ابو نؤاس في سطور !

(*) د. رضا العطار

كان ابو نؤاس يتحاشى اغضاب الخلفاء العباسيين ويدرك مستلزمات سياسة الدولة, بغية الأستمتاع بحياته الخاصة. وعندما بدأت السلطة العباسية تفتك بالبرامكة، لم يرق له ذلك, فالبرامكة الفرس كانت لهم سلطان واسع ونفوذ ثقافي كبير في الدولة، إذ ان كبيرهم الفضل بن يحيى البرمكي كان قد انشأ في عهد الرشيد مصنعا للورق في بغداد، بعد ان اقتبس هذا الفن من مدينة طاشقند في الصين، فكان الاول من نوعه في بلدان الشرق الاوسط .. ولهذا ترك ابونؤاس العراق مغتاضا، احتجاجا على اجراءات الخليفة. متوجها الى مصر، وهو ينشد قائلا :

سلام على الدنيا اذا ما فقدتم * * بني برمك من رائحين وغاد

بفضل بن يحى اشرقت سبل الهدى * * وامن الناس خوف كل بلاد

وعندما وصل ابو نؤاس مصر، حياه واليها الخصيب، فرد التحية قوله :

انت الخصيب وهذه مصر * * فتدفقا ماء فكلاكما بحر

النيل ينعش مائه مصرا * * ونداك ينعش اهله الغر

لكن ابونؤاس لم يطق الحياة في مصر طويلا، فقد آلمه الفراق واشتد به الحنين الى وطنه، بعدما ذاب في طيب العراق وهام في خلائق اهله. فكان يردد الأبيات التالية :

سقيا لبغداد وايامها * * اذ يومنا نطويه بالقصف

مع فتية مثل نجوم الدجى * * لم يطبعوا يوما على حذف

يسقيهم حمراء ياقوته * * تسرج في الكأس وفي الكف ويضيف

بكيت من الفراق لما الاقي * * وراجعت الصبابة والغراما

سأعود الى العراق وكلي شوق * * مفارقا الجزيرة والشاما

فكرً ابونؤاسً راجعا الى بغداد وتفاجأ ان يرى اوضاعها السياسية قد تبدلت.
فقد مات الرشيد واعتلى ابنه الامين عرش الخلافة، ايذانا بتألق حياة ابي نؤاس، فقد ساعدت قصائده الخمرية الفاضحة على توطيد الروابط مع الخليفة الجديد، حتى انه عاش في كنفه ورعايته حتى تحولت دار الخلافة تدريجيا الى مقصف طرب.
تتفق الروايات على طيش الأمين, فكان يقيم حفلات ماجنة صاخبة داخل قصور الخلافة حتى ان اهالي بغداد كانوا يصفونها بالحانات الليلية.
كان الامين شغوفا في معاقرة الخمرة, لا سبيل له الى احتسائها الا متتابعا، كأنما كان في قلبه جذوة من الغرام بها, حتى اذا نام واستيقظ في السحر طلب الى نديمه ابي نؤاس ان ينشطه ببعض الأبيات فيقول :

نبًه نديمك في السحر * * يسقيك كأسا في الغلس

صرفا كأن شعاعها * * في كف شاربها قبس

تذوا الفتى وكأنما * * بلسانه منها خرس

يدعى فيرفع رأسه * * فأذا استقل به نكس

فيهش ( امير المؤمنين ) وينشط ويدعو بالشراب, يصطحب به لليوم التالي وينعم بنشوته, غير مبال لوقار خلافة ولا لحرمة دين.

وعندما عج قصر الامين بالغلمان، شاعت حوله بين الاهالي قولة السوء, ودرأ لسمعته قامت امه المترملة زبيدة بأكساء عشرة فتيات جميلات ثوب الفتيان, لتصرف ابنها عن سلوكه المنحرف. فظهر اول مرة في العصر العباسي مصطلح الغلاميات, وانتشرت موضة لبس ثياب الشباب من قبل ساقية الحانات وباقي ملاهي بغداد.
الحلقة التالية في الاسبوع القادم

* مقتبس من كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف الطبعة الثامنة القاهرة 1982 ومن ديوان عمر فاروق الطباع شركة الارقم بيروت 1998

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here