مدينة الموصل بين الامس واليوم -2

في الفصل الأول من مذكراتي , كتبت عن سوق السراي والآن عن محلة باب المسجد و هي محلة ولادتي سنة 1935 , والتي لا زالت ذكرياتها حية , لكونها أحداث عشتها فيها الكثير من أيام مرت , كانت الحياة لها شكلها وطابعها الذي تغيرت معالمه , بودي سرده حتي يجد الذين يرغبون التعرف على شكل الحياة في هذا الحي الذ ي ولدةت وعاشت فيه شخصيات لها مقامها ودورها في الحياة التي كانت تزخر بالعمل والعطاء لذا وجب علي ذكرها حتى لا تنسى وتختفي أثارها.

منهم الوزير طه الحاج إلياس وزير التربية في وزارة عبد الرحمن البزاز , بجواره دار المؤرخ الموصلي الأستاذ سعيد الديوجي , بالقرب من دارنا ,بيت المحامي وصاحب جريدة الأديب الموصلية ,محي الدين ابو الخطاب وكان شخص عصامي من عائلة لم يكن بامكانيتها المحدودة مساعدته لدراسة العليا , لذا أجبرته الضرورة للعمل خلال العطلة الصيفية لسد مصاريف الدراسة , وكان يختار الأعمال المجهدة للحصول على مورد اكبر لكونه ذو بنية قوية تتحمل العمل الشاق المجهد .

هذه الشخصية المثيرة للجدل , نجح بالاجتماع مع رئيس وزراء العراق , نوري السعيد ,و قدم طلبا منه السماح بتملكه أرضا في منطقة الدنادان

على كون الشيخ الدنادان هو جده !! وكان رئيس الوزراء على علم واطلاع ان بأن صحيفته لها موقعها في المدينة , لذا أراد

كسبه في الانتخابات المقبلة , فسمح له بتملك تلك المنطقة , ليبني بعدها قصرا هناك.

بعده دار مدرب فريق كرة القدم العراقي عادل بشير

ولي لقاء معه عندما كان خبيرا بعمل الطائرات الورقية, اشتريت منه واحدة منها 10 فلوس , بعد مرور السنين التقيت به في بغداد , عندها أردت ذكره أننا كنا نعيش في محلة باب المسجد, رفض القبول بذلك ,ولما أردت تذكيره بحوادث جرت في محلتنا رد وأصر على رفضه وكونه من محلتنا , وهذا دليل على ترفعه ونسيانه لمسقط رأسه !!

كان بجوار دار عادل بشير دكان احمد اللطوفي , اذكر صوته يتردد في اطراف محلتنا , ( شمزي شكر بطيخ عسل ) وهو يعرض شمزي الموصل الشهير وبطيخ ذو طعم ونكهة لا تنسى , يزرع في النواحي والقرى المسيحية القريبة من مدينة الموصل , هي تل أسقف وقراقوش , لم أجد صنو لهم ، بالإضافة إلى بيعه لها , كانت تصل اليه كل صباح جمال محملة بأواني تحوي لبن الغنم يطلق عليه بالخاثر , والأواني التي تحوي هذا اللبن ,كانت مصنوعة من الخشب المحكم الصنع بحيث لا يتسرب منه اللبن خلال حمله على ظهور الجمال والسير به مسافات طويلة للوصول إلى المدينة , مع الأسف الشديد لم يبقى منه أثرا , وكان احمد اللطوفي عندما ينتهي من تحميل اللبن يقدم لهم شمزية تناولها بعد الجهد الذي بذلوه خلال مسيرتهم الطويلة من البادية نحو المدينة ,عنه يجلسون ( يجعبون على حد تعريفهم ) ليتناولوا طعامهم , البداية من لب الشمزي حتى القشر بعدها

يبدأ الجرز ببذوره , هذا المنظر الظريف كنت أشاهده كل يوم , وأذكر أحمد اللطوفي كان يبيع البيض المسلوق مصبوغا في فصل الربيع , والآن في بلغاريا يصبغون البيض في عيد الفصح وهو يحل في فصل الربيع ,وهذا يدل على أصول مدينة الموصل التي كانت تعتنق الدين المسيحي قبل ظهور الدين الأسلامي , وعجبي كيف استمرت هذه الظاهرة بعد هذه الأعوام الطويلة التي مرت .

كان بيت جدي لوالدتي المرحوم خليل الحاج مصطفى’مجاورا لدارنا ,وكانت مساحته كبيرة جداآوتتوسطه حديقة كبيرة مليئة باشجار الفواكه’غالبا ما كانت تقام فيه حفلات الموسيقى والطرب في مناسبة حلول زواج لأحد أفراد العائلة ’أو حتى الاقرباء والجيران أوختان أحد أطفالها , كما يستغل شباب العائلة هذه المناسبات لإقامة حفل ساهر حتى مطلع الفجر , يقدم فيه الطعام والشراب ,و مع كون الكبار من العائلة متدينين ,الا ان ذلك لم يكن ليمنع إقامة ليالي السهر والطرب , وكان المنوم المغناطيسي الملقب بالساحر المدعو عبد الرزاق العصري يقدم للجمهور المحتفل وصلاته السحرية , بغرس السكاكين في ساقيه , وشد عيني صبي يرافقه , عندها يجيب الصبي على محتوي أشياء تحدث حوله ويعين أحداث تجري حوله وهو في حالة نوم عميق , مع أعجاب وتصفيق الحاضرين ,ومنظر الشاب اليهودي مراد وهو يرقص على عزف العود والندبك واضعا كاس العرق على جبينه وبه يميل إلى الخلف بدون سقوط الكأس , مع زغردة النسوة على السطوح المجاورة , هكذا كانت حياة التسامح وقبول الآخر قبل حلول فكرة التدين التي تفرض طريقتها في الحياة إلى حد استعمال العنف والقتل لفرض أسلوبها الغاشم الذي يعتدي على حرية الآخرين .

محلة باب المسجد كانت بجوار محلة الطائفة اليهودية ,وكنا نتبادل الزيارات للدار المجاور لدارنا , أذكر حفلات الزواج لتلك الطائفة , كانت تحفل بمظاهرها الاحتفالية , عندما يتقدم العريس بيد عروسته السير بموسيقى المزمار و الطبل مع حملة الشموع مزينة بالورود الى بيت العريس .

كنا نقضي كصبية أوقتنا في اللعب خلال فترة النهار ,

وفي الليل تجري عملية الركض والمتابعة , بعدها نجلس تحت ضوء الكهرباء التي تنور الحارة , لنتبادل أخبار الجن والأشباح , ونحن نرتجف رعبا وخوف, لكن كانت فترة حكم وزارة رشيد عالي الكيلاني , وحدوث مناوشات بين الجيش العراقي وقوة من الجيش البريطاني في قاعدة ( سن الذبان ) في منطقة الحبانية , عندها أراد صبي من الحارة التعليق , قائلا ( والله عدنا مدفع أبو خزامة , يلهم رمل ويطق بارود , هذا المدفع هزم الإنكليز ) هنا ارتفعت روح الحماس والوطنية بيننا جميعا للهتاف وترديد ( سن الذبان ما ننطيها , سبع سنين نحارب بيها ) .

على عكس الجيل الحالي الذي يقضي معظم اوقاته امام شاشة التلفاز أوالكومبيوتر وهي تؤثر سلبا على صحة النشأ ,كنا نقي أوقاتنا خارج بيوتنا في ألعاب تنشط الحركة في الركض ومزاولة العاب مسلية , كانت اما لعبة ( الحاح والكتا ) تتكون من الحاح وهي عصا كبيرة تضرب على أصغر منها , لتنطلق في الهواء , عندها يجب على الشخص المقابل ألإمساك بها , أو لعبة ( الطز وراح ) والطز عبارة حصوة مفرطحة تضرب

عن بعد نحو الراح وهو عبارة علبة معدنية (قوطية ) يجب على الرامي أصابتها ,وألعاب عديدة أخرى .

بقت روح الحملات والغزو التي ورثناها من الأجداد , ظهرت من جديد بيننا وبين صبيان المحلة المجاورة لنا ,نقوم بحملة هجومية ليلا عليهم , بعدها يردون بحملة أقوة وأشد , لذا وجب علينا الهرب والاختباء بدورنا سالمين ,عندها تنطلق ندأة النصر منهم ( هاي محلتكم دسناها ,و دكين عظام بمحلتكم ) وهم حقا يغرسون عظام بمحلتنا دليل استقوائهم علينا وخسارتنا في التصدي لهم.

وكان خصام أكثر شدة وقسوة , عندما يتصدى طرف للأخر في ساحة واسعة تقع في منطقة البدن , كانت سابقا خارج محيط المدينة , الخصام بين منطقة حي المشاهدة وحي العكيدات , يطلق على هذا (الدكش )

تنطق الحجارة من الصبابين ( المقلاع) بين الطرفين تكون كبيرة الخطورة كونها اما إصابة العين أو الرأس للترك جروح وعاهات , وحصل لي تجربة خوض المعركة من جبهة حي المشهدة , كان حظي بالنجاة عندما انقطع طرف صباني , عندها انسحبت من المعركة سالما معافى , لكن بقت المعركة مستمرة على وقع الصوت الذي يطلقه الصبان نتيجة شد خصلة من خيوط الحرير في طرفه ,و صوت صفير الحجارة المنطلقة .

أذكر الأصوات التي كانت تردد في دروبنا , وهي تزخر باللهجات واللحن الطريف , حليب حليب , حليب طبيخ يردده شاب من حي الجماسة , يعرض حليب الجمس محل شراء نخالة الطحين لتقديمها لحيواناته , وصوت آخر , غويبيل مويخل , يعرض غواببيل فرد النخالة من

الطحين , والأخر , نجار كسار خشب , رجل يحمل فأس يعرض تكسير خشب الشعلة الذي كان يستخدم في الطبخ والشعلة , فرفوري بالعتق صحوني بالعتق , يعرض أواني فخار محل ملابس قديمة , وهو يقصد ملابس مضى عليها زمن وكبر صاحبها لتصبح عرضة للتبادل , وصوت آخر , يا سامعين الصوت صلوا علنبي

أولكم محمد تاليكم علي , وهو ينادي عن شيء فقد يرجو استرجاعه لأصحابه .

في الأيام الأخيرة من شهر رمضان وقرب حلول العيد تنطلق مجموعة من الصبية مساء في التجوال حول البيوت وهم ينادون ( يالعايدة يلعايدة باب الجبير عامودكم فضا ودايركم حرير دايركم حرير , عندها يذكرون أسم صاحب الدار ) لذا وجب عليه تقديم عطاء لهم , واذكر عندما تطول مدة أنقطاع هطول المطر والذي هو حيوي لمدينة الموصل التي تعتمد زراعتها على المطر , بعد هطوله تنطلق بنات يحملن لعبة من القماش يمسكن بطرفيها ويطوفون على بيوت الحارة منادين ( يوم الريث ريثينا لولا المطر ما جينا صبونا بلبطشا صبح ودلتكم يمشى ) عندها تخرج ربة الدار حاملة طاسة مملوءة بالماء لتصبها على اللعبة .

هذه مجريات الأمور أذكر أحداثها التي رسخت في مخيلتي بعد هذه السنين الطويلة بعد أن نسيت عبر أيام خلت كانت الحياة فيها الكثير استعطعت تسجيلها’وساستمر بسرد تلك الذكريات الجميلة التي لاتنسى

لقمان الشيخ

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here