نعي رحيل المفكر وعالم الاجتماع العراقي د. فالح عبد الجبار

د. بارق شُبَّر*: فالح عبد الجبار كما عرفته
سقط في أرض المعركة جريحاً في القلب، فهل مات شهيداً؟

في يوم الأحد المصادف 25 شباط 2018 وبحدود الساعة الخامسة مساءً كان يسجل حلقة جديدة من المسلسل الوثائقي “العراق في قرن” الذي تبثه قناة الحرة عراق منذ شهور كل يوم أحد. وسبق له أن ظهر في حلقات سابقة مرات عديدة شاهدت البعض منها يتكلم عن احتلال بريطانيا للعراق في 1917 وعن ثورة العشرين وبدايات تأسيس الدولة العراقية ودور الملك فيصل الأول ومن ثم الملك غازي بمنطق تاريخي سوسيولوجي مبني على أسس عليمة رصينة. رأيت في تحليلاته محاولة جدية لتصحيح تاريخ العراق السياسي الحديث، وتولَّدت لدي قناعة تامة أنه كان في معركة ليست الأولى مع المحاولات المتكررة لتزيف وتحريف تاريخ العراق الحديث، هذا التاريخ الذي كان وما يزال ضحية موجات عديدة من التزييّف والتحريف من قبل مثقفين متأدلجين وتابعين للسلطة، عراقيون وعرب، أعنفها كانت في منتصف سبعينيات القرن الماضي تحت مسمى “إعادة كتابة التاريخ” وكان عرّابها صدام حسين، رصد لها أموالاً طائلة ووصلت سمعتها ألمانيا وقد وثَّقها الأستاذ الجامعي الألماني المتخصص في الاستشراق ستفان وايلد (Stephan Wild) وكتب عنها الاستاذ الجامعي المتخصص في تاريخ العراق الحديث والثقافة البروفسور بيتر هاينه (Peter Heine) في مدونته الورقية “الكتاب السنوي لتاريخ وثقافة العراق الحديث” (Jahrbuch zu Geschichte und Kultur des Modernen Iraq)
أصيب فالح أثناء التسجيل بذبحة قلبية شديدة ولم يمهله القدر سوى بضع ساعات ليتوقف قلبه عن النبض في الصباح الباكر من يوم الإثنين المصادف 26 شباط 2018. جاء رحيله المبكر صدمة كبيرة لي مثل كل زملائه وأصدقائه وقرائه، وخصوصاً أنّى كنت على شبه موعد معه في يوم رحيله. منذ أشهر وأنا أحاول الحصول على كتابه “اللويثان الجديد”. قبل انتشار خبر الوعكة الصحية في يوم الأحد اتصل بي صديق من بغداد كنت قد طلبت منه تدبير الكتاب وأخبرني أنه حصل عليه وسوف يصل برلين يوم غد الإثنين لحضور مؤتمر “عراق بتروليوم”. كانت فرحتي كبيرة وكأن فالح بنفسه سوف يصل برلين يوم غد، لكن الموت كان أقوى من تمنياتي.

قراءتي الأولى له كانت باللغة الألمانية وهي ترجمة من الإنكليزية لبحثه المنشور في مجلة ميريب (MERIP) عدد 215 الصادر في صيف 2000 عن القبيلة والسلطة. أهم المحاور التي تطرق إليها كانت إحياء حزب البعث للثقافة العشائرية في العراق وتحليله للجذور التاريخية للقبلية والعشائرية في العراق، وكيف كانت آيلة إلى الانحلال والتفكك بعد سقوط النظام الملكي في عام 1958. ومن ثم استنبط كيفية إعادة حزب البعث إحيائها بهدف تعزيز سلطته على الدولة، ولكنها انقلبت على الحزب واختطفت الدولة منه. أعجبتني مهارته التحليلية العلمية الفائقة والتي رأيت فيها مواصلة لمسيرة مؤسس علم الاجتماع في العراق الراحل علي الوردي وتطويراً لطروحاته. صدر البحث المترجم في كتاب بعد حرب 2003 وسقوط النظام البعثي الصدّامي باللغة الألمانية تحت عنوان “العراق – بلد ما بين الحرب والسلام” وتضمن أبحاثاً لمجموعة من كتاب ألمان ودوليين متخصصين في الشأن العراقي. أما قراءتي الثانية له فكانت رثاء لإدوارد سعيد في عام 2003 باللغة الإنكليزية ولا أتذكر منها سوى المستوى اللغوي الراقي، حيث قلت لنفسي هل أنجب العراق شكسبيراً جديداً.
أول لقاء لي معه كان في أبو ظبي في عام 2006 حين جاء بدعوة من مركز الإمارات للدراسات والأبحاث الاستراتيجية والذي عملت فيه كمدير بالإنابة لقسم الدراسات الاقتصادية والاجتماعية. وفي نهاية أمسية نظمتها السفارة العراقية في فندق إنتركونتيننتال ألقى فيها محاضرة عن الاستراتيجية الأمريكية في العراق، جلسنا في المطعم مع بعض الاصدقاء وتحدثنا عن مشاريعه ومنها المعهد العراقي للدراسات الاستراتيجية الذي أسسه حديثاً في بيروت وإمكانيات التعاون بيننا.

في نهاية عام 2012 كنت أُحضّرُ للمؤتمر العلمي الأول لشبكة الاقتصاديين العراقيين. وجهت إليه دعوة للمشاركة، سيما وأن المؤتمر سينعقد في بيروت التي يقيم فيها في ربيع عام 2013 فاعتذر مني بسبب تواجده في لندن لرعاية زوجته التي كانت مريضة، وأرسل لي بحثاً وجيزاً باللغة الإنكليزية عن مفهوم الاقتصاد الريعي تمَّ نشره على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين القسم الإنكليزي. ومن هذا البحث يظهر جلياً أن الراحل كان يتمتع بفهم اقتصادي رصين.

وفي شباط/فبراير 2014 التقينا للمرة الثانية في مؤتمر “الذكرى المئوية لميلاد علي الوردي” الذي انعقد في الجامعة الأمريكية في بيروت وحضره عدد كبير من الأكاديميين والباحثين العراقيين والدوليين، وقدم فيه فالح بحثاً رائعاً عن علي الوردي. في نهاية المؤتمر التقينا بدعوة منه على العشاء في أحد المطاعم البيروتية الصغيرة والجميلة، وتناقشنا بحضور حيدر سعيد وزملاء آخرين حول مفاهيم علي الوردي البحثية وأتذكر جيداً كيف كان يتغنى بمفهوم(community disharmony) لكونه أصل المفهوم الذي استعمله علي الوردي في تحليلاته للمجتمع العراقي وهو (التناشز الاجتماعي) والذي من وجهة نظري ما يزال يكتسب أهمية كبيرة في التحليل العلمي لمشاكل المجتمع العراقي الآنية. لقد عرفت فالح متواضعاً في ملبسه وحياته ولكن ذواقاً في الأكل وفي جمالية اللغات العربية والإنكليزية.

بعد هذا اللقاء توطدت اللبنات الأولى للتعاون بين معهد دراسات عراقية الذي أسسه وكان يديره. دعاني لزيارة المعهد وأهداني العديد من كتبه ومقالاته من بينها كتابه “العمامة والافندي” وترجمته لكتاب بول هيرست وجراهام طومبسون الموسوم “ما العولمة” وكتابه “في الأحوال والأهوال – المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف” والكتيب الموسوم ” الهولارلا – أوراق الجنون” الذي يحتوي على خواطر وذكريات في بيروت كتبها بلغة عربية جميلة وأرفقها برسومات معبرة لفاطمة مرتضى. كما زوَّدني بالعديد من مقالاته القيّمة. وبطبيعة الحال يمثل ماقرأته جزء ضغير من المجموعة الكبيرة لمؤلفاته والترجمات التي قام بها واهمها كتاب رأس المال لكارل ماركس من الالمانية الى العربية واستغرق العمل عليه حوال عشر سنوات. في احدى لقائاتنا عرضت عليه فكرة تنظيم ورشة في برلين باللغة الألمانية في موضوع “أزمة المجتمع والدولة” وأظهر لي إعجابه بهذا الموضوع. ثم تعاونت معه في اختيار خبراء اقتصاديين للمشاركة في المؤتمر الذي نظمه المعهد حول الاقتصاد العراقي في ربيع عام 2015 في بيروت. وحضر العديد من الاقتصاديين وفي مقدمتهم د. وليد خدوري و د. أحمد ابريهي وعضو اللجنة المالية في مجلس النواب الدكتورة ماجدة التميمي والاستاذ باسمجميل انطوان ود. علي مرزا و د. بارق شبر ود. خير الدين حسيب والاستاذ مهدي رحيم وغيرهم ، وقدم الزميل د. علي مرزا من شبكة الاقتصاديين العراقيين بحثاً قيّماً بعنوان “الاقتصاد النفطي العراقي بعد أزمة انخفاض الأسعار” وأنا قدمت عرضاً أولياً لبحثي عن “مأزق السياسة المالية في الدولة الريعية”. وللتعرّف على بقية الأبحاث التي قدمها لفيف من الخبراء الاقتصاديين والسوسيولوجيين والماليين أُنظر البرنامج والصور على موقع معهد دراسات عراقية المشار اليه في الاسفل. كانت مشاركتي في هذا المؤتمر تجربة فريدة للتعرف عن كثب بالراحل فالح عبد الجبار وتوجهاته الفكرية وإيمانه المطلق بالحرية والتعددية الفكرية فلقد حرص على إشراك مختلف التيارات والمدارس الفكرية في هذا المؤتمر.

لقائي الأخير به كان في مطلع عام 2017 عندما قَدِم برلين ليشارك في ورشة علمية لتأبين الفيلسوف السوري الراحل صادق جلال العظم التي نظمتها مجموعة من المثقفين السوريين. قدَّم فالح تقييماً رائعاً لكتب العظم المنشورة بعد ما سمي بنكسة حزيران 1967 ونقداً لاذعاً للفكر القومي العربي. واعترف بأننا كنا جميعاً نعيش في أوهام وفقدان البوصلة الفكرية. للأسف لم تنشر كلمته وأتمنى على منظمي الورشة والعاملين في معهد دراسات عراقية البحث عن نص هذه الكلمة ونشرها. بعد الانتهاء من الورشة كان لديه التزام بحثي مع مركز دراسات الشرق الحديث (ZMO) في برلين والذي تديره زميلته في الدراسة في لندن الدكتورة أولريكا فرايتاغ المتخصصة في الاستشراق وتتكلم اللغة العربية بطلاقة. ونظم هذا المركز بعد حولي 4 أيام من العمل المشترك معه ندوة مفتوحة للجمهور عرض فيها الراحل نتائج بحثه الميداني الأخير حول حركة الاحتجاج في العراق والتي صدرت فيما بعد في كتاب. وخلال تواجده في برلين توفرت لي فرصة نادرة للقاء به على مدى بضعة أيام والتحاور معه حول قضايا فكرية وفلسفية عديدة من بينها الانحطاط الثقافي والفكري في العراق وفي العالم العربي وصعود الفكر السلفي الوهابي والتكفيري، وطرحت علية السؤال النظري عن إمكانية تفسير ظهور داعش وفق دورة ابن خلدون، وإن كان عناصر داعش يمثلون جيلاً جديداً من البدو الذين رفعوا السلاح لتحطيم الحضارة والمدنية، ولكنه وعلى ما يبدو لم يفهم مقصدي وردَّ، كعاته، بحزمٍ عليَّ قائلاً إن الدواعش لم يأتوا من الصحراء وإنما من المدن. جوابه كان صحيحاً ولكن شكلياً. وبسبب ضغط الوقت لم تسمح لي الفرصة لتذكيره بمقولته التي قرأتها في إحدى كتاباته عن علي الوردي حول “ضمور البداوة” لدى سكان المدن. وأتذكر جيداً نقاشاتنا حول الأوضاع السياسية الراهنة في العراق والتي لاحظت من خلالها ميله الشديد إلى الانجرار خلف أحداث السياسة اليومية ونصحته بالترفع عن ذلك وذكَّرته بنصيحة المرجع الديني السيد علي السيستاني لرجال الدين للابتعاد عن السياسة لأن السياسة يُمارس فيها الكذب، فهزَّ رأسه موافقاً. وفي هذه اللحظة تذكَّرت ما قاله لي في لقاء سابق في بيروت كنا نتحاور عن العلاقة بين الدين والدولة وعن دور المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني بأنه يمثل “ولاية الأمة” على عكس “ولاية الفقيه” في الجمهورية الإسلامية في إيران.

ما أعرفه عن فالح يمثل مجرد شذرات من تاريخ حياته الفكرية ومعاركه النضالية. إنه من جيلي، وكما وصفنا الشاعر فاضل العزاوي “جيل الستينيات” ذو الروح الحية. قال لي فالح في أحد لقاءاتنا في بيروت أن الانتفاضة الطلابية في ألمانيا في عام 1968، مهدت للديمقراطية الحقيقية في ألمانيا فوافقته الرأي على الفور لأني عايشتها أنا وصديقي الدكتور إبراهيم الحيدري في جامعة فرنكفورت عن كثب وبحكم معايشتي للمجتمع والنظام السياسي في ألمانيا منذ عام 1964.

قيلَ وكُتب عنه أنه قارع نظام البعث الفاشي بالكلمة في بغداد خلال سبعينيات القرن الماضي، وحاربه بالسلاح في جبل قنديل في أواسط ثمانينيات القرن الماضي. وبالرغم من معرفتي به بعد التغيير في عام 2003 يمكنني الشهادة من خلال قراءاتي لبعض منجزه العلمي ولقاءاتي العديدة معه في بيروت وبرلين واطلاعي على منجزات معهد دراسات عراقية بأنه واصل معركته مع الأفكار الظلامية والتخلف الاجتماعي والاقتصادي مدافعاً عن حرية الفكر والتعددية السياسية والديمقراطية الفتية في العراق بكونها الشرط الأساس للتطور الاقتصادي والاجتماعي. عرفته كمتصدي لمزيّفي ومحرّفي التاريخ العراقي والإسلامي وكمفكرٍ تنويري متمرداً على الأفكار الظلامية، وله اطلاع واسع ليس على التاريخ العراقي العربي الإسلامي فحسب وإنما على التاريخ الأوروبي والحركات الفكرية والسياسية بامتياز لم أجده لدى أي مفكر عراقي آخر. لم يكن فالح مجرد عالم في الاجتماع، بل كان فيلسوفاً ومؤرخاً ومحللاً سياسياً واقتصادياً ترك بصماته العميقة في مسيرة البحث العلمي في العراق الجديد. رحيله المبكر ترك فراغاً كبيراً خلفه. أترك للقارئ الكريم الحكم فيما إذا كان قد رحل عنا شهيداً أم لا. جنات الخلود يا صديقي العزيز فالح عبد الجبار، فلك تحية إكبار وإجلال.

المصادر والروابط

Al-Rafidayn: Jahrbuch zu Geschichte und Kultur des Modernen Iraq. Bank 1,Herausgegeben von Peter Heine, Ergon Verlag, Würzburg, 1991
Kai Hafez / Birgit Schäbler (Hrsg.): Der Irak – Land zwischen Krieg und Frieden, Palmyra Verlag Heidelberg 2003
مؤتمر في الاقتصاد العراقي. موقع معهد دراسات عراقية
http://www.iraqstudies.com/cona2.html
موقع مركز دراسات الشرق الحديث في برلين
https://www.zmo.de/

)*) مستشار اقتصادي دولي سابق، مؤسس شبكة الاقتصاديين العراقيين والمنسق العام لها.

http://iraqieconomists.net/ar/

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here