كما يرويها د. صبحي ناظم توفيق
كنتُ ضابطاً خافراً في غرفة التشريفات بالقصر الجمهوري بعد إنتهاء الدوام الرسمي بعد ظهر يوم الأحد 6/12/1964
كان رئيس الجمهورية ( عبد السلام عارف ) قد طلب حضور ” الأستاذ عبد الرحمن البَزّاز ” سفير العراق في “لندن” القادم إلى “بغداد” بمناسبة عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، والذي يشغل في الوقت نفسه منصب السكرتير العام لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ورئيس الوفد العراقي المفاوض مع شركات النفط العملاقة العاملة في العراق، وذلك في مكتبه الرئاسي لمناقشة بعض الأمور في تمام الساعة السابعة مساءً, فأسجل ادناه رؤوس نقاط قد أفيد منها :-
حرية الصحافة والرأي
سكت “عبدالسلام عارف” قليلاً قبل أن يبادر– في لقاء سابق، يا دكتور، كان بيننا خلاف حول “حرية الصحافة” والإستمرار في مراقبة المطبوعات من عدمها… فهل ما زلتَ على الرأي نفسه؟ وهل آن الأوان لإطلاقها في ظروفنا الحالية؟
سيادة الرئيس، أودّ أن أوضح لكم أنه لا يوجد أوانٌ محدّد أو حدّ فاصل لأية حرّية، ومن ضمنها “حرية الصحافة“… ولكن الساسة غير الراغبين في إطلاقها يتذرّعون بالظروف والمواقف والمستجدّات وغيرها من المصطلحات لتبرير تقييدهم للصحافة أو لحريات أخرى… ومن رأيي أن “الصحافة الحرة” هي التي يمكن أن تُنبِّه سلطات الدولة المختلفة –التشريعية منها أو القضائية أو التنفيذية– لأخطائها وسلبيّاتها كي تتمكّن من تصحيحها وإتخاذ إجراءات محددة وضرورية للحدّ منها، وهي شبيهة تماماً لصديق أو شخص ينبِّهك إلى “أوساخ” قد تكون عالقة في وجهك أو رأسك أو ظهرك لا يمكنك ملاحظتها أو مشاهدتها بأمّ عينيك كي تُزيلها.
فالصحافيون هم من الطبقة المثقفة عادة، ومعظمهم قد يمكن إعتبارهم أهلاً لطرح أفكار مُجدية تفيد البلد، أو سلبيات ينبغي تقويمها، إذْ لا يمكن، أو يصعب، أن يراها الذين يُديرون السلطة التنفيذية أو من العاملين ضمن السلطتين التشريعية أو القضائية… لذلك، فان العديد من الدول المتحضِّرة تعتبر الصحافة “سلطة رابعة.“
ومن المعلوم والثابت في التأريخ، أن الأمم قد تقدَّمت، وصولاً لأعلى مراحل الرُقي بتأثير حرية الفكر والتعبير باللسان والقلم، وليس بالقمع والإرهاب وتقييد الحريات… وبما أن (6) سنوات قد إنقضت على “ثورة تموز“، وحوالي (3) سنوات على “ثورة رمضان” وما يزيد عن سنة على “ثورة 18/تشرين“… وأن ما أسميناه بـ“الفترة الإنتقالية” نحو الحكم السوي ينبغي أن لا تزيد عن سنة واحدة، فإني مازلتُ على رأيي في إطلاق “حرية الصحافة“، فحينئذ فقط تكبر “حكومة الثورة” في نظر الشعب وعلى المستوى العالمي أجمع… وإذا ما طُرِحَتْ “أفكار هدّامة” في الصحافة، أوانئذ يمكن إحالة أصحابها للقضاء لمحاسبة المقصِّر وفقاً للقانون، ولا ضَير في ذلك.
أما “الرقابة على المطبوعات” فأراها ضرورية، ولكن ليس على النواحي السياسية وإنتقاء أداء مؤسسات الدولة، إنما على النواحي الأخلاقية والدينية والمذهبية، فلا يمكن أن يُسمح بصدور كتاب يحتوي خلاعة، أو مؤلّفات تمسّ الدين، أو تتسبَّب في خلافات مذهبية أو طائفية أو عرقية نحن في غنىً عنها.
كتلة عدم الإنحياز
–دكتور، بإعتبارك ضليعاً في القانون الدولي، كيف ترى مستقبل دول “كتلة عدم الانحياز” التي تنتهج سياسة لا تميل الى الشرق أو الغرب؟
–من حيث المبدأ، يا سيادة الرئيس، فأن “عدم الإنحياز” لا غُبار عليه، فالحِياد تجاه الصراعات المعلنة وتلك الخفية الدائرة بين كُتلَتَي العالم القائمتَين ضروري لدولة متواضعة مثل العراق وغيره… إلاّ أن هذا التكتّل لا يشكّل ثقلاً مؤثراً على السياسة العالمية ضمن أمور عديدة، قد يكون أوّلها أنه لا يمتلك قوة سياسية وعسكرية وإقتصادية موحدة أو متقاربة مثلما تمتلكها الكتلتان العظيمتان، وسوف لا يتمكن من إمتلاكها في المستقبل القريب وحتى البعيد… وثانيها، أنه “تكتّل” غير متجانس، لأن فيه العديد من الدول الرأسمالية وأخرى شيوعية وثالثة إشتراكية ورابعة (تائهة) بين هذه وتلك، ودولاً ديمقراطية وأخرى دكتاتورية يحكمها زعماء دول ليبراليون وآخرون إشتراكيون أو شيوعيون، وهناك من يدّعي بين هؤلاء وأولئك، وأن معظمهم لو وافاهم الأجل أو أُخرِجوا من الحكم لأي سبب، فإن الذي يليه يقلب سياسة الدولة رأساً على عقب ويمحو عادة كل ما أنجزه أو عمله سَلَفُه، فمعظم تلك الدول لا
توجد في أنظمة حكمها سياسة مركزية تعتمد على مؤسسات مستقرة، بل هي سياسة شخوص زعماء ورؤساء… وثالثها، أن هذا “التكتّل” لا يمكنها تغيير موازين القوى في العالم المعاصر، وأن أية دولة منها لو مالت أو لم تَملْ، وإذا حادَت أو لم تَحدْ، فأنها ليست بذات تأثير على أي من الغرب أو الشرق
لذلك فإنني أرى مستقبل “عدم الإنحياز” لا تبشر خيراً، وأنه سوف لا يدوم إلاّ قليلاً، وإذا ما طال عمره بضعة عقود من الزمن فأنه لا يتعدى مستوى الإعلام والمؤتمرات السنوية واللقاءات بين الزعماء
ولكن، هناك عدد من الدول التي إستطاعت البقاء على الحياد التام في ظروف صعبة للغاية، وفي مقدمتها “سويسرا” المؤلفة من (4) قوميات وأقاليم متنوعة، والتي إستطاع قادتها تجنيب بلادهم –وهي تتوسّط القارة الأوربية– حربَين عالميّتين متقاربتين في ظرف كانت البقاع المحاذية لجميع حدودها الصعبة ملتهبة بنيران الحروب… فهل نستطيع نحن في “العراق” أن نكون كما كانوا في “سويسرا“؟ وهل لقادتنا مثل تلك النظرة وذلك التوجّه وبُعد البصيرة التي كان أولئك القادة متمتّعين بها؟ وهل يساعدنا وضعنا الإقليمي على إتّباع ذلك النهج القويم؟ وهل يمكن أن تدعنا الدول ذات مصالح سياسية وعسكرية أو نفطية وإقتصادية في المنطقة أن نبقى على الحياد؟
وهنا سكت “عبدالسلام عارف” بعد أن توقّف عن المسير، وظلّ ينظر بعيداً نحو السماء المتلألئة بملايين النجوم، قبل أن يدقّق في ساعته اليدوية، وينطق:
آه… لقد قاربت الساعة من العاشرة… لقد تمشّينا في هذا الطقس البارد ما يقارب ساعتين… شكراً يا دكتور على هذه الأفكار والطروحات… إنني فخور بك… صاحبتك السلامة,
إستقلّ “عبدالرحمن البزّاز” سيارته الشخصية، وقادها بنفسه نحو بوابة الخروج من القصر، بينما كان رئيس الجمهورية يودّعه واقفاً بالقرب من سلّم باب التشريفات,
وما أن دخل الرئيس “عبدالسلام عارف” إلى جناحه الخاص، حتى هرعتُ لأُخرِج مذكّرتي الشخصية السنوية لعام 1964 لأُسجّل في صفحة يوم (6/12/1964) تبييضاً وتفصيلاً لرؤوس نقاط عمّا تفوَّه به الأستاذ الكبير السفير “عبدالرحمن البزّاز” في حديثه مع الرئيس “عبدالسلام عارف“، قبل أن أترجّى زميلي “الملازم عبدالجبار جسام” لإتاحة الفرصة لي في تلك الليلة كي أُسجّلها في أوراق، والذي إستغرق ساعات الليل حتى الثالثة فجراً مواصلاً تجواله على نقاط المراقبة والحماية حوالي القصر الجمهوري… ووقتما عاد “عبدالجبار” وإستقر على مقعد بغرفة التشريفات، ووجدني ما زلتُ غارقاً في الكتابة فقد ظلّ يعاتبني ويلومني –كعادته في كل ليلة نقضيها معاً– على إغراق ذاتي في مثل هذه ((المتاهات والتـُرّهات)) وهذا ((الجنون)) عوضاً عن أداء صلوات النافلة والتهجُّد في جوف الليل!
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط