في الاغتراب (٢)

(١) في مقالتنا السابقة ، تسألنا فيما أننا نعيش حالة اغتراب ، عن نفسنا ، وعن الآخرين ، وعن العالم ، أم أن هذا الاغتراب هو مجرد وهم ، اخترعه الفلاسفة الألمان ، الذي يعود لهم أبوة هذا الاصطلاح ، أما أن الاغتراب هو فعلاً ، حالة نعيشها ، بدون أن يحس بها الكثيرون ، فنبهنا هؤلاءالفلاسفة عليها ، طالبين منا الأستيقظ من ذلك الخدر المميت . وكذلك، تسألنا عن أصل هذا المفهوم ، وكيف تنبه الفلاسفة الألمان له ، ومن أين جاءهم الوحي في معرفته . وفِي هذه المقالة ، نحاول أن نبين المصدر الذي غرف منه هؤلاء ، وقاموا أسطورته ، فالاغتراب ما كان أن تكون له تلك المكانة التي احتلها في تاريخ الفلسفة ، لولا ، هذا المصدر ، الذي أضف عليه هؤلاء الفلاسفة هالة ، وعدوه واقعة تاريخية ، كان له وجود في الحياة ، والذي ، يعني ، الأنسجام ، والوحدة ، في الحياة الأغريقية القديمة . فكل الفلاسفة الأوائل ، الذين كتبوا عن الأغتراب ، كأنوا فلاسفة رومانتيكيون . أو لهم جذور رومانتيكية ، ومتأثرين بتلك الحركة التي أجتاحت ألمانيا . وهؤلاء الآلهو الحياة ، والفترة الأغريقة ، واعتبروها معجزة بشرية قلما تكرر . وما كان أن يكون لمفهوم الأغتراب أن يكون له هذا الوزن الذي اسبغ عليه ، بدون ، ما خلع أولئك الفلاسفة الرومانتيكين من نعوت على تلك المرحلة . وحتى نفهم هذا المصطلح على حقيقته ، علينا أن نرجع لفحص الرومانتيكية ذاتها ، ونبين وجهة نظرها ، في الحياة ، وكيف نظرت إلى الإغريق بالذات ونمط عيشهم . (٢) وفِي االبدء ، أن الرومانسية ، لم تكن نزعة أدبية فقط ، كما يفهم منها عادة عدنا ، فهي نظرة فلسفية للعالم ، والحياة ، ولها وجهة نظرها، في السياسة ، والدين ، والدولة ، والإنسان ، والطبيعة ، ونظرة فلسفية في كل المجالات . ولهذا سنعتمد في تخليص وجهات نظرها في تلك المجالات على ، كاتب ، متخص في تفسير الفلسفة الألمانية وهيجل بالذات ، فردريك باسر . سنلخص وجهة نظره عن الحركة الرومانتيكية ، وجه نظرها عن الأغريق والرومان ، وعن أسطورة الأغتراب الذي يعانيها الإنسان المعاصر ، بعد أبتعاده عن الحياة عن المثالية التي عاشها أهل اليونان القديمة .

(٣) ومثلما يقال بأن كل فلسفة تدور حول ثيمة مركزية ، مقولة أساسية ، تجعل منها المحور ، والهدف الذي تدور حولة ، فالمقولة الأساسية في فلسفة أفلاطون مثلاً ، هي نظرية المثل العليا ، الأشكال ، فيما هي في فلسفة أرسطو الغاية والتمام الذي يتجه نحو كل موجود . فيما المحور الأساسي في فلسفة هيجل هو الفكرة المطلقة ، وفلسفة ماركس تدور كلها حول رأس المال . وهكذا ، نستطيع نجد لدى كل فيلسوف أ و فلسفة فكرة أساسية يحاول أن يغنيها طول حياته ، بما يضيف أليها من تفاصيل . وعليه إذا تسألنا هنا ، عن الثيمة الأساسية التي دارت حولها الفلسفة الرومانتيكية ، لستطعنا ، القول في أطمئنان ، انها ، كانت ، كما يقول فردريك باسر هي ، الوحدة ، أو الانسجام ، الهرمونية ، في الحياة . وهذه الكلية ، أو الوحدة ، أو الانسجام ، تعني ، الوحدة ، مع الذات أو الانسجام مع النفس ، وكذلك الوحدة مع الآخرين ، العيش في سلام مع بقية البشر ، وأيضا ، الانتماء إلى الكون أو الطبيعة والأحساس بأنك جزء منه . فالتهديد الرئيسي الذي يواجه المرء ، هو الأنقسام ، أو الابتعاد عن تلك الوحدة ، أي الاغتراب ، فالإنسان ، في فهم الرومانسية خلق ليعش في أنسجام وحدة مع نفسه ومع الأخرين ، ولكنه مع ذلك يجد نفس في عالمنا المعاصر يحيا في غربة عن ذاته وفِي نزاع مع الآخرين ، وغريب عن الكون والطبيعة ، فالهدف ، للرومانسية ، هو التغلب على الانقسام على الذات وصلح مع الآخرين ، والعيش في العالم وكأنه بيتك . (٤) والمصدر الأساسي لهذا المثال ، الذي طمع الرومانسين لتحقيقه ، في عالمنا المعاصر مستمد كله ، من الفكرة التي كونها هؤلاء عن حياة الأغريق قديماً . فالرومانسيون الألمان ، من شيلغل ، شلامايخر ، نوفاليس ، هولدرن ، فخته ، تك ، وغيرهم كثيرون فتنوا بحياة اليونان القديمة ورسموا صورة مثالية لها لا تطابق الواقع وما كأنو يعيشوه الأغريق القدماء في الواقع ، فالرومانسيون كانوا كلهم ، يقول باسر ، يقرؤون في اللغة الأغريقية القديمة ، ويحفظون محادثات أفلاطون ، وكتاب الأخلاق للارسطو على القلب . ونجد فعلاً في الكثير من كتابات أفلاطون وأرسطو ، الحديث عن الحياة ، كوحدة ، وكل منسجم ، فأرسطو مثلاً يشدد على الدولة الموحد والعضوية ، ففي الكل العضوي ، يخدم الجزء الكل ويخدم الكل الأجزاء . فرغم الاختلاف الكبير الذي بين أرسطو وأفلاطون ، إلا أننا نجدهما ، حينما يتحدثان عن الدولة ، ينظرنا لها على أنها كل عضوي موحد ، يخدم بعضه البعض . لها دين واحد ، وفن واحد ، وثقافة واحدة ، واخلاق متماثلة . وكذلك فهموا الطبيعة على انها كل عضوي ، وتحدثوا عن وحدة العاطفة والعقل ، بعكس الفهم المعاصر ، للإنسان كأروح وجسد ، وإلى الفهم للدولة كمصالح بين أحزاب متنافس ، وللطبيعة على أنها جهاز ميكانيكي . فالرومانسين ثاروا ضد هذا التقسيم ، وعدم النظر للعالم والإنسان كوحدة عضوية متكاملة .

(٥) وهذه الصورة التي رسمها الرومانسين للإغريق ، يؤكد معظم الباحثين أنها صورة خيالية وأسطورة لا تعكس أبداً حالة اليونان القديمة ، وإنما هي ، في الأحرى تصور توق الرومانسين لمثل هذا الحياة المفقودة في زمنهم . وهذا الصورة عن الأغريق أشاعها فلاسفة وكتاب ، فرنسيون وألمان ، مثل روسو ، هردر ، شللر ، وباحث ألماني مشهور في زمانهم هو ولكمان الذي نظر لحضارة الأغريقة على انها حضارة جمالية . وأهم ثلاثة مبأدى تكون النظرة الرومانسية هي النظرة الاخلاقية ، والنظرة السياسية ، والنظرة الدينية ، التي تعكس فلسفتهم بشكل كامل والتي سنخلصهما ، كما عرضها فردريك باسر .

(٦) نظرتهم الاخلاقية أولاً ؛ المثل الأخلاقي للرومانسين مستمد من المثال الأخلاقي القديم في اليونان ، في تحقيق الذات ، أو في أن تكون فاضلاً . وهذا المثال يقوم على الوحدة مع الذات ، والذي يعتمد على ثلاثة لحظات ، هي لحظة الكلية، والتي تعني أن على المرء أن يطور جميع قواه الشخصية ولا يهمل أي جانب من جوانب شخصيته ، ولحظة الثانية هي وحدة جميع هذه القوى في كل موحد ، أما لحظة الأخيرة ، فهي الشخصية ، والتي تكون فيها جميع تلك القوى الموحدة والكلية تعبر عن شخصية فريدة ومتميزة ، لها كيانها الخاص بها وحدها التي لا يمكن استبدالها . . وهذا كله يعني يجب أن يتغلب الفرد على الاحادية ، ذات البعد الواحد . وأن عليه أن لا يهمل أي جانب من كيانه . لأن الإنسان مؤلف من حساسية أو مشاعر وعقل وعليه أن لا يغلب أي واحد على حساب الآخر ، وأنما عليه أن يؤلف منهم كيان واحد . ولكي يحقق المرء الوحدة مع ذاته ، فأن الرومانسين شددو التأكيد على أهمية الحب . فقد الهمهم أفلاطون في كتابيه عن الحب ، المأدبة ، وفيدرا . فالحب في نظرهم يربط ، جانبي النفس في بعضهما ، العقل والعاطفة أو الحساسية . فقد رأو في الحب ، أهم من اخلاق الواجب ، لأنهم اعتبروا الحب يفوق الواجب ، فالعمل من منطلق الحب لنجاز واجبنا لا يضحي بميولنا وعوطفنا ، التي غالباً ما يضحي بها في سبيل الواجب ، كما هي مثلاً في الأخلاق الكانطية . فحتى لو حبينا بدوافع مصلحية ، فأننا مع هذا نوحد أنفسنا مع الآخر ، ونجد نفسنا فيهم . وهذه الوجهة نظر الاخلاقية ، لدى الرومانسية سنجدها ، فيما بعد تساهم في صوغ مصطلح الاغتراب .

(٧) ولو انتقلنا الآن لوجهة نظرهم في المثال السياسي ، فسنجد عنصر آخر يسهم في صياغة مفهوم الاغتراب . ففي مثالهم السياسي ، تعد الوحدة مع الآخر أو الآخرين ، هي مفهومهم عن الدولة العضوية ، التي استمدوا فكرتها ، من الدولة الأغريقة والجمهورية الرومانية . ودولة الرومانسين ، تتكون من ثلاثة عناصر ، هي أولاً ، الحق في مشاركة المواطن في القضايا العامة ، في أنتخاب الحاكم ، وتحديد سياسة الدولة . ثانياً ، الحرية للمواطنين، حقهم ، بحماية ممتلاكاتهم ، وحرية التعبير ، وأخيراً ، واجب الدولة بالاهتمام بالثقافة ، وتحسين أحوال المواطنين .وهذه الفكرة عن الدولة العضوية ، تأتت للرومانسين ، كما يشير فردريك بأسر ، كرد فعل ضد ، ما يسمى الدولة الماكنة عند حاكم التنوير المستبد ، حيث كل الأوامر تصدر من الأمير أو الملك الذي يشيع الحركة في عجلة الدولة ، فكل شيء في هذه الدولة يفعل للناس ، ولا يقوم به الناس بأنفسهم .، بخلاف الدولة العضوية ، الذي كل شيء يقوم به الناس ويشاركون فيه . وكذلك تعد هذه الدولة العضوية ، رد فعل أيضاً ضد الدولة اليبرايالية ، التي لا يجمع أعضاءها جماع ويوحدهم سوى العقد الاجتماعي ، في سبيل المصالح المتبادلة ، فهذه الدولة الليبيرالية ، بعرف الرومانسين ، سرعان ما تنفرط وحدتها ، مع أول بادرة خلاف في المصلحة ، وما أن تأمن العقاب في نتهاز الفرصة في تحقيق مصلحتها . لذا ، فوحدتها مستحيلة ، أشبه بتربيع الدائرة ، وهي تنتهي في الغالب بحكم دكتاتوري . هذا كان مثالهم السياسي ، الدولة العضوية التي يشارك فيها الكل .

(٨) أما مثالهم الديني ، فهو أكثر تعقيد ، وأكثر غنى ، لكونه في تلك الفترة ، كان الدين محور الجدل والتفلسف ، لذا ، سنتوسع قليلاً في وصفه ، كما فعل ، فردريك باستر ، قلنا ، أن لكل فلسفة مقولة أو ثيمة، أو فكرة محورية تدور حولها , وكانت الفكرة المحورية لدى الرومانسية ، هو الخير الأسمى ، أو الهدف النهائي ، فالخير الأسمى في الأديان كان هو الحياة الآخرة ، وما بعد الموت ، هذا يجب ما يعمل له المرء . والخير الأسمى ، عند الرومانسين ، هو الخيرة الذي يمكن تحقيقه في هذه الحياة وليس في العالم الآخر . فالخير يجب أن يكون في هذه الدنيا، وفِي هذا العالم ، وليس فيما بعده ، فالأنسان إذا استطاع أن يحقق وحده مع نفسه ، ومع الأخرين ، وحدة مع الكون ، يكون حقق الهدف من الحياة والقصد منها . ولذا نرى أن مثال الرومانسين ، بخلاف المثال الديني ، الذي يكون في العالم الآخر ، فالقديس أوغسطين ، مثلاً ، ، والذي هو من كبار الاهوتين ، يعتبر هذا العالم مجرد وادي للموت ، والامراض ، والأسى ، ومجرد ممر لما بعد الحياة ، للعالم الآبدي والخالد . بينما يرى الرومانسين الخير في هذا العالم ، في تحقيق الوحدة مع الذات ، ومع الآخرين وجعل هذا الكون ، كأنه بيتك . فهم لم يعلقو أهمية كبير على المصير الفردي وخلود النفس ، كما هو حاصل في الأديان .

والرومانسين ، في الحقيقة أتخذوا ، من حياة الأغريق ، والرومان ، مثلما تصورهم ، نموذج وقدوة، فالاغريقي ، والروماني ، كان معنى الحياة وهدفها في خدمة المجتمع الذي يعيش فيه ، والذي يعتبره أسمى منه ، فهو الكل ، وهو جزء منه . ولم يبالي في أنقاذ نفسه خارج هذا الكل ، وفِي عالم آخر . فهو يساهم مع غير في صياغًة حياة هذه المجتمع وقوانينه . ويجد كل قناعته في المجتمع الذي يعيش فيه ولا يتطلع لما هو أبعد منه . ولذلك عد فلاسفة الرومانسية ، بحث المسيحية عن أنقاذ وحياة ما بعد الموت ، كعلامة فقط اليأس وصرخة فزع من انحلال هذا المجتمع العضوي المتلاحم ، بعد سقوط الدولة اليونانية القديمة والجمهورية الرومانية ، بعد أن فقد الناس حريتهم ولم يعد يساهمون في حياة المجتمع ويحكمون أنفسهم بأنفسهم . ومن هذا اليأس والفزع الذي أصابهم ، من فقدان مجمتمعهم المثالي أخذوا ، البحث عن عزاء ومعنى للحياتهم وأنقاذها في عالم الآخر ، يقع وراء هذه الحياة ، وبعد الموت . وهكذا ، اعتبر الرومانسين من الرافضين للمثال المسيحي ، ولكل التراث السابق . فهم رفضوا على حد سواء ديانة الوحي ، والالهولية . وجاء رفضهم لديانة الوحي ، عن دافع سياسي ، ، لأن رجال الدين ، كانوا جزء من جهاز أيدلوجية الدولة ، والذي ، ما كان يعبر عنه ، بتحالف العرش والكنيسة ، وكذلك بسبب تأثرهم بالتنوير الذي وجهه نقد صارم للدين والكتب المقدسة . أما رفضهم الالوهية ، وهو المذهب يؤمن في الله دون الوحي والكتاب المقدس ، فقد حدث نتيجة التنوير الثقافي ، ولأنهم ، رأوى ، في الإلوهية ، هي أنها ، تبعدهم عن الوحدة مع الطبيعة وتغربها عنها ، وأنها ما زالت تضع كيان أو روح خارقة فوق الطبيعة، وخارج الكون وتتحكم فيه ، وتنظر لكون على أنه مجرد مكينة يديرها الله ، ويحركها ، أو أنه ترك الكون يسير بنفسه ، وهجره بعد أن وضع له قوانينه ، وهكذا ، فقد الكون ، كل دلالة الإلهية . ومع ذلك، برغم من أن الرومانسين رفضوا المفهوم المسيحي للكون والله ، فأنهم بقوا مع ذلك متدينين ، كما يؤكد فردريك باسر، غير أن فهمهم للدين مختلف تماماً عن الفهم الذي لدى الأديان ، فمفهومهم لدين مثل مفهوم إلى الخير الأسمى ، كان محايث ، لما موجود في هذا الكون . فهم نظروا للدين ، الله ، على أن الانهائي أو لا محدود ، الكون ككل . فمثل هذه الدين وحده عندهم يتغلب عن الاغتراب عن الطبيعية ، فالإنسان يستطيع أن يوحد نفسه مع الطبيعة فقط إذا نظر لنفسه على أنه جزء من كل شامل ، من جوهر واحد ، من كون واحد . وكان خير من يمثل هذا الفهم ، في الجوهر الواحد ، والكون الواحد ، أو ما يسمى في في وحدة الوجود ، هو الفيلسوف الهولندي ، ذو الأصل اليهودي ، سبينوزا . ولقد كان لاسبنوزا تأثير مشهور على الفلاسفة الألمان بشكل خاص ، فقد كان يسمونه الفيلسوف الذي يشرب مع الله . فما وجده الرومانسين ، لديه ، هو أنه أول من حاول عقلنة الدين ، فاسبنوزا حاول أن يوحد الله مع الطبيعة أو الكون ويجعل منهما شيء واحد ، فالله هو الكون والكون هو الله .وبهذا يبدو حل أكبر مشكلة تصارع مع الفلاسفةمنذ فترة طويلة ، هي مشكل العقل والإيمان ، فهو آله الكون ، وجعل الله حال في الكون . وهو كذلك قضى على مشكلة الثنائية ، الروح والجسد ، وجعل منهم شيء واحد ، فالروح حسب سبينوزا هي صفة من صفات الجوهر الواحد ، الذي يتميز في الامتداد والفكر . فكل ما يوجد هو تعبير عن هذا الجوهر المفرد . وهكذا جعل ، من الله الغامض الخفي ، كما كان في الأديان ، واضح بين للكل ، فهو الكون كلل ، ونحن تعبير عنه ، ويمكن نجده في كل منا ، لأننا جزء منه ، ويشير، باسر ، ، بأن انجذاب الرومانسين نحوه ، لم يكن مجرد ولع فلسفي ، وأنما لسبب سياسي أيضاً ، ويورد عبارة ، الشاعر الألماني المشهور ، هنريش هاينه ، بأن عقيدة التوحيد التي نادى به سبينوز كانت هي الديني السري إلى ألمانيا ، فقد اعتنقة ، كل الساخطين على خيانة الاصلاحي لوثر لتباعه ، في منحهم الحرية ، وأن يكون هم القسس لأنفسهم . فالوثر ، رجع لتشديد على الفهم الحرفي الكتاب المقدس كعلامة على الإيمان . ولذلك كلهم اعتنقوا عقيدة سبينوزا ، لانها تساوي بينهم وتعطي الحق في الحرية بتفسير الكتاب المقدس حسب ما يفهموه . ولذلك لا تغدو هناك حاجة للقسس في تفسير الكتاب للناس . ولهذا لم يبالغ هاينه حينما قال بان السبينوزية هي بات العقيدة السرية الألمانيا لأنه علمن الدين ، وكانت ألمانيا على اعتاب نهضة علمية . فنزعة الرومانسين وفلاسفتها ، في اعتناق مذهب وحدة الوجود ، كانت منسجمة مع مذهبهم الذي يناهض التقسيم والتجزء في كل أشكاله .

(٩) ويمكن القول ، بعد هذا ، أن رغم مذهبهم ، أي الرومانسين هذا جميل وفاتن ، ولكنه ، يبدو غير حقيقي ، وطوباوي ، من وجهة النظر المعاصرة ، كما يشير باسر ، فهذا المثال المتخيل للعصور القديمة لدى الإغريقي والرومان يبدو غير معقول في فترتنا ، التي تعاني من التقسيم، والتمزق ، على ثلاثة مستويات ، على صعيد الذات ، وعلى صعيد العلاقة مع الآخر ، وكذلك مع العلاقة مع الطبيعة .فمع العلاقة مع النفس نرى الفرد يعاني من تقسيم العمل ، فكل واحد بات متخص في جزء يسير من العمل ، الذي ، لا يضيف له شيء على صعيد الروحي والنفسي ، بل يعمل على تضيق أفقه ، وحصر حياة في مجال محدود . وكانت هذا الناحية ، محط شكوى الكتاب والشعراء ، في كيف أفقرت الحياة أبناءها . ففي السابق ، وكما تخيل الرومانسين ، أن أناس تلك الفترة لم يعانوا تلك المشكلة ، فالمواطن الحر، في هذين الدولتين كان لديه فراغ كبير في تخصيص لنفسه ، لأن نظام العبودية ، كان يسمح لهم بذلك، ولم يكن النظام التكنولوجي بهذا الحجم الذي هو عليه الأن . لهذا نجد أن الرومانسين واجهوا صعوبة ، كيف يمكن تحقيق مثالهم ، في وحدة الذات والعمل الغير متخصص بدون نظام العبودية. ؟ وعليه ، توسلو للفلسفة أن تجد حل لهذا المعضلة ، اما على صعيد العلاقة المتينة مع الآخر ، فأيضاً عانت من مشكلة خطيرة . فالحياة في العالم الحديث تميل نحو الفردية ، والذرية ، فالأفراد عبارة عن ذرات لا رابط بينها ، فالأشخاص منفصيلين عن بعضهم ، وكل واحد يبحث عن مصالحه واهداف بعيد عن الآخر ، ولا تكاتف في نشدان غاية عامة . فهم أيستخدام بعضهم بعض لمأربهم الخاصة . وما عادة الدولة تمثلهم ، فهم يشعرون في العداء لها ، لأنها تريد السيطرة عليهم وأستخدامهم كأدوات في سبيل أغراضها ، التي هي مصالح مجموعة معينة . فالعلاقة مع الآخر ، في فترة الرومانسين ، وكما صورها ، فردريك باسر ، تخلو من كل ود وحب ، ولا طعم فيها . أما العلاقة مع الطبيعة ، في الحياة المعاصرة ، فقد آلت إلى استخدامها كوسيلة ، وأنتهى سحر الطبيعة وتأملها ، ففي السابق ، أي في عهد القداماء ، كانوا ينظرون لطبيعة على أنهم جزء منها ، فهي الكل الذي يثير أعجابهم ويبعث في نفوسهم الخشية والإجلال . فهي محط الجمال والأسرار والسحر . أما التكنولوجيا في عالمنا فقد حولتها ، لمجرد وسيلة لا روح فيه ولا سحر ، مجرد ماكنة تخدم أغراضنا . ففي ظل هذا الوضع ، المنقسم فيها الإنسان على نفسه ، وفِي عداء مع الآخر ، والطبيعة ، كيف يمكن تحقيق المثل الذي ظنوه عاشه الأغريق والرومان ، فالبعض ، نظر لهذه المثل الذي أبدعه الرومانسين على مجرد صرخة احتجاج ضد وضعهم البأس ، وضد التقدم الذي لا يرحم ، والذي يمزق كل رابطة ، ويقطع الكل المتماسك للجزاء متناثرة ، لهذا لجئ الرومانسين لنشدان الحل عند الفلسفة .

(١٠) وبعد هذه الرحلة ، مع الرومانسين ، ومفهومهم ، عن العالم ، والحياة السعيدة ، التي يجب تعاش ، بعد أن صور حياة الأغريق والرومان على أنها المثال والنموذج الذي يجب أن يحتذى ، وأن الحياة المعاصرة والحاضر بائسة ، ويجب تغيرها لكي تكون منسجمة وهرمونية . جاء الفلاسفة ما بعد الرومانسية لكي يعللو هذا الاغتراب ويجدوا الحلول له . وكما رأينا فقد كان هناك ، من رأى في هذا الاغتراب على أنه شيء ميتافيزيقي ، ، من طبيعة ، لا دخل لظروف الحياة شأن به ، ومن جهة آخر رأى البعض أنه من طبيعة أجتماعية ، سيتم في النهاية اللغاءه ، بعد تصل الأمور لمنتهاها ، كما الحال عن هيغل وفخته ، تصوراه ، من طبيعة ميتافيزيقة ، خارج نطاق سيطرة الأنسان عليه ، والبعض أرجع هذا الاغتراب إلى ظروف اجتماعية وأقتصادية ، كما أشرنا للماركس وفيورباخ .

(١١) ونحن نريد أن نناقش فيما بقى من حيز لهذا المقالة ، مفهوم الاغتراب وهل يوجد فعلاً ثمة اغتراب ، أم أن الوضع ، طبيعي ، وهو الحالة الأصيلة الذي وجد عليه الأنسان ، فالاغتراب ، كما يفهم منه عادةً أنه في الأصل ، كان المرء يعيش حالة مختلفة آخرى ، وابتعد عنها واغترب ، فالاغتراب كما يفهماً لغوياً ، ابتعد ، أو مصادر لملكية من صاحبها واغترابه عنها ، بينما رأينا بأن الرومانسين ، بنو مفهومهم في الأغتراب ، عن وهم ، وتوهم ، بأن الأغريق والرمان عاشو في مجتمع منسجم ليس فيه أنشقاق عن الذات ، وصراع مع الآخرى ، وابتعاد عن الطبيعة . ثم ، تبنى الفلاسفة الذين جاءوا بعدهم أو عاصروهم مفهموم الاغتراب الذي قال به الرومانسين ، وكأن , فعلاً ، هناك حدث وقع في تاريخ ، وتم الأبتعاد عن الحالة الأصيل ، كما مثلا ، في أسطورة طرد آدم من الفردوس ، ليعيش بعد ذلك حياة كد ومكابدة ، وكله ، حنينين وتوق لعودة لما كان عليه . فنحن نرى ان الاغتراب مجرد أسطورة ، فحياة الإنسان منذ وجود على سطح هذا الأرض ، هي حياة معاناة وتمزق في الداخل ، وصراع مع الآخر ، ومحاولة السيطرة على الطبيعة ، وحلم الإنسان أن يفضي في يوم ما هذا الصراع وتلك المعاناة ويصبح العالم كل ملك له ، ومحل لتأمله وبهجته . ولكن ذلك بقى ولحد الآن هو مجرد حلم ، ولم يصبح حقيقة واقعية . فمفهوم ، الاغتراب ،وكما عبر عنه فلاسفة الاغتراب ، محاولة الإنهاء الوضعية البدائية والتي لم تعد تنسجم مع ما بلغت الانسانية من قدرات وأمكانيات في جعل الحياة جنة على الأرض وهذا ما عناه ، ماركس حينما قال أن الفلاسفة فكروا في العالم وتأملوا في بدل من تغيره . ولكن ، التغير ، فيما يبدو قد فات آوانه في وضعنا الحالي . فالصراع بات على أشد ، والحلم في تغير لم يعد يفكر به أحد . وستبقى الحياة ، تتخذ مجراها المعتاد، في الصراع والمعاناة ، ونظر للعالم على أنه أداة رهيبة في لتعذيب ، كما في قصة كافكا مستعمرة العقاب . فالحياة ، كما يقول شوبنهاور ، في عالمنا ، هي ضحية أرادة كونية عمياء ، في الصراع من أجل البقاء واستمرار النسل . هذه الأرادة الشريرة هي التي تملي على الناس تصرفاتهم وسلوكهم ، بحيث ، يتعذر عليهم التفكير أبعد وبخلاف ما تريد ، فهي نسيج هذا الكون ، ولا وعي ، الذي يصوغ الأفكار الواعية . وعليه سيبق الأغتراب الحالة الطبيعة ، وليس حدث عابر في تاريخ البشرية . فنحن لم نغترب ، في يوم ، عن شيء ، وإنما هذا كانت حياتنا ، نحن البشر ، ونحن ما زلنا نعيش نفس حالة أسلافنا ، منذ أن تحولوا من قرود إلى بشر ، فلم نغترب عن شيء ما ، وحلم الكثير من من سبقونا أن تنهي هذه الوضعية ، غير أن الكثير منا، بعصرنا هذا ، بات على يقين ، بأن العالم سيبقى كما كان، ولم يعد للحلم من معنى وجاذبية . فقد أبتعدنا كثيراً عن موطن الحلم ، وأصبح على كل واحد أن يحمل صليبه ويسير به لنهاية .

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here