أنا وصدام حسين ـ السندباد الترجمان

خالد القشطيني

اعتاد نظام صدام حسين على عقد مهرجان شعري كل سنة يعرف بالمربد، وكان يقام في موقعه التاريخي، مدينة البصرة. وهو بعث لتلك المأثرة من التاريخ العربي. فبعد ظهور الإسلام وانتشار المسلمين في الأمصار، اضمحل شأن سوق عكاظ وزال من الوجود. ولكن حل محله هذا الأثر المجيد على بعد ما يقارب ثلاثة أميال من البصرة، وربما في ديار الزبير، المعقل لانطلاق الفتوحات الإسلامية شرقاً.
وقد سمي المكان بالمربد، نظراً لأنه كان موقعاً لتجميع الإبل، أي تربيدها. وحيثما سار العرب سار معهم ديوان الشعر. فبعد انقراض سوق عكاظ توجه أهل الأدب والشعر إلى هذا الموقع في العهد الأموي، وحولوه إلى سوق لما سمي بشعر النقائض. وكان ممن ارتاده الفرزدق وجرير. وفضلاً عن الشعر، تحول في العهد العباسي إلى موقع للمعرفة والأدب. فكان ممن ارتاده الفراهيدي والجاحظ والمقفع والكندي وسواهم من كبار أهل العلم والمعرفة.
خطر لأدباء العهد الصدامي، وبصورة خاصة الشاعر والأديب شفيق الكمالي، محرر مجلة «آفاق عربية»، أن يحيوا هذا الجزء المندثر من تاريخ العراق فأسسوا هذا التقليد، وهو مهرجان المربد، أولاً في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد. ولم يفت على صدام حسين أن ينشر رعايته لهذا الحدث. واعتاد على إلقاء كلمة في المناسبة.
«أستاذ خالد. يريدونك اليوم أن تترجم للإنجليزية كلمة السيد الرئيس التي سيلقيها بالمناسبة»، قالت لي إحدى موظفات وزارة الإعلام. وكانت كل كلمة نطقت بها ضربة موجعة هزت أعصابي. وكان خوفي طبعاً من أن يتكرر الطلب، اليوم كلمته في مهرجان المربد وغداً خطابه في الكلية الحربية، وتتكرر الطلبات حتى أجد نفسي سجيناً معتقلاً في العراق من حيث لا أدري ولا مخلص لي منه. فبقدر عشقي لبغداد كان قلقي من أن أكون سجيناً فيها.
«آسف يا سيدتي. فأنا مغادر غداً إلى لندن. وحجزت مكاني في الطائرة، وأحتاج بعض الوقت حتى أسلم على أهلي وأصحابي هذه الليلة».
«والله ما أدري. قل لهم ذلك. يعني ممكن يغيرون لك موعد الطيارة».
جلست في مطعم الفندق، ورحت أردد مع نفسي كل ما قيل عن هوى نهر دجلة وسماء بغداد. وكم جرني ذلك العشق إلى المغامرة في اختراق هذا السجن الكبير لصدام حسين لمجرد الشوق لأسواق بغداد وشواطئها ولقاء أصحابي وأنسبائي فيها على وجبة من وجبات السمك المسقوف. يلعنك الله يا سمك بغداد.
«أستاذ خالد، أكيد راح تحضر ندوة اليوم. تسمع قصائد كثيرة. عبد الرزاق عبد الواحد وغيره. لكن مع الأسف الرئيس ما راح يلقي كلمة اليوم».
يا روحاه! لن يتكلم الرئيس ولن يكلفوا هذا العبد البريء بشيء. سأركب طائرتي وأرحل بسلام. وكانت آخر زيارة لي لمدينة صدام ومربدها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here