يتسائل داروين : كيف يبدو مستقبل الانسان ؟ ح 25

(*) د. رضا العطار

لو ان انسانا من عالم آخر زار الارض قبل مائتي مليون سنة حين لم يكن في البحار سوى الاسماك وما هو ادنى من الاسماك ولم يكن على اليابسة شئ من الحيوان مطلقا، ثم قيل له انه بعد مائتين مليون سنة ستتحول زعانف بعض الاسماك الى ايد وارجل وتصبح لها رئات تتنفس بها الهواء مباشرة ثم يخرج السمك الى اليابسة فيمشي ويتسلق الاشجار ثم تتطور هذه الأيدي الى اجنحة فيطير في الهواء، لظن ان صاحبه يهذي، حيث وجد هذا الكلام في غاية السخف بل الجنون بعينه.

نقول هذا تحذيرا للقارئ حتى لا يستبعد شيئا يقال عن مستقبل الانسان بعد ملايين السنين الآتية، فان سنّة التطور لم تقف، وان كانت وجهته قد اختلفت عما كانت عليه قبل الانسان، حيث انه كان خاضعا في بدايته الى قانون تنازع البقاء، يستأصل منه ضعيف الجسم او العقل او العاطفة ويعمل الاستئصال لرقيه. ثم طرأت عليه الحضارة فسهل العيش على عدد كبير منه، كان مقضيا عليهم، لو انهم كانوا يعيشون بغير وسائل الزراعة التي يسّرتها لهم الحضارة.

لقد كانت وجهة التطور قبل ان يتحضر الانسان تنحو نحو ترقية جسمه وعقله بأحداث تعديلات فسيولوجية في تركيب اعضائه حتى يوافق الوسط الذي يعيش فيه على نحو ما يحدث للحيوان او النبات الان، ولكن عند ما بدأ الانسان يتحضر صار يسيطر هو على الوسط بدلا من ان يخضع له.

كان البشر في بداية نشوءه عاريا، فاذا اشتد البرد وقسا، ابيد معظم افراده، بحكم الانتخاب الطبيعي، فمن كان كاسيا بالشعر اكثر من غيره احتمى به وتحمل البرد وعاش وان انجب واورث نسله صفاته في حين كان يموت غيره، اما في عصر الحضارة فانه عند اشتداد البرد يحمي نفسه بمنزل يأوى اليه او بفراء حيوان او الملابس المنسوجة من النبات وقل مثل ذلك في سائر الاشياء.

فالانسان اذا لم يوافقه الوسط، عمد الى عقله ليفكر في تغييره حتى يوافقه، في حين ان الوسط كان قديما يؤثر فيه ويعمل على تعديل جسمه بما يوافقه. ولو كان كل منا يستعمل عقله في جعل الوسط موافقا له لما كانت الحضارة عائقا عن التطور وكل ما يكون في الامر عندئذ ان التطور كان ينتقل من الجسم الى العقل، ولكن الحقيقة ان واحدا في المليون تقريبا يهديه ذكاءه الى طريقة للتغلب على الوسط فيستفيد منها سائر المليون بدون ان تكون لهم اية ميزة تستدعي بقائهم.

فالحضارة اعاقت التطور بعض الشيء ولكنها لم توقفه بشكل كامل، اذ لا يزال تنازع البقاء يقتل منا افرادا بالسجن والتشريد والمرض والبلاهة ويُبقي افراد آخرين. ثم يجب ألاّ ننسى ان حالة الوعي هي حالة جديدة في الانسان ليس هناك ما يدل على انها موجودة عند الحيوان الا بمقدار محدود. فنحن نشعر بما نفعل ونشعر بوجودنا الشخصي. لنا امس ولنا غد بل منا من يسرف في الاحساس بحالة الوعي هذه ويحسب لما بعد الموت حسابه، فهذا الاحساس العقلي بانفسنا لا تشعر به البهيمة وهو آخذ في الازدياد فينا وسيخرجنا في المستقبل من حياة الغريزة الى حياة التعقل.

فنحن الان نتناسل بحكم الغريزة وان كان بعضنا وهو النادر يحكّم عقله، ولكن حكومات المستقبل ستعرف قيمة التناسل فتجعل قاعدته القصد لا الغريزة وتقصره على فئة خاصة من الناس تجد فيها ما ترغب في ان تحصل عليه الذريات القادمة. فاذا بلغ بنا العقل ان نصنع التناسل موضع القصد والنظام بدلا من ان نجري فيه اعتباطا بوحي الغريزة كان لنا منه في الحضارة من الانتخاب الصناعي ما يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في الحالة البدائية الاولى وعندئذ يرتب الزواج بطرق تضمن رقي الانسان السريع.

ليست قوانين الوراثة معروفة كلها الان ولكن عرف منها قانون – مندل – وهو بلا شك اقوى اداة في المستقبل لأيجاد السلالات الجديدة من الانسان وان كانت لا تزال اشياء كثيرة منه مجهولة. وليس يمكن الجزم بنوع الزواج في المستقبل البعيد. فهل سيتم بهدف تأصيل الانسان كما يؤصل الحيوان طبقا لقانون مندل. وهو اهم ما عرف في الوراثة. ولا شك في ان تقوية العقل وتنقية العواطف وصحة الجسم من الصفات التي سيتجه اليها نظر المربين للأنسان، ويمكننا ان ننظر الى انسان المستقبل بعين الخيال فنجد اضخم ما فيه راسه يقوم على عنق قصير ضخم واكتاف قوية اما الجسم فيكون قصيرا ضامر البطن نحيف الاطراف، فاقدا اظافره.

كان الانسان في بداية تكوينه ذو جمجمة صغيرة، تسع لعقل صغير، لكن عندما كبر عقله بعد دهور طويلة من الزمن, عبر مئات الالوف من السنين، كبرت جمجمته طبقا لذلك.

اما من حيث العواطف فأنسان المستقبل سيختلف عنا اختلافا كبيرا لان الغرائز ستضعف فيه الى حد الانعدام تقريبا فهو لن يعرف الغضب اوالخوف او التحاسد اذ هو سيتناسل عن عقل لا عن غريزة. اما الغيظ و الغضب والحقد والشك فهي صفات سائرة الى الزوال لانه لن يعود لها فائدة في المستقبل. فقد كانت هذه الصفات تنفعه في الماضي في حياة الغابة. فكان الخوف انذارا للفرار وكان الغيظ يحرك فيه الرغبة في التغلب على خصمه وكان الغضب يخيفه ويرده عن قصده.
الى الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

*مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here