البارزاني من منظور أمني الحلقة الاولى / ملامح شخصية وصفات قيادية أمنية

عبدالله جعفر كوفلي /ماجستير قانون دولي
[email protected]

أيام قليلة تفصلنا عن يوم الحزن والفراق والوداع الاخير لشخص ولد ليكون قائداً لأمة تأن من غطرسة الاشرار وظلم وقهر و تجزئة و شتات تفعل بها المصالح ما تشاء ، و تحركها الرياح الدولية كيفما توليها أهواءها وهو يوم رحيل البارزاني الخالد في 1/3/ 1979 ، ففي هذه الايام نستذكر ذكرى وفاته الاليم ، لأنه وبحق قائد لا يتكرر في التاريخ .
وبحكم مكانة البارزاني في الحركة التحررية الكوردية ، ودفاعه المستميت عن حقوق هذا الشعب المسلوب من ابسط حقوقه المشروعة ، فأنه كان دائماً عرضة للتهديد و المؤامرة من قبل الأعداء لذا كان لزاماً اتخاذ كافة التحوطات الأمنية وان ظروف حياته كانت عاملاً وحافزاً مهماً لتنمية الحس الأمني لدى البارزاني بالأضافة الى الصفات الامنية المتوفرة في شخصية البارزاني الخالد لدوره القيادي والخبرة المكتسبة .
هذا القائد ولد تحت سياط الأعداء و جبروته و حقده ليصقل مواهبه ويقوي إرادته ، ذاق مرارة السجن والأسر ورؤية الاحباب ورقابهم تعانق حبال المشنقة والنوم في الكهوف … كل هذا و زيادة صنع منه قائداً مخلصاَ متواضعاً لا يعرف بين ألاقران يأكل مما يأكلون ، يهاب منه الاعداء ، يحمل الخبرة والتجربة في جلوسه ويقدم بيشمةركته في مسيرته ، يشع منه الروح المعنوية ، لقد كان نبعاً للكوردايةتى ، حاملاً هموم شعبه ، أجتماعياً في تصرفاته ، سياسياً في حواره و مفاوضاته ، عسكرياً في قتاله ذو نظرة ثاقبة و بعيدة .
ليس سهلاً ان تتحدث عن شخصية فريدة ونادرة في تاريخ الشعب الكوردي وعموم الشرق، بل والعالم بأسره الذي كثيراً ما كان يتعرف على الكورد من خلال شخصية ملا مصطفى البارزاني. ورغم كثرة القادة والزعماء العظام الذين ظهروا في تاريخ الشعب الكوردي، الا أنّ مصطفى البارزاني ربما يكون أعظم قائد كوردي يتصف بالتواضع والأنفة والصبر والصمود .فجميع مزايا العظمة تجسدت في شخصية هذا القائد الفريد بدءاً بالحزم والجرأة والمثابرة والفطنة وبعد النظر والارادة وحب العدل والمساواة وانتهاءاً بالصدق والأمانة والاستقامة والتسامح.
في خضم حياة ملا مصطفى البارزاني النضالية كان ثمة عوامل تتحكم في سير الأحداث ومصائر الشعوب، حيث كانت الحرب الباردة بين القطبين يومذاك وهما المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي بزعامة الأتحاد السوفياتي السابق، وكان مصير ملا مصطفى البارزاني وقضية شعبه تترنح في زحمة المصالح المتناقضة للقطبين، كل قطب يريد أن يستخدم الورقة الكوردية وفق ما تمليه عليه مصالحه، وكان البارزاني بإمكانياته المتواضعه يحاول ان يبقي على قضية شعبه تحت دائرة الأضواء قدر الأمكان ، وان يحافظ على شعرة معاوية مع كل الأطراف.
ولد مصطفى البارزاني في كنف عائلة لها عمقها التاريخي في النضال من أجل الحرية ،و تحقيق الذات القومية، و هذه الطبيعة التي نشأ فيها اكسبته صفاء الذهن ،و حكمة الصبر , و في الجبل يعتمد الأنسان على نفسه فلا يحتاج إلى الأخرين إلا بقدر ما يحتاجون اليه , فلذلك يعتز بذاته ،و يكتسب الشموخ ،و الكبرياء، و يتمسك بحقه .
ان البارزاني ورث صفات قيادية من الأباء و الأجداد ،و أكتسب صفات أخرى من مدرسة الحياة التي صنعت منه قائداً سياسياً ،و عسكرياً. و من هذه الصفات :

الثقة بالله و بالنفس
كان البارزاني دائم الثقة بالنفس ،و لم يجد الخوف يوماً طريقه إلى قلبه على الرغم من اختفاء الضوء في نهاية النفق أحياناً كثيرة في حياته النظالية , فقد حصل أثناء مسيرته إلى حدود الاتحاد السوفيتي (السابق) أن جاءه أحد مقاتليه ليقول له : سيدي لقد حوصرنا من الجهات الأربع فرد عليه : لا أن السماء مفتوحة لقد كان أمام خيارين إما الأستسلام ،أو عبور نهر أراس سباحة فأقر الخيار الثاني ،و عبر مع مقاتليه في يومي (17 و 18 حزيران 1947) نهر أراس صوب جمهورية أذربيجان السوفيتية.
و من سمات البارزاني الثقة بالله فكان يؤمن بالقدر خيره و شره ،و أن الأجل بيد الله ففي يوم (18/8/1963) تعرض مقر البارزاني في قرية (ليربير) لقصف جوي شديد من قاذفتين من نوع إليوشن أسقطتا عليه أربع قنابل من زنة (500) كيلو انفلقت كلها إلا قنبلة و قعت بين البارزاني و السيد (مسعود البارزاني) و لم تنفلق فقال البارزاني : أرأيت هذا إن كتب أجلك بمشيئة الله ،فلا شيئ يقوى على حياتك، و كثيراً ما كان البارزاني يسدي هذه النصيحة للسيد مسعود البارزاني (الأجل بيد الله ،و لا مرد له ،و لكن عليك أن تتقي المهالك).
عدم اليأس
لم يصب البارزاني كعادته باليأس ،و كان دائم التفاءل ،و متيقناً بأن غلق باب سيفتح ابواباً عديدة ،فقد صرح في (25 اذار 1975) لجريدة كون ايدن (صباح الخير) التركية : ان الثورة مستمرة رغم نهاية الحرب ،و سوف تستمر ،و القتال سيعود الى كوردستان . كما أدلى بحديث مشابه للصحفي المصري المعروف (محمد حسنين هيكل) في أيلول 1975 م ، و في تصريح أخر قال سنظل نناضل حتى نحقق النصر , إننا مع الديمقراطية ،و السلام ،و لكننا لم ننسحب من الثورة ،و سنرجع الى الوطن و نناضل بعزيمة اقوى إن شاء الله .
و في كلمة ألقاها البارزاني في مناسبة نوروز (21 اذار 1978) في المحتفلين به في ولاية فرجينيا الامريكية قائلاً : سنعود إلى كوردستان في أقرب وقت ،و هذا أخر أحتفال لنا بنوروز هنا ، أستمروا في نضالكم كونوا سفراء لشعبكم الذي سوف ينتصر و يتحرر , علموا أولادكم إننا سننتصر حتماً ، لاتحزنوا ننتصر مرة ،و نخفق مرة ،و لكن في النهاية سنفوز ،و ننتصر..

كتمان الأسرار
لقد كان البارزاني صامتاً أغلب وقته و نادراً ما كان يتكلم ، و كان كلامه نابعاً من القلب و إذا تحدث فإنه كان يحسب لما يقوله حساباً ، و يفكر فيه ،و حينما كان يجلس مع الناس كان ينصت و يصغي أولاً ،و يكون آخر المتكلمين ،و كان إنساناً هادئاً ، و أضفى عليه هذا الهدوء نوعاً من المهابة ،و الجلال ، و يظهر وقار البارزاني حين كان الناس يجلسون معه ،و يحدثونه ،و هو منشغل بلف السكائر، أو كان ينكت الأرض بعصى صغيرة، و كان الجالسون معه يظنون أنه غير مصغ إليهم ،و لكن البارزاني كان يعيش مع حاله هو ويفسر حديث مقابله بشكل دقيق ،و يقيّمه حيث تخلق له وجهة نظر و في النتيجة كان يقنع مقابله ، أو الأشخاص القادمين إليه بكلام معبر . لذا فان البارزاني علمنا ان نحفظ انفسنا من الكلام الكثير، و الاطالة فيه ، و نوجز في الكلام بقدر المستطاع ، و يكون الكلام ذا نفع ،و جيد و أن لا نضجر الشخص المقابل.
و من المواقف الدالة على كتمان الأسرار ، و عدم كشف التهديد ، و نوعه ، و كيفيته ، موقفه مع السيد (فؤاد معصوم ) عندما كان يكتب مذكرة للمؤتمر العربي ، حيث كتب في إحدى فقراتها ((إن لم تحلوا القضية الكوردية في العراق ، فستتحول كوردستان الى قبرص)) و حين يقرأونها للبارزاني ، لا يوافق البارزاني على تلك الجملة ،و يقول لا يجوز توجيه التهديد بهذا الشكل ، و لا يجوز تشخيص نوع التهديد ، لأن رهبته ،و تأثيره أقل ، و سرعان ما ينكشف ، و لكن البارزاني يقول في أستطراد نظرته : إذا ما قلت أعرف ماذا أفعل ، فإن هذا التهديد أكبر ، و يصبح مثار الرعب في نفس العدو .

العفو
كان البارزاني يؤمن بالتسامح و العفو عند المقدرة.
وفي موقف أخر للبارزاني الدال على العفو عند المقدرة ، ففي معركة (خيرزوك) التى وقعت بتاريخ 12/10/1943 تحركت قوات لمحاصرة مخفر خيرزوك ، ورفض المدافعون الأستسلام، وأبدوا مقاومة شديدة ، وطلبوا النجدة من ميركةسور وشيروان ، فتحرك فوج شرطة قوة السيارة الذي وصل شيروان قبل يومين ، ولم يكن البارزاني يجهل تحركات هذا الفوج …….وفى هذه المعركة استشهد ( أحمد أفندي) ،وجرح اربعة أخرون بينهم البارزاني نفسه ،فقد أصيب بجراح طفيفة ، وتشاء الصدف الغريبة أن يقع الشرطي الذي أصاب البارزاني أسيراً بعد إصابته بجراح ، فأولاه البارزاني رعاية خاصة ،ولم يسمح لأحد أن يسيئ إليه، وفي اليوم التالي أعاده البارزاني مع جميع الاسرى إلى ميركة سور، وأرسل معهم (نبي حسن ) وهو موضع ثقة تامة لحمايتهم وإخلائهم بسلام.

إطاعة الأوامر ، و تنفيذ القوانين
حسب وجهة نظر البارزاني الخالد لا تكون الثورة ناجحة بدون تنفيذ الدستور و القوانين ، و اتباع نظام للتنفيذ , إذن لأجل ان نحقق الأنتصار و نتقدم ينبغي ألا نحيد عن الدستور ، و القوانين ،و الاوامر، و القواعد التي نشرعها نحن لأنفسنا ،و نصدقها ،و نخرج عنها، لأنه كما يقول البارزاني ك (إن الأنسان يحلو بإطاعة القوانين ،و الأوامر، و نحن يجب أن لا نحيد عن قانون شرعناه حتى لا تنتشر الفوضى .
و وفق وجهة نظر البارزاني كان ينبغي تنفيذ قرارات (المؤتمرات ) ،و الكونفرانسات العامة للبارتي ،و قرارات اللجنة المركزية، و مجلس قيادة ثورة كوردستان ،و قرارات محكمة الثورة العليا ،و المحاكم الأخرى في الثورة إضافة إلى أحكام الشريعة الاسلامية ،و القوانين المتبعة في العراق عامة (عدا القوانين التي كانت ضد الكرد) ، دون تردد لأجل أن لا تحدث الفوضى و التسيب .
كتب فرنسو حريري حول سمة البارزاني في أطاعة رأي الأغلبية ((نعم كان للبارزاني أراؤه الخاصة ،و لكن حين كان يجتمع مع أاعضاء المكتب السياسي للبارتي ، إذا كان القسم الكبير متفقاً على رأي ما ، و كان للبارزاني رأي آخر ،يقول لهم : لي رأي آخر ،و لكن مادامت أكثريتكم تقبل هذا الرأي فأنا معكم
الحذر من العدو ،و الأحساس بالخطر
إن قدرة البارزاني الكبيرة على الأحساس بالخطر ،و تحديد مصدره ،و التمييز بين ما هو أساس ،أو جوهري ،و بين ما هو بسيط ،و ثانوي من القضايا , تعتبر إحدى الأسباب الرئيسة في الأنتصارات التي حققها طوال فترة نضاله، و قيادته للحركة التحررية الكوردية .
ان الادراك الحسي للبارزاني إزاء الأحداث ،و المواقف في حياته تجسد بشكل جيد بين أصدقائه ،و أعدائه، و إن هذا الإدراك الحسي للبارزاني نابع من بلوغ عقل ،و وعي ،و الخبرة التامة ،و هذا الإدراك ظهر في تعامله مع المواقف، و يعود إلى ذكائه ،و قدراته الادراكية :كالإدراك السياسي ،و الإدراك الاجتماعي، و البارزاني سرعان ما كان يعرف أصدقاءه ،و أعدائه ،و يدرك مؤامراتهم ،و نواياهم ، فبالنسبة إلى شاه إيران على الرغم من كونه أراد أن يدعم البارزاني لوجستياً ،و لكن مع ذلك لم يثق البارزاني به، و قد شبهه بالأفعى و أدرك نشاطات أصدقاءه ،و أعداءه ،و لم يغفل عنها ،و قد أدرك بها مقدماً وأن طريقة تعامل البارزاني مع المواقف دليل على الإدراك الحسي للبارزاني .
وإن ما ذكرنا غيظ من فيض حياته وتجاربه و زبدة صفاته وملامحه التي جعل منه قائداً يدخل في النفوس والقلوب …
ألف تحية وسلام على روح البارزاني الخالد و جميع شهداء الحركة التحررية الكوردستانية …
المقال مقتبس من مؤلفنا غير المنشور ( البارزاني من منظور أمني ) ….

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here