة التشريعية والتي بدورها تلوم السلطة التنفيذية وكلاهما قد يلومان السلطة القضائية في بطء تعاملها مع ملفات مهمة مثل الفساد او الارهاب.

وهناك اتهامات سياسية بسوء إدارة الدولة بين الكتل السياسية والاحزاب نفسها، وفي الوقت نفسه نرى الشعب يلوم الطبقة السياسية بأكملها في عدم تقديم نموذج للدولة المدنية العصرية المتحضرة خاصة في ظل توفر عناصر لم تكن متوفرة للنظام السابق مثل القبول والدعم الدولي والاقليمي للعراق ما بعد 2003. ان مكامن الفشل مرتبطة بكل الأطراف المهمة ولا نستطيع ان نلقي باللائمة على طرف واحد ونترك طرفا اخر.

صحيح كل طرف يتحمل حسب حجمه ومقدرته بالتحكم باليات وامكانيات ومؤسسات الدولة. من جانب اخر، يعتبر هذا الفشل فرصة لتحوله الى نقطة قوة من خلال المراجعة الشجاعة وإعادة النظر بالمنظومة الإدارية والهيكلية للدولة بالإضافة الى مراجعة الثقافة السلبية المتجذرة في التعامل مع موارد الدولة كبقرة حلوب. اذ نرى مثلا من خلال الاحاديث الصحفية او المتلفزة للمسؤولين ضعف وجود ثقة لديهم بمستقبل نظامهم السياسي او ضعف ثقتهم بشركائهم السياسيين مع اعترافهم ان المنظومة الحالية سوف لا تخلق أحزابا مهنية قوية او حتى تحدد من عددهم وقوة تأثيرهم.

هذا الإحباط يشبه ما حصل في نهاية العهد الملكي، وما حصل في السنوات الأخيرة السابقة على سقوط نظام صدام حسين ولعل هذا المستوى من اليأس لم نستطع ان نعثر عليه إلا حين تكون دورة الحياة السياسية للأنظمة بلغت نهايتها او تعيش موتاً شبه سريري.

وقد تفاقمت هذه الخطيئة الديموقراطية والموت الشبه سريري بفساد النخبة السياسية (بمجموعها ولا اقصد بكل أفرادها) في العراق، وهذه العملية التي أمكن تحقيقها نتيجة لحمايتهم من قبل الولايات المتحدة (من عام 2003 إلى عام 2011) من العملية الانتخابية الحقيقية أو الضغط الشعبي (اَي من أسفل إلى أعلى).

وما ساعد على تفاقم هذه الخطيئة هي ان السياسيين العراقيين أنشأوا نظاما لا يضطرون فيه إلى دفع ثمن سياسي لأخطائهم أو سوء ادارتهم، اذ ان النظام مع موازنة القوى مكدسة لصالحهم. ولهذا السبب فانهم ممكن أن يجلسوا فوق كرسي السلطة مع عدم وجود علامة حقيقية على إزالتهم عن طريق السياسة الانتخابية. وهنا يأتي السؤال ان كان النظام الرئاسي قادرا من إصلاح هذا الواقع؟ وقد يرى الاخر إمكانية استحواذ الرئيس في حال تغيير المنظومة الى رئاسية وجعلها أقل مساءلة، ومن يضمن ان إجراء انتخابات رئاسية (وبرلمانية بديلة كل سنتين) قد تؤدي إلى حلحلة هذا الجمود؟

من الضروري ان لا ننسى ايضاً الدور المهم والمؤثر للمجتمع الدولي، وبالخصوص بعض الدول التي لها تواجد سياسي وعسكري في العراق (مثل الولايات المتحدة الاميركية وجمهورية إيران الإسلامية)، وإمكانية تأثيرها وتأثُرها على شكل نظام الحكم في العراق وتغييره الى الافضل. من جهة أخرى، لا نستطيع ان ننظر لمعادلة تغيير نظام الحكم في العراق من دون إدراك طبيعة الواقع الجيوسياسي والجيواقتصادي للعراق والمنطقة وطبيعة التحالفات المستقبلية والتي من الممكن ان تدعم أو تضعف النظام السياسي في العراق أو تعمل على إمكانية تغييره أو تطويره وتحسينه؟

الملاحظة المهمة هنا هي ان المبادرة للتغيير وبأيدي عراقية بعيدة عن التدخل الخارجي هي أفضل وأسلم وأسرع طريقة لإدارة التغيير.

لقمان عبد الرحيم الفيلي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here