كما يرويها د. صبحي ناظم توفيق
كنتُ ضابطاً خافراً في غرفة التشريفات بالقصر الجمهوري بعد إنتهاء الدوام الرسمي بعد ظهر يوم الأحد 6/12/1964
كان رئيس الجمهورية ( عبد السلام عارف ) قد طلب حضور ” الأستاذ عبد الرحمن البَزّاز ” سفير العراق في “لندن” القادم إلى “بغداد” بمناسبة عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، والذي يشغل في الوقت نفسه منصب السكرتير العام لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ورئيس الوفد العراقي المفاوض مع شركات النفط العملاقة العاملة في العراق، وذلك في مكتبه الرئاسي لمناقشة بعض الأمور في تمام الساعة السابعة مساءً
لمْ أَستقبل الأستاذ “عبدالرحمن البَزّاز” -الضيف الوحيد في ذلك المساء ذي النسيم البارد- لدى دخوله الى القصر الجمهوري، فقد كان أحد مرافقي الرئيس بإستقباله لدى البوابة الرئيسة… ولكن في حدود الساعة الثامنة مساء طرق سمعي كلام مُنَمَّق ومُعمَّق يطلقه شخصٌ ما في الممرّ المؤدّي من الجناح الرئاسي إلى الباب الجانبي لمبنى القصر قرب غرفة التشريفات، ولمّا نهضتُ شاهدتُ الأستاذ “البزاز” متحدّثاً و”عبدالسلام عارف” مستمعاً، وذلك قبل أن يخرجا إلى الساحة المبلَّطة التي تطلّ عليها نافذة غرفة التشريفات، ليظلاّ ذاهبَين آيبَين على مقربة من النافذة التي كنتُ قد فتحتُها مسبقاً لغرض التهوية للجو الساخن الذي إستشعرتُ به بتأثير أجهزة التكييف المركزي، على الرغم من برودة طقس العراق في تلكم الأيام من فصل الشتاء, ولما كنتُ معجباً أشد الإعجاب بشخص “الأستاذ البزاز” ودرجة الدكتوراه في القانون التي يحملها -حسب إعتقادي في حينه- فقد زاد فضولي، لأتحوَّل كلّياً الى آذانٍ صاغية فأسجل رؤوس نقاط قد أفيد منها :
عن التأميم في العراق والإصلاح الزراعي
-أنت تعلم يا “حجي” مواقفي السابقة أزاء التأميم والإصلاح الزراعي، سواءً خلال العهد الملكي أو أبان حكم “عبدالكريم قاسم”، ولكني أشدد أن الخطوة التي إتخذتموها بصدد التأميم قبل (5) أشهر كانت خاطئة وغير مدروسة… فالعراق المُعاصر الذي تأسس (عام1921) دولةٌ لم تكن رأسمالية مطلقاً كي نطبق الإشتراكية في ربوعها ونُؤمِّم مصالح الناس لديها، فقد تملكت جميع المصالح الأساسية لتسيير إقتصادها الوطني على أكمل وجه، فالقطارات حكومية والخطوط الجوية كذلك، ومصلحة نقل الركاب والبريد والتلفونات والطرق البرية والجسور والمستشفيات الكبرى والمدارس والكليات والموانئ والسفن الكبيرة كلها تابعة للدولة، ورؤوس أموالها تبلغ عشرات الملايين لكل مؤسسة على حدة… إذنْ، فهل كان هناك داعٍ لتأميم مصانع غزل ونسيج وشركات صغيرة ومعامل متواضعة لا يتعدى رأسمال كبراها مليون دينار واحد فقط من تلك التي كانت تزوِّد السوق العراقية بمنتجاتها البديعة وتُصدِّر الفائض منها الى الخارج، فتُعيل بذلك آلاف العمال والموظفين وعوائلهم وتُشارك في القضاء على البطالة التي لم يعد لها وجود في العراق… إعملوا إحصائية منذ الآن، أو مع مطلع السنة الجديدة، لتَرَوا النقص الذي سيبرز في إنتاج تلك المعامل والشركات، ولاحظوا الخسارة الكبيرة التي أصابت أو ستُصيب العراق من جراء التأميم… والحقيقة الأهم أن الموظف أو العامل عندما يتيقَّن أنه مُصانٌ بالقانون وراتبه مضمون فربما يتحوَّل إلى إنسان غير مسؤول، وأنه إذا ما تمتّع بإجازات طويلة أو لم يتمتع، وإن أجاد العمل أو أخفق، فإن راتبه الحكومي يتسلّمه حتماً، وذلك ما يحقق له ما يبتغي من معيشة لائقة، لذلك فلا يرى حاجة ليُرهِق نفسه في الإنتاج ولا يخشى من الطرد أو الإقالة
وأقولها لك صراحة، أن الذي توصّلتُ إليه، أنكم أقبَلتُم على خطوة التأميم وإتخذتموها سيراً على ((المودة/التقليعة)) التي إجتاحت البعض من دول العالم النامي، وأنكم تأثرتم بالتجربة المصرية في هذا الشأن، فما دام الرئيس “جمال عبدالناصر” قد أَمَّمَ فإنكم أمَّمْتُم، وأنه ما دام قد إتّخذ الخطوة الفلانية، فإنكم يجب أن تقلّدوه
كان عليكم -يا أبا أحمد-قبل كل شيء، أن تدرسوا بعناية ما آل اليه التأميم من نتائج في “مصر” وما أحدثه من وَيلات وإنتكاسات في المجتمع المصري وإقتصاده قبل أن تُؤمِّموا وحتى بالنسبة لـ”الإصلاح الزراعي” -والذي أنتَ غير مسؤول عنه- فقد بات وَبالاً آخرَ على العراق، فبلدنا الذي كان مُصَدِّراً لأنواع الحبوب والسمسم والأذرة وغيرها، ومن بعدها “الماشية” المرتبطة في الأساس بالزراعة، فإنه أصبح مستورداً لها… ودعني أعطيك مثالاً بسيطاً، ولكنه خطر جداً في نتائجه، فـ”القاهرة” التي لم يكن تعداد نفوسها يزيد عن “مليون واحد” من البشر عام (ثورة يوليو1952) فقد أمسى الآن يقارب (7) ملايين أو يزيد، ليس بسبب الزيادة التي طرأت على السكان التي يزعمونها، بل بتأثير هجرة الناس إلى “القاهرة” من جراء الفشل الذي أصاب الزراعة في الريف المصري وتوقّف العمل في المصانع والمعامل بالمدن الأخرى وإخفاق الدولة في إدارتها، ما جعل العامل والفلاّح يتحوّل من ((مُنتِج)) الى ((مُستهلِك)) يبحث عن لقمة عيش له ولعائلته لقاء أية خدمة متدنية يؤدّيها أو بيع مواد جاهزة على الأرصفة، وبات يعيش “فوق السطوح” أو في غرف منفردة وصولاً إلى المبيت في الدرابين والأزقّة وما بين المَوتى وسط المقابر… لقد كان “الإصلاح الزراعي” وبالاً وبِدعة، وكل بِدعة ضَلالة، وكل ضَلالة في النار
Read our Privacy Policy by clicking here