قلوب على أجنحة طير مهاجر

_________________ ضياء محسن الاسدي
(( أم عاشت مع أولادها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بكل صعابه وآلامه ومعاناته تكابد الحياة الصعبة بعيدا عن أهلها وأقربائها مع زوجها الطيب القلب الذي كان لها الزوج والأب والأخ والأم وكل شيء لها حتى أوصلا أبنتيهما وولدهما الوحيد ليصبح شابا يافعا في عمر الورود محاطا بكل ما يصبو أليه من العيش الرغيد وبشهادة جامعية خلاصة تضحياتهما الأبوية لم يبخلا عليه بشيء فكان هو الأمل الوحيد لهما في تعويضهما عن السنين العجاف الصعبة التي مروا بها وكانا يأملان منه أن يكون الكف الحنونة والصدر الرحب الذي يحتضنهما في شيخوختهما فهو العين والنفس والروح لهما . لكن في يوم من الأيام جرت الرياح ضد ما تشتهي السَفَنُ ودارت عقارب الساعة ظهرها لهما ووقع ما لم يكن في الحسبان فجأة ومن غير سابق أنذار أتخذ قرارا طائشا وقع كالصاعقة عليهما بعزمه شد الرحال للهجرة الى بلد آخر للعيش والعمل فيه . تحولت حياة الأم والأب الى جحيم مستعرة من النار تضرم بلهيبها قلبيهما وحنانهما وحبهما في كفة ميزان غير عادل مع كفة أصراره على السفر . وبعد صراع طويل جدا وجدلا عقيما طار الشاب بجناحه حاملا بمخالبه قلب والديه معه الى بلاد الغربة غير عابه بهما وغير مذعن لتأوهات وتوسلاتهما نتيجة الضغط النفسي الذي كان يعاني منه في حياته ومن المجتمع الذي يتحمل الجزء الأكبر في تحطيم معنوياته ونفسيته وأقرانه من الشباب فهم الضحية لهذا المجتمع . بدأت رحلة العذاب والمعانات للأم التي أصبحت خاوية القلب تفترش سجادتها بين الحين والآخر للدعاء والصلاة داعية منقذها الذي لا يخيب كل قلب والدة بالعودة لها ثانية وهي تبلل بدموع عينيها سجادتها وتطلق العنان للسانها المتيبس للدعاء رافعة أكف التضرع لله سبحانه وتعالى وهي تنظر الى زوجها الصابر على مضض القابض على جمر من النار بين أضلعه لا يبديه لأحد غير الله وحزنا مع مكابرة في التحمل معتصرا ألما على ما آلت أليه الظروف .كانت تمر الساعات كأنها سنين تحمل من المرارة ما لا يطاق للوالدة تحسها في فمها ودموعها تحفر على خدها . كم مرة أراها ليلا شبه نائمة بعد صلاة الفجر محتضنة مسبحتها وهي تلفها على معصمها بعد طول التسبيح والدعاء وهي ترخي جفونها للنوم بصعوبة . كانت تراقب الطيور في حمرة الغسق لتبعث سلامها ودموعها وحنانها على أجنحتها راجية منها العودة بالرد بأخبار منه . كم كانت عيونها شاخصة مع قلب يكاد ينخلع من مكانه مع كل طائرة مهاجرة أو عائدة الى المطار القريب من دارها عسى أن يكون ولدها من بين العائدين . كم من المرات تجمع دموعها بي أصابعها من محاجر عينها لترفعها نحو السماء وهي تناجي ربها الرؤوف الرحيم بحرقة أنفاسها كي يعيد لها ولدها ليغفو ثانية في أحضانها الذي كان مرتعا ومهدا دافئا له في صغره وكبره ويمسح غبار الزمن الصعب عن وجه أبيه في الأيام المتبقية له التي لا يعلمها ألا الله وحده ويرى فيه قوته وصلابة من جور الأيام )) ضياء محسن الأسدي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here