من ذكريات الخمسينات – مجلّـة الرسالة المصريّـة

د. بهجت عباس

في شارع الإمام موسى الكاظم (الكاظمية) الذي يبدأ من باب الدروازة وينتهي عند صحن الكاظمين أو العكس وعند تقاطعه مع شارع أو (دربونة) عند منتصفه يقع دكّان دعدوش الصَّغير لبيع السكاير والصّحف والملازم المدرسيّة وبعض الحلويّات. وفي الجهة المقابلة له تقع صيدلية السّلام عند ركن (عقد السّادة) لصاحبها الصَّيدلي الحاج هادي باقر (أخ الدكتور فرحان باقر) وهي ثاني صيدلية تُفتح في الكاظمية عمل فيها ابن أخته مدحت حمّـودي (مدحت المحمود – رئيس القضاة حاليّاً) مساعداً له (مساعد صيدلي) وفي أوائل الستّينات فتحتً صيدلية مقابلها وكان لذلك حدث وقصّة . في أوائل الخمسينات من القرن العشرين كنتُ أتمشّى في هذا الشارع عدّة مرات في اليوم وألاحظ المجلاّت والجرائد المنتشرة في هذا الدكّان الصغير (دعدوش) . لفتتْ نظري مجلة (الرسالة) معلّقة دائماً مما يدلّ أن لا أحد يشتريها. ومرّةً خطر ببالي شراؤها وكان سعرها 35 فلساً (نصف أسبوعيّتي). أعجبتني، إذ قرأت فيها مقالات جيدة وأشعاراً جميلة وكنتُ في الصف الثاني من الدراسة المتوسّطة . كان صاحبها أحمد حسن الزيّات كاتباً قديراً ومترجماً عن الفرنسيّة، وكان يكتب فيها سيّد قطب قبل تطرّفه. وهناك الناقد المصريّ أنور المعداوي والشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان ودريني خشبة وغيرهم. أعجبتني هذه المجلة (الرسالة) فاشتريتها في الأسبوع الذي تلاه. ولما رأى دعدوش أنني مواظب على شرائها، أخذ يجلب نسختين، واحدة لي حيث ضمَن بيعها وواحدة يعلّقها. واظبت على شرائها سنتين أو أكثر حتى إغلاقها عام 1953 فحزنتُ كثيراً ، إذ كانت في الحقيقة مدرستي الأدبية فقد تعلّمت الكثير منها، وخصوصاً المساجلات التي كانت تدور بين سيد قطب (من أتباع العقاد) والدكتور محمد مندور (من أتباع الدكتور طه حسين) وكنتُ أنتصر لسيّد قطب إذ أعجبتـني رصانة كتاباته وقوة حججه. وكان سيّد قطب يفتخر بالعقّاد الذي لم يحصل على دراسة جامعيّة بقدرته في الشعر والفلسفة وأنّه (أعظم) من طه حسين. وذكر بعض أبيات العقاد التي حفظتها وما زلتُ أتذكّرها

أذِنَ الشّفاء فماله لم يُــحمـدِ *** ودنا الرجاء وما الرجاء بمسعدى

أغدوتُ أم شارفتُ غاية مقصدي

برد الغليلُ اليومَ وانطفأ الجَّوى***وسلا الفؤاد فلا لـقاءَ ولا نوى

وتبـدّد الشَّملان أيَّ تبــدّدِ

وهو نفسه كان ينظم الشِّعر أيضاً.

وكان أنور المعداوي يصول ويجول بنقده بينما كانت فدوى طوقان تنشر شِعرها الجميل، فكانت علاقة من نوع ما بينهما، فأرسلتْ إليه صورتها مع هذه القصيدة الناعمة تقول فيها:

اذهبي واعبري الصّحارى إليْـهِ

فإذا ما احتواكِ بين يديْـهِ

ولمحتِ الأشواقّ في مقلتيْـهِ

مائجاتٍ أشعّـةً وظلالا

مُفعماتٍ ضراعةً وابتهالا

فإذا الليل سفّ منه الجناحُ

ومضتْ في انسراحها الأرواحُ

تتلاقى على مهـاد الأثيـر

عبـر آفاق عالمٍ مسحـورِ

عالم الحلم، مسبح اللاشعورِ

فاسبقي أنتِ كلّ حلم إليـهِ

واستقرّي هناك في جَـفـنـيـْهِ

عانقي روحه ورقّي عليـْهِ

واحذري أنْ تصرّحي، أنْ تبوحي

ودعيـهِ يمـوج في حبّـيـهِ

وفي أحد الأيّام من صيف 1952 ذهبتُ إلى سوق السّراي للبحث عن كتاب فوجدتُ بين الكتب المطروحة على الأرض مجلّداً ضخم الحجم، فلما تصفحته وجدته مجموعة مجلة الرسالة لعام 1943 (52 عدداً)، لم أصدّق ما وجدتُ، وخصوصا كان الثمن 50 فلساً فاشتريتها دون تردّد وقرأت فيها الكثير، حيث كانت كتابات مصطفى صادق الرافعي وزكي مبارك وإبراهيم المازني وأشعار على محمود طه ومقالات دريني خشبة الثوريّة (ذبح الفقراء لا يَحِلّ مشكلة الفقـر) خلال الحرب العالمية الثانية وكانت فرحتي لا تقدَّر!.

وعندما (أنعم) الملك فاروق على أحمد حسن الزيّات بلقب (البيكويّـة) وعلى طه حسين (كان وزيراً للمعارف) بـ (الباشويّة) عام 1951 مدحه الزيّاتُ بمقال فخم أشاد فيه بالملك (الصّالح) الذي كان يؤمّ المصلّيـن بلحية مستعارة في أحد جوامع القاهـرة. وحينما قضى انقلاب يوليو 1952 برئاسة محمد نجيب وجمال عبد الناصر على هذا الملك (الصّالح) كتبت الرسالة: (عجباً للشعب المصري تحكمه امرأة كشجرة الدرّ فيخنع ويحكمه ملك فاسق كفاروق فيخضع). تذكّرت عند هذا الأعرابيّ الأحمق (بيئس) الذي قال وما قاله اقتبسها الحريري في إحدى مقاماته (البس لكل حلة لَـبوسَها إمّا نعيمَها وإمّا بوسَها) قالها عبثاً أو هزلاً، فاتّخِذَتْ مثلاً وعملاً. وبعد مرور عام كامل احتفل الشعب المصري بمرور الذكرى الأولى للثورة / الانقلاب عام 1953 وجاءت كلمة تحرير مجلة الرسالة مفاجئةً: (يحتفل الشعب المصريّ بالذكرى الأولى لثورة 23 يوليو بينما تسقط الرسالة صريعة….) وهكذا كان آخر عهدي بالمدرسة الأدبيّة الأولى التي علّمتني كثيراً من الأدب والشِّعر وما يكون عليه المثقف العربيّ غالباً!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here