ماذا قالت “أم كلثوم” عن رياض السنباطي؟

ياسر عبد اللطيف

إذا تكلثمت فتسنبط! قرأت هذه العبارة ذات مرة على لسان سميع سوري، لا أذكر تحديدًا من كان. ربما كان خطاطًا حلبيًا شيخًاـ أو أستاذًا للأدب. ولكننى فهمت تمامًا ما يعنيه أخونا الشامي، وأنا أيضًا من مذهبه. أعرف سمّيعة خبراء يقيمون الأداء على أسس علمية ينحازون لتجربة السيدة مع الشيخ زكريا أحمد، ويرون فى إنتاج السنباطى جمودًا ومحافظة على مقاس قيم الطبقة المتوسطة. وينحاز آخرون من نفس الفصيلة الاختصاصية لعبقرية القصبجى التحديثية التى – من وجهة نظرهم – تفوق وتسبق تجربتى سيد درويش وعبد الوهاب، وربما فى ذلك بعض الصحة.

من وجهة نظرى المتواضعة فالسنباطى هو من صاغ قوام التجربة الكلثومية فى شكلها الأكثر تبلورًا ونضجًا، لا من حيث الكم فقط، والسنباطى بين ملحنيها الثلاثة الكبار، يحوز نصيب الأسد فى عدد الألحان التى غنتها (91 لحنا، مقابل 69 للقصبجى و56 لزكريا)؛ لكن أيضًا من حيث الكيف، إذ صاغ لها الشكل الذى حافظت عليه طوال ثلاثين عامًا، وألزم الملحنين الذى عملوا معها بعده بما وضعه.
عرف رياض أم كلثوم منذ صباهما – وهى تكبره حتمًا ببضع سنوات  أو ما يزيد قليلا- إذ كان والداهما، الشيخ محمد السنباطى والشيخ إبراهيم البلتاجى زميلين من منشدى التواشيح الصييتة فى قرى الدلتا، خصوصا منطقة الدقهلية. ويحكى رياض عن لقائه الأول بها إذ تقاطع طريق الوالدين على إحدى محطات القطار الريفية، عند عودتهما من حفلى عُرس بقريتين متجاورتين، يصحبهما النجلان الموهوبان. وكان الفتى رياض كالفتاة فاطمة قد شرع فى الغناء بصحبة والده فى الليالي، وذاع صيته فى القرى حتى عُرٍف بـ “بلبل المنصورة”. فيما كانت أم كلثوم قد تخطّت ذلك النطاق الإقليمى بزيارات للقاهرة وحفلات هناك أدهشت وجهاء العاصمة بقوة حضورها وصوتها على الرغم من اللباس البدوى الصبيانى الذى كانت تتخفى فيه. وستمرّ السنون، وتستقر ابنة السنبلاوين فى القاهرة لتخلع عنها لباس البدو وتصير شابةً لا ينقصها الحسن، بحضور طاغ وذكاء متقد وموهبة لا حدود لها، ترتقى بوتيرة متسارعة سلم النجاح والشهرة. وسينتقل رياض مع أبيه إلى القاهرة أيضًا عام 1928، وربما فى ذهنه نموذج نجمة الدلتا التى توهّجت فى العاصمة. وسيذهب للدراسة فى معهد الموسيقى العربية فتدهشهم كمية الموشحات التى يحفظها عن أبيه وقدراته فى العزف على العود، فيعينوه مدرسًا للآلة ليتخرج على يده عازفون كفريد الأطرش مثلا. ثم يمتهن التلحين والغناء عندما يتم افتتاح الإذاعة الحكومية عام 1934. وعن طريق الإذاعة يسترد علاقته بأم كلثوم، فيحصل على رقم تليفونها من هناك، ليهاتفها فى إحدى الليالى عقب سماعه لإحدى وصلاتها فى الراديو. سيذكرها بنفسه وبذلك اللقاء فى الفجر، فتتذكره وتتذكر والده، وتنهى المكالمة بعبارة “ابقى خلينا نشوفك يا أستاذ رياض. ما دام إنت فى مصر وأنا فى مصر”. ليبدأ بعدها تعاون سيستمر ستة وثلاثين عامًا. كان ذلك فى 1935. وطوال ما يربو على العشر سنوات سيقدم لها عددًا من الألحان الناجحة كـ “على بلد المحبوب وديني” و”افرح يا قلبى لك نصيب” وقصيدة “سلوا كئوس الطلا” من شعر أحمد شوقي. سيزامل القصبجى وزكريا فى الريبرتوار الكلثومى ذاك الزمان متأثرًا بمدرستيهما الكبيرتين والمتمايزتين، ولن يمسك أسلوبه الخاص، ولن تتبلور الصيغة السنباطية الكلثومية حتى عام 1946  ومع “سلوا” أخرى لأمير الشعراء أيضًا؛ بائية المديح النبوى الشهيرة، التى أثارت بها مشاعر الحماسة عند التأويل السياسى لذؤابة أبياتها “وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا”، فى زمن ثورة طلابية تعاقب على إخمادها فهمى النقراشى وإسماعيل صدقي. وبعد تلك القفلة الحريفة، وبعد التطهر الأرسطي، سيتهادى اللحن من فورة الفخر والحماسة نحو تواضع المادح أمام الممدوح. فى نفس العام سيقدم الثنائي، بل ولنقل الثلاثى مع ضلع الكلمات أحمد رامى رائعة “غلبت أصالح فى روحي”. واعتبارًا من عقد الخمسينيات سيكون رياض هو ملحنها الرئيسى بعد انسحاب زكريا وتراجع قصب إلى صفوف العازفين. وستجرب خلال تلك السنوات الشابين الصاعدين مع الناصرية وعبد الحليم حافظ؛ محمد الموجى وكمال الطويل، فى أغان من نوعية ذات طابع دينى أو وطنى كرستها للإذاعة لن تغامر بها فى كونسيرها الشهري، كمقطوعات تمثيلية رابعة العدوية للشاعر طاهر أبو فاشا، أو أناشيد صلاح جاهين التى صار أحدها سلامًا جمهوريًا للدولة من عام 1956 إلى عام 1977.
ومن رباعيات الخيام عام 1950 إلى جددت حبك ليه عام 1952، ويا ظالمنى 1954، لدليلى احتار 1958 وهجرتك عام 1959، توالت مقطوعات رياض مع السيدة . وفى عام 1960 سيعود لها زكريا أحمد فى مصالحة أخيرة قبل الوداع بلحن “هو صحيح الهوى غلاب” مع توأمه الشعرى محمود بيرم التونسي. ولكن هل زكريا هنا هو نفسه زكريا الثلاثينيات والأربعينيات؟ تغير الزمن بالتأكيد، وتغيرت السيدة، وصار بناء السنباطى واقعا راسخًا لا يمكن العبور عليه.
وكثيرًا ما رُبط بين رياض والقصائد كواحد من أبرع من لحنوها، وهو نفسه يعزو تلك النهضة فى غناء الفصحى لأم كلثوم نفسها التى بنت حضورها (الكلاسيكي) على أنقاض عالم المجون المرتبط بالطقاطيق ومغانى الأزبكية ودهاليز عماد الدين. وكثيرًا ما اعتُبرت الأطلال أعظم ما قدم رياض لأم كلثوم، وقد تكون محاولة لشعبنة الفصحى فى عصر جديد سيطرت فيه ألحان عبد الوهاب وبليغ حمدى، وصنعت لها جمهورًا جديدا بين الشباب. لكننى سأفضل قصيدة “أراك عصى الدمع” لأبى فراس الحمدانى فى صيغتها السنباطية عام 1965. وكانت أم كلثوم قد غنتها فى شبابها المبكر  فى لحن آخر لعبده الحامولي، ثم أعادتها فى لحن لزكريا فى الأربعينيات، ولكن لحن السنباطى تجلّت فيه كل قدراته على مسرحة الكلام وصنع حوارية درامية من قصيدة عمرها ألف عام بالتمام. ويبدو ولع أم كلثوم بهذه القصيدة لدرجة تكرارها بثلاثة ألحان مختلفة عائدًا لموضوعها المتعلق بمحبوبة جبارة تُميت دون أن تكترث؛ “قتيلك! قالت: أيّهم؟ فهم كثر!” التيمة نفسها التى كررها رامى فى عشرات المونولوجات والقصائد، وكلنا نعرف قصة الصبّ الذى فضحته عيونه.
نعم، كان السنباطى أيضًا عاشقًا، ولتبحث عزيزى القارئ عن لقائه فى تليفزيون الكويت على موقع يوتيوب، وشاهده وهو يحكى كيف صافحها فى ذلك الفجر البعيد على محطة قطار الأرياف. لكنه لم يبلغ فى العشق مبلغ “أسلّم الروح إليه” كصديقيه رامى وقصب، ولم تأخذه “عزة النفس” الغاضبة كالشيخ زكريا بعيدًا عن المشروع الصرحى الذى شيده عبر عقود، وبدأب راهب، مع السيدة.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here