في البدء كان الكلمة….فما هي قصة الكلمة؟!

حوارات في اللاهوت المسيحي 26

فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ (لوغوس) وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ(اله)

هذه هي المقدمة الاستهلالية للانجيل المنسوب إلى (يوحنا) والتي دائما ما يستشهد بها الاخوة المسيحيون لاثبات الوهية يسوع الناصري, ويكثرون من ترديدها في كل مناسبة.

وفي سياق مناقشة هذا النص , يجب اولا توضيح حقيقة مهمة جدا, وهي ان هذا النص الشهير, ليس كلام الله ,ولا كلام يسوع المسيح!, وإنما هو مجرد عبارات سطرها الأشخاص المجهولون الذين قاموا بتأليف الانجيل المنسوب ليوحنا!

والقارئ للكتاب المقدس يلاحظ بشكل واضح ان يسوع المسيح لم يستخدم ابدا لفظة (الكلمة) في توصيف نفسه, رغم ورود عبارات وجمل كثيرة منسوبة ليسوع يتحدث فيها عن نفسه, مع ذلك لم يقل ابدا عن نفسه انه ( الكلمة!)

الامر الاخر, الذي يلاحظه القارئ للكتاب المقدس, هو ان لفظة (الكلمة) وردت مرارا وتكرارا في نصوص العهد القديم وكذلك الجديد, لكنها ابدا لم ترد ضمن المعنى الذي وضعه المؤلفون لانجيل (يوحنا) ولا حتى ضمن معنى قريب منه!

فقد وردت لفظة الكلمة احيانا بمعنى ( الشريعة) واحيانا بمعنى( الوحي) واحيانا اخرى بمعنى الاوامر الالهية, والشواهد كثيرة ولا نحتاج لإيرادها ,لأنها معروفة لكل من تصفح الكتاب المقدس!

من خلال التمعن في كلمات النص الاستهلالي والافتتاحية التي هي أقرب الى الاشعار الرومانسية للانجيل المنسوب الى (يوحنا) نلاحظ ان معنى لفظة (الكلمة) والذي اقحمه المؤلفون لهذا الانجيل , هو معنى غريب وغير متسق مع دلالة نفس اللفظة في متون الكتاب المقدس, وانما تم اقحامها في هذا الإنجيل المتأخر زمنيا عن باقي الأناجيل من أجل غرض معين!

ان اقحام معنى غريب عن ادبيات الكتاب المقدس, تسبب في اخراج نصا مشوها, ينقض بعضه بعضا, ويبدو ان السادة كتبة إنجيل (يوحنا) لم يكونوا مهتمين بهذا الأمر!

بقدر اهتمامهم بتقديم تصورا لاهوتيا جديدا من اجل ترسيخه في أذهان المؤمنين!

وهذا المفهوم, يتحدد بشكل واضح في العبارة التي اثبتها هؤلاء الكتبة – بعد اللف والدوران- وهي عبارة

(وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ،مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ،مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا)يوحنا 1/14

بعد هذه العبارة, يتضح المعنى الذي يراد ترسيخه, وهو ان يسوع المسيح هو الكلمة, وهو أزلي غير مخلوق وهو نفسه (الله) المتجسد في شكل انسان, وانه اقنوم (الابن) الذي يساوي مجده نفس مجد ( الاب!)

ان لجوء كتبة هذا النص الى المخاتلة اللفظية والتلاعب بدلالة الالفاظ, اوقعهم في تناقضات عجيبة, تسببت في تهافت المعنى الذي يراد إيصاله, بل وتناقضه مع بعضه البعض, وتناقضه مع سرديات بقية نصوص الكتاب المقدس!

فعندما اراد كاتب النص الإشارة الى ازلية المسيح , استخدم تعبير( في البدء كان الكلمة!), فقام بنفسه بنسف هذا المعنى!

والسبب بسيط وواضح, فعبارة (في البدء) لا تعني ابدا ( الازلية) وان كانت احيانا تعني ( الاقدمية)

فعندما يقول الكتاب المقدس ( في البدء خلق الله السموات والارض) لايفهم القارئ ان المقصود هو ازلية السماء والارض!

ونلاحظ ان هذا التناقض الواضح قد اوقع اللاهوتيين الذين حاولوا شرح هذا النص في اضطراب شديد, فصاروا يحاولون تاويل هذا التناقض بتفسيرات سطحية وساذجة!, حتى صار بعضهم يلجأ الى معاجم اللغة العربية ويلف ويدور, ليخرج لنا بتفسير يقول : ان (في البدء ) تعني الأقدمية! ليفسر لنا الماء…بعد الجهد…بالماء !!

ومن التناقضات التي يحملها هذا النص , عبارة( والكلمة كان عند الله!) فهذه العبارة تنقضها العبارة التي تليها (وكان الكلمة الله) لأن المعنى الذي تستوجبه العبارتين يستدعي ان يكون( الله عند الله!) وهذا المفهوم لايتسق مع أي منطق!

وكما اوضحت آنفا, ان كل هذه اللفة والدوران التي قام بها كتبة هذا النص, غرضه هو الوصول للنتيجة التي يريد هؤلاء السادة تمريرها, وهي أن (الكلمة) هي (الله المتجسد) على شكل (يسوع المسيح!)

ولو سلمنا لهم بهذا المعنى, فسيحدث اضطراب كبير في مفهوم الإيمان,لأن هذا المعنى يستلزم ان يكون أقنوم

(الابن/ الكلمة) هو الخالق الذي(به كل شيء كان وبغيره لم يكن!)

فهل هذا يشمل بقية الأقانيم ( الآب والروح القدس)؟!

هل هذه الاقانيم خلقها اقنوم (الكلمة الابن) ام كانت مخلوقة معه؟! والنص يقول( به كل شيء كان!!!)

ومن المفارقات الغريبة لهذا النص المتناقض, والذي تم اقحامه على نصوص الكتاب المقدس لغرض اعطاء بعدا لاهوتيا لشخص المسيح, ان هذا النص ليس فيه اي اشارة الى الاقنوم الثالث الذي يتشكل منه الله واعني به ( الروح القدس!)

والسبب واضح, وهو ان هذا النص تمت كتابته في اوائل القرن الثاني الميلادي, بينما لم يتم (ترقية) الروح القدس الى درجة الالوهية الا في اواخر القرن الرابع الميلادي !

ولا اريد الاستفاضة في نقد وتبيان تناقضات النص الاستهلالي لانجيل يوحنا, لان ذلك يتطلب مقالا او اكثر, ولان هناك الكثير من الردود والشروح الرائعة لكثير من الشباب على الشبكة العنكبوتية, توضح تهافت وتناقض النص, ويستطيع من يريد الاستزادة الرجوع اليها, لكني فقط اود الاشارة الى التلاعب وتحريف الترجمة التي عمد اليها مترجمو النص ,حين وصلوا الى عبارة ( وكان الكلمة الله) حيث قاموا بترجمة كلمة(اله) إلى كلمة( الله) لكي يضبطوا تحريف معنى العبارة !!

لأن النص الاصلي يذكر كلمة(اله) والتي تعني احيانا الشخص الذي يملك السلطان الالهي كما هو الحال مع (موسى) حيث نجد ان الله يخاطبه في العهد القديم قائلا:

( انا جعلتك الها لفرعون)

اما في نص إنجيل يوحنا المتقدم قام المترجمون بتحريف الكلمة(اله) الى كلمة (الله) لكي يكون يغيروا المعنى بشكل مختلف تماما, من اجل ان يتسق مع العقيدة التي يريدون تسويقها!!

وبالرجوع الى أسباب إقحام هذا النص الهجين في الكتاب المقدس,بل وجعله مقدمة افتتاحية للانجيل المتأخر زمنيا, علينا ان نتتبع اصل الفكرة التي اقتبسها الذين كتبوا هذا النص, وهي فكرة ( اللوغوس) والتي قام هؤلاء الكتبة بإعطائها معنى جديدا, وهو (الكلمة) بعد ان كانت متداولة بمعنى ( العقل)

ان عقيدة الكلمة (اللوغوس) هي بالأصل فكرة مسروقة من فلسفة يونانية قديمة كان (هيراقليطوس) اول من تكلم بها في القرن السادس قبل الميلاد حيث انشأ فلسفته على اساس ان كل شيئ في الكون يديره وينظمه عقل الله( اللوغس) الازلي!

ثم جاء (فيلون السكندري) في نهايات القرن الاول الميلادي و طور هذه الفكرة واعتبر (اللوغوس) هو أقدم شيئ في العالم وبه قد تم خلق كل شيئ في هذا الكون!

هذه الأفكار كانت منتشرة و رائجة في أوساط الجاليات الناطقة باليونانية ومدنها, وخصوصا في مدينة (افسس) التي يعتقد ان كتابة انجيل (يوحنا) قد انجزت فيها, والتي هي بنفس الوقت المدينة التي عاش فيها (هيراقليطوس) صاحب فكرة (اللوغوس)

بالنسبة للانجيل المنسوب ليوحنا, وحسب اشارات الكثيرين من مؤرخي الكنيسة, فقد تم كتابة هذا الإنجيل, للرد على الهرطقات التي بدأت تنتشر في ذلك الوقت!, ونحن نتكلم هنا عن الفترة ما بين نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني

وواضح جدا ,ان المقصود بالهرطقات, هي العقائد التي كان يتبناها الكثير من المسيحيين الاوائل, والتي لا تؤمن بالوهية يسوع الناصري ولا تتخذ منه إلها معبودا

ورغم ان المؤرخين المسيحيين حاولوا دائما طمس واخفاء المعالم التي تشير الى الصورة الكاملة لتنوعات الايمان المسيحي المبكر, وتصوير المشهد مقتصرا على مسيحية الكنيسة وإيمانها القويم, الا انه ورغم ذلك ,تسرب لنا بعض الاخبار عن مجاميع مسيحية كان لها ايمانا لا يتطابق مع الكنيسة كالغنوصيين والأبيونيين

لقد كانت طائفة الابيونيين المسيحية تمثل مجموعة مبكرة من المسيحيين المتهودين, والذين كانوا يتبعون يسوع الناصري ويعتبرونه (نبيا مختارا) من الله, وبنفس الوقت اختلفت طائفة الأبيونيين ( ابيونيم تعني: الفقراء) مع ايمان الكنيسة الارثوذكسية, في صفات يسوع الناصري, حيث كانوا يعتبرونه بشرا عاديا, ولا يؤمنون بولادته العذرية, ولا بمسيحانيته

في هذا الجو المليئ بالافكار المتضادة حول المسيح, تم تاليف الانجيل المنسوب ليوحنا, متضمنا مقدمته الاستهلالية والتي تؤكد على اعطاء يسوع الناصري بعدا لاهوتيا, لغرض الرد على أفكار المجاميع المسيحية الأخرى, كالابيونيين, و لغرض تثبيت الإيمان الذي يسوق له المؤلفون لهذا الانجيل في نفوس اليونانيين الذين بدأوا بمفارقة الوثنية واعتناق الايمان الجديد, وذلك من خلال اقتباس فكرة يونانية راسخة لدى تلك الجالية,وهي فكرة ( اللوغوس) وتطويرها لكي تصبح موائمة للوضع العقدي الجديد, وقد نجحوا فعلا , في جعل الوثنيين اليونانيين يتقبلون الفكرة القديمة/الجديدة ويعتنقونها كعقيدة!

فصار اللوغس( العقل) يعني ( الكلمة) وأصبح يسوع هو التجسد لهذه الكلمة, والاله الجديد الذي حل محل الالهة القديمة!

وبهذه التوليفة العقدية الجديدة, تم ترسيخ فكرة ازلية يسوع الناصري, وجعله خالقا بعد ان كان مخلوقا!

من خلال نص هجين متهافت المعنى تم اقتباسه من فلسفة يونانية, و اقحامه في نصوص تم اعطاءها, لاحقا, صفة القداسة, رغم التناقض المخل, والاضطراب البين في المفهوم الكلي الذي حاولت معاني تلك النصوص تشكيله!!

د. جعفر الحكيم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here