وطن البراغيث..

نظيف مصقول كالماس، لا يفتأ ونفسه تأنقا وألقا، هكذا عُرِفَ عنه، الرجل اللامع القادم من الخارج ببطاقة تسوية ومساومة، كل يوم قبل أن يدخل مكتبه يسأل عامل النظافة هل رششت مبيد الحشرات والبراغيث إضافة الى ملطف الجو؟ فأنا اعلم جيدا كما انت أن مكاتبنا تابعة وبالقرب من معمل لكبس النفايات وهذا ما يسبب لي الفزع والرهبة، ولولا قلة فرص العمل لما رضيت بهذه الوظيفة… فارجوك ان تتخذ الحيطة اللازمة لمعالجة هذه المسألة، كما تعرفني اغدق عليك فقط من اجل هذه المسألة…
عامل النظافة: نعم استاذ لقد قمت باللازم وشكرا لإهتمامك بي، ولأني احترمك واعرف علتك ما أعرتك أي أهمية، فشأنك والآخرين، لكني اشعر بأنك من طينة نادره ذات ظهر غير طينة البشر..
شكرا لك ولرأيك الصريح.. دخل مكتبه وشم عبق معطر الجو مدققا بما يحيط به من اجواء، هز رأسه وَبرم بشفاهه قائلا: هكذا أكون بمأمن من لدغة حرمس او ذبابة أزازة تأز حيوانية كانت أم بشرية حتى تورثني الخبل.. كم اكره الحرامس الطنانة منها والأزازة.. ولا انسى المراجعين الذين يعملون في معمل كبس النفايات حين يأتي نهاية الشهر لإستلام وصولات رواتبهم مني، ثم تطلع نحو الشباك والواجهة الزجاجية الذي امامه وهو ما اشترطه على مرؤوسه ان يوجده تفاديا لدخول عمال المعمل حيث يراهم ويرونه دون دخولهم المكتب، وقد لبي له هذا الطلب كونه من الموصى بهم من جهات عليا، ناهيك تأنقه ونظافته كواجهة للمكتب، شرع في عمله وهو يتصفح وريقات امامه يدقق فيها ويد اخرى على جهاز الحاسوب ليورد الحسابات الشهرية ليتأكد من جاهزيتها فقد اقترب الشهر على نهايته وهذا بحد ذاته يسبب له أزمة كبيرة، يستمع الى موسيقى شوبان ليعرج بعيدا عن عالمه الرقمي يرتقي سلم الموسيقى بهمهمة يحلق وإياها بعيدا عن الارقام والحشرات.
شاءت الحاجة الحياتية ان يفاجئ يوما بوجود شخص كث الشعر، ذو ذقن طويلة جالسا في مكتبه، جن جنونه فنادى على عامل النظافة ماهذا؟؟ ومن ادخله الى مكتبي؟ هل جننت حتى تفعل ذلك؟
العامل: حقيقة لم أعلم كيف دخل؟! ومن ادخله؟ إني مثلك اشعر بالاستغراب!!!
بات في حيرة من امره، ماذا يفعل؟؟ فقال على عجل للعامل.. ادخل وأخرجه عن مكتبي، لكن بعد ان ابتعد عن هذا المكان، وما ان تخرجه حتى تعود لتطهير مكتبي وإلا؟؟
لم يستطع العامل فعل أي شئ، تمسك الرجل بكل قوة وعناد بعدم الخروج حتى يرى صاحب الحسابات وجها لوجه ويخبره عن مشكلته، دار لغو وهرج تدخل الجميع في محاولة لإخراج الرجل لكن سياسة المعمل تتطلب ان يعامل الجميع بنفس المستوى كما يشاع عنها من احترام إنسانية الجميع مهما كان موقع عمله ومجاله.. لذا طلب رئيسه منه ان يقابله باحتراز واقترح وضع كمامة ولبس قفازات طبية تقيه ما يخاف، هذا ما يمكنه ان يقدمه له ليقوم بواجبه.. كما علمت ان هذا الشخص هو من اقدم رجالات المعمل وله من التابعين الكثير، كما هو مؤثر في نقابة العمال والعمال انفسهم، اي بإمكانه زعزعة الامور، فحاول لملمة موضوعه وفهم اين مكمن الخطأ، لتصوبه انت او أنا او اي من تقع على كاهلة مهمة التصويب..
هز رأسه المتأنق ثم دخل بحذر شديد، جلس على مسافة تبعد عن الرجل وقال له: ما مشكلتك؟ ومن مكانك لو سمحت فأنا مصاب باللإنفلونزا وهي معدية كما تعلم..
قال الرجل: لا أطيل عليك لقد قضمت الأرضَةَ والحشرات او الفئران وحتى البراغيث لا اعفيها هههههه لا اعلم اي حيوان هوية الصرف التي استلم بها راتبي، واظن انك المسؤول عن تلك المصيبة أليس كذلك؟؟
استغرب!! بعد أن سمع كم الحشرات التي لايطيق وخاصة البراغيث.. ثم أجاب انا المسؤول!!؟ كيف لي ان اكون مسؤولا عما حصل لك هل جننت؟؟؟
الرجل: قصدت ذلك ضمنا بعد ان حك رأسه بقوة.. لكن سياقا للحديث قصدتك.. فأنت المسؤول عن استخراج البديل عنها خاصة ان الشهر قد شارف على الانتهاء..
اقشعر بدنه وهو يشاهد الرجل يحك شعر رأسه، تخيل كم ما يخرج عنه من براغيث وحشرات رافقته العيش في شعر وجسد.. يا إلهي!! إن رائحته تزكم انفي رغم وجود الكمامة، سارع الى ملطف الجو فقام بحركة لا إرادية برش مكان جلوس الشخص ولا شعوريا رشه ايضا، شعر بإلأهانة والامتعاض فصرخ.. هل جننت؟؟ او تحسبني قمامة لترش علي ملطفك هذا؟ من تظن او تحسب نفسك؟؟
الاستاذ: عذرا لم اقصد لكني تصرفت دون شعور، فأرجو المعذرة، إن رائحتك مقرفة يا .. سيد وهذا ما لا أطيقه فهل يمكنك مراجعتي بعد ساعتين ومن خلال ذلك الشباك .. مشيرا بيده
الرجل: يبدو انك لم تعترك الحياة ومترف، لم تلبسك اسمالها او تلقف قفاك بصفعات تلقن نفسك المتعالية درس التعامل بإنسانية.. يبدو انك كالحشرات الممتصة ايضا
الاستاذ: ممتعض با لعا التشبيه لا.. لم ُتصور المسألة بهذا الشكل، إني مصاب بمرض الرهبة من البراغيث والحشرات، وهي حالة نادرة جدا اصبت بها منذ صباي ولا زمتني هذا كل ما في الأمر يا سيد.. لذا عفوا لم اسمع جيدا عن سبب إضاعة هوية الصرف قلت ان الحشرات او الارضة والبراغيث أكلتها؟؟
الرجل: يبدو ذلك.. فالغرفة الموبوءة التي نجلس فيها فترة الاستراحة قد أكلت الأرضة جدرانها تلك التي عادة ما نعلق ثيابنا حين تغييرها، ويبدو اني نسيت اخذها معي كما هو الأمل، افتقدتها اليوم حين شارف الشهر على الانتهاء وبعد بحث تذكرت اني قد نسيتها معلقة مع قميص لي ارتديه بعض الاحيان للعمل.. على العموم ليس الأرضة او الجرذان والحشرات تكرهني الحياة نفسها تفعل ذلك بعد ان اقحمتني للعيش معها سنينا، باتت ترافقني الفراش والملبس والجسد، حين واكبت فترة مظلمة في السجن المؤبد فاعتادت علي واعتدت عليها.. لا تخف كنت مسجونا سياسيا، لذا لا استبعد مشاركتها لي في راتبي الشهري، وربما فعلت ذلك لشعورها بأني نسيتها وهي تعيش معي و الواقع ههههههههههه وخلافا لذلك لا ادري سببا آخر لقرضها.. سأخرج واعود بعد ساعتين، أأمل ان اجد هوية الصرف قد جددت بأخرى.. اخرج المقروضة واقترب ومد يده ليسلمها .. غير ان المحاسب قفز بعيدا وهو يقول:
الاستاذ: لا عليك يا سيد فقط اتركها على سطح المكتب هناك…هناك فقط
ههههههههههه ضحك بشدة الرجل يا لك من مريض مخبول، يا ترى كم يمكن للبراغيث الاستمتاع بجسدك الطري هذا؟ آه لو أن هناك قاعدة للحياة لحكمت على الجميع ان يعتاشوا فترة الظلمة والحاويات والحشرات وقاذورات حيوانية فقط ليشعروا بقيمة النعمة التي يفتقدها من رامتهم الحياة حشرات وبراغيث لها..
الاستاذ: صرخ بمجرد ان خرج الرجل، تعال الى هنا مشيرا الى عامل النظافة بسرعة البرق نظف وطهر المكان، ارمي هذا الكرسي الى الخارج هل سمعت، وقبلها طهر بقايا الهوية السمجة قبل ان اقرأ بياناتها هيا بسرعة..
بعد انقضاء الساعتين عاد الرجل دافعا الباب إلا انه كان مغلقا من الداخل، شاهده الاستاذ وقد اشار له بالتوجه نحو الشباك وقد امتثل، فقال:
لقد انجزت لك البديل تفضل يا هذا، وقد مد يده بحذر رغم اتخاذه الوقاية، إلا ان الرجل امسك بيده معلقا:
كل ماعليك ان تخافه هو البراغيث والحشرات البشرية، تلك التي تقضم عمرك وحياتك دون ان تسمح لك بحرية التعبير او المطالبة بحقوقك كأنسان، إنهم يخمدون الأمل في صدور امثالك، يشيعون العدالة العمياء بصور دينية وخزعبلات يصدقها الجهلة والسذج، أما امثالك فيزرعون الرعب في قلوبهم مصورين امثالي باننا وباء مستشري كالطاعون او براغيث يمكن ابادتها بالمبيد البشري المرتزق الذي يستخدمونه ترهيبا، قمعا واغتيال.. اني حزين عليك واشعر بأنك مأساة عالم لا يعرف في اي نائبة يزرعك.. عليك وعلى امثالك اللعنة، كم اتمناك صارما رائعا رجلا كتأنقك أيها البهرج الخداع كعالم سياستنا العرجاء.. إنهم يجمعون البراغيث والحشرات امثالي يحتوها في ما يسمى وطن، ثم يطلقونها بفتوى ما للقضاء على ما لا يستطيعون مجابهته رغم انهم هم من جلبوا الوباء للقضاء على القيمة الإنسانية وهتك الحرمات.. عليك اللعنة مرة أخرى وأتمنى ان لا أرى وجهك مرة ثانية فالوطن بمثلك مريض.

بقلم / عبد الجبار الحمدي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here