“أم التسعة”.. مقبرة تجسد آلام الموصل

كلما زرتُ الموصل (مدينة ما بعد داعش) تقودني الخطى إلى المدينة القديمة، في كل مرة اكتشف أن لقصة الحرب هناك زاوية أخرى، فقد وقفت على مقبرة “أم التسعة” حيث دُفن مدنيون راحوا ضحية العمليات العسكرية.

قبور متراصة حفرتها أيادٍ مرتجفة من الخوف، وعلى عجل يودع المشيعون الجثامين لينسحبوا الى السراديب بسرعة بعيدا عن مناجل الحرب، هكذا جرت الأمور في “أم السبعة”، مقبرة الضحايا التي ما زالت شاهدة على الويلات التي جرتها إلى المدينة “دولة الخلافة”.

من بعيد تابعت رجلا محنيَّ الظهر يحمل بيده كيسا، كان يتقدم إلى المقبرة مطأطأ الرأس، ناور في مشيته بهدوء ليتجنب وطء القبور المنتشرة على نحو عشوائي.

وقف أمام ثلاثة قبور متلاصقة رفع كفيه الى الاعلى ليقرأ سورة الفاتحة ثم افترش التراب وحيدا واخرج علبة مياه بلاستيكية وبدأ يرش الماء عليها.

المقبرة مساحتها نحو ألف متر مربع، تتوسط منطقة مدمرة، كانت حديقة قبل بدء العمليات العسكرية للقضاء على تنظيم “داعش” في الجانب الأيمن آذار (مارس) 2017.

يقول محمد باسم، اسكن هناك – أشار الى منزله المطل على “أم التسعة”، شهدتُ دفنَ العشرات من أبناء المنطقة، نساءً وأطفالا وشبابا وشيبا، سقطوا جراء القصف الذي نفذه الطيران أو مدافع الهاون، لقد زرعنا الحديقة بأجساد الضحايا.

يشير الى الرجل الجالس في المقبرة وحيدا، “هذا العجوز يدعى قصي ابو حسين من سكان محلة المشاهدة القريبة من هنا، يزور المقبرة يوميا، مسكين لقد فُجع بأبنائه”.

اقتربتُ بحذر من ابو حسين، ألقيت التحية وجلست قريبا منه، الحزن طاغٍ تماما على وجهه، سألته لماذا تجلس هنا، فأجاب: “هؤلاء أبنائي حسين وعلي وسمية، دفنتهم هنا أثناء العمليات العسكرية، قضوا بقذيفة هاون سقطت على منزلنا، وكل يوم أزورهم اقرأ الفاتحة لأرواحهم”.

نحو مئة ضحية دفنت جثامينها في هذه المقبرة التي تغيرت هويتها عدة مرات، سبق وان كانت مقبرة لسكان المدينة القديمة. يقول محمد حديد “أجدادي دفنوا هنا، وعندما سيطرة داعش على الموصل، أمر بنقل جثامينهم وحوّل المقبرة إلى حديقة، وبسبب عدم قدرة الناس على الخروج من المنطقة أثناء ايام القتال الشرس بين القوات العراقية ومقاتلي داعش، اضطروا لدفن الضحايا في الحدائق وباحات الجوامع وحتى وصل الأمر الى ان يدفنوهم في الغرف.

“هنا دفناه” يشير محمد باسم وهو يرشد محمد حديد لقبر شقيقه الذي قضى ايضا بقذيفة هاون في نيسان(ابريل) الماضي “بعد التحرير عادت عائلتك لتنقل الرفات إلى المقابر المخصصة على أطراف مدينة الموصل” يخاطب محمد صاحب القبر.

ويقول “عندما اشتد القتال وزاد عدد الضحايا من أبناء المنطقة، اخترت مكانا هنا ليكون مقبرة لي ولعائلتي، اعتقدت أننا لن ننجو، فضاق المكان واعطيته لعائلة من سبعة أفراد قصف منزلهم وماتوا جميعا، دفناهم ونحن نبكي، عائلة كاملة أبيدت”.

محمد حديد شقيق الضحية الذي غادر المدينة منذ عام 2015 ولم يعد اليها الا بعد طرد داعش منها يقول “عندما زرت المقبرة هانت عليّ فاجعتي بشقيقي، الكثير من العائلات فقدت ثلاثة واكثر من ابنائها، كحال جارنا ابو حسين”.

بعض العائلات نقلت رفات ابنائها من “أم التسعة” وأعادت دفنهم في المقابر الأخرى، وربما سيأتي الدور على بقية القبور ليتم نقل الرفات منها.

ليس ابو حسين وحده من يكرر الزيارات الى هذا المكان المتخم بالحزن، على أحد القبور شاهدت قطع شوكولا وورد منثور، وثمة أسماء مكتوبة بخط يد ومثبتة على قطع خشب او حجر، انها للضحايا المدفونين هنا.

قريبا من “أم التسعة” عملت فرق الإنقاذ التابعة للدفاع المدني في نينوى على انتشال جثث المدنيين ونقلها الى المقابر، وسبق ان أعلن عن انتشال اكثر من 2500 جثة لضحايا سقطوا جراء العمليات العسكرية لأربعة اشهر للمدة من اذار (مارس) حتى تموز (يوليو) الماضي.

الرقم ما زال يرتفع، رئيس لجنة انتشال الجثث في بلدية الموصل المهندس مهندس دريد حازم قال لـ”نقاش” عبر اتصال هاتفي: من 6 حزيران (يونيو) 2017، وحتى الان انتشلنا 2653 جثة لمدنيين وتم تسليم الجثامين لذويهم.

تنظيف المدينة من الجثث مستمر، لقد رأيت عددا من جثامين مقاتلي داعش في منازل وكنائس بالمدينة القديمة، ويشير حازم الى ان البلدية وفرت مواقع “لطمر جثث داعش في مقابر جماعية خارج حدود مدينة الموصل”.

وقف بصعوبة على قدميه وقال وهو ينظر إليّ بانكسار، “لا شيء يعوضني عنهم، حياتي انتهت، سأحاول ان ابقيهم هنا ولن انقطع عن زيارتهم، لقد كان حسين (20 عاما) ملازما لي في العمل، كسروا ظهري برحيلهم”.

وهو يمسح دموعه التي سالت على خده المليء بالتجاعيد، اخرج علبة بلاستيكية، رش الماء على القبور الثلاثة، ثم رحل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here