موجات التسمم والتسميم في العراق – وقعت في كل العهود – تطهير عرقي ام فساد مالي؟

(1). موجات التسمم بمركبات الزئبق العضوية:
أواخر عام 1959 أُدخلت الى المستشفى الجمهوري ومستشفى حماية الاطفال ومستشفيات اخر, في بغداد حالاتٌ مرضية غامضة جاءت من انحاءَ مختلفةٍ من العراق, أشيعَ انها وباءٌ فيروسيٌ وكان ممن ادحل ردهة في المستشفى الجمهوري حيث كنت طبيبا مقيما. يافعٌ في الثانية عشرة من عمره تحِفُّ به امرأة عجوز يبدوا من زيها انها من *الشروك* اهل المحافظات الشرقية. سألتها *شل القصة ياحاجه (ما هي حكاية مريضِك, هذا) فقالت * يا وليدي, ماهي قِصة, (بل) غُصه (بَلية) الولد ما ينصب (لا ينتصب واقفا لرخاوة في ساقيه), كلينه (أكلنا) من الحنطة اللي انتطتنياها (وزعتها) الحكومة وانا *هل اتشوفني* اي لا اشكو من شيء* ولكن الاولاد وامهم واباهم وكثيرا من الناس (طاحوا) كما ترى. ذكرتَ كلامَ السيدة كما قالته, لان ارى في استيعاب كلام المريض, ادراكا لما يعانيه, بعيدا عن المصطلحات فلابد انهم ذكروا الحنطة مرات قبل هذا ولم يلتفت واصرو على الفيروس سببا. هذا ما كان يقلقني وانا طالب وانا ارى ان معظم الاطباء كانوا من فئات مُعينة من العراقيين, خاصة الموسورين ومن المدارس الخاصة, حتى جاء بنظام القبول الجديد المرحوم,شيخ اطباء زمانه, الاستاذ الدكتور هاشم الوتري (عام 1949) الذي اعتمد معدلات الاعدادية, اساسا في القبول في كلية الطب. توقفت عند قولها ما *يِنصِب* ولم تقل ما يَنتصب. حذفتْ التاءَ ومثلُ هذا جاء في القرآن الكريم في قوله سبحانه: (وهذا تأويل ما لم تسطِعْ عليه صَبرا), هكذا وفي لحظة وعبر نفق في الزمان, تواصلت هذه *الشروكية* مع أُصولها في عرب الجاهلية, إذ قيل ان بعض القبائل العربية, هكذا كانت لهجتها وقيلت تفسيرات اخريات. وكأني بها تقول لمن سموها وفومها *بالشروكية* تدنٍ واحتقارٍ لمنزلتهم, تقول لهم, هم مخلفات الغزاة * مَكانكم ايها المُدَّعون, انا الاصل وانتم الطارئون* ثم عرفنا, بعد ذلك ان كلمة *شروكي* في لغة السومريين, تعني هو*الاصيل* وليس من يصفون انفسهم او يصفوهم, لغرض دفين, بأهل البلد الاصلاء. كان استاذنا الجليل المرحوم الدكتور محمود الجليلي, وكنت طبيبا مقيما في ردهته قد ذكر لي ان حالات تسمم بالحنطة وقعت في قرى الموصل في خريف 1956, لم تعرف نوعية المادة السامة ولم يلاحق الموضوع. لا يحتاج الامر الى كثير عناء للربط بين ما حدث انذاك وما يحدث فيما نحن بصدده. عرفنا ان الحنطة المستوردة والتي وزعت على الفلاحين من قبل الحكومة, كانت معفرة (ملبسة, ملوثة) بمادة الزئبق الاثيليEthyl mervury وان الحنطة قد وزعت بعد موسم *الطشاش* وبعد ان استعمل الفلاحون خزينهم من الحبوب للزرع واخذوا ياكلون مما وزعت الحكومة عليهم. اتصلنا انا وزميل مقيم بوزارة الاصلاح الزراعي, فقالوا لا علاقة لنا ومرجعكم وزير الزراعة ولكن هذا نفى ان يكون لوزارته علاقة. كل واحد يرمي المسئولية على الاخر (وبين حانه ومانه ضيعنا الحانه). كان الخراب الذي احدثه هذا السم واسعا. تقفع الجلدُ وضمرت العضلاتُ وماتت الاعصابُ وعجزت الكلية ومات الغالبية ممن اصيب. كانت الحالات كلها من الوسط والجنوب وقلةُ جاءت من الحويجة. بدأنا العلاج وبدأه غيرنا بمادة الBAL التي تستعمل عادة في علاج التسمم بالزئبق وتبين لنا ان هذا لاتنفع وعرفنا لماذا عندما تعاملنا مع الموجة الثانية في عام 1972 كما ساذكر في الحلقة القادمة. ارسل بعض من توفي وارسلت نماذج من الحنطة اياها الى الطب العدلي وكانت مفارقة سآتي عليها فيما بعد. عاد الاستاذ الجليلي من *اغادير* في المغرب, حيث ذهب مع وفد عراقي ليعينوا في مواجهة التسمم بزيت الطائرات فالعرب, على ما يبدوا من اكثر الشعوب استعدادا للتسمم. اخبرته بما جرى وارتأى ان تكتب مقالة حول الموضوع والتي نشرت, مقالة اصيلة باسمه واسمي في المجلة البريطانية للطب الصناعي تموز, عام 1961 واقترحنا فيها ان توزع مثل هذه الحنطة قبل موسم الطشاش وتصبغ بلون مميز مادة ذات رائحة تعافها النفس وتحذير مناسب. واذت منظمة الصحة العالمية بهذه النصائح فبماذا اخذنا نحن؟. والى حلقة قادمة وكارثة اخرى.
عبدالحميد العباسي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here