“مدينة الله”

البصرة؛ “مدينة الله”، حباها بخيرات وكنوز، ميناء العراق؛ ومنفذه البحري الوحيد، نفط، بساتين نخيل، ملتقى دجلة والفرات، وتأريخ ثقافة وأدب حافل بالإبداع، تكاد بما تكتنزه أرضها من مخزون نفطي هائل وقدرة تصديرية مورد عملة البلاد الصعبة الرئيسي التي تذهب جلها لديمومة تدفق معاشات جيوش الموظفين والعمال والمتقاعدين، ونزر يسير منها لمحاولات بناء وتنمية خجولة تشوبها وتطيح بها مفاسد كبيرة، وبإنتهاء مؤتمر المانحين المنعقد مؤخراً في الكويت والمعوّل عليه كثيراً بإستثمارات ومُنح، رغم مخاوف دول وشركات من فساد مؤسسات البلاد والقائمين عليها؛ تنتظر البصرة، وبقية مدن العراق بترقب شديد مساهمة شركات كبرى في عجلة اقتصادها، البصرة؛ فرص إستثمارية لايمكن تجاهلها لاقتصاد واعد إذا ماتوفرت بيئة ملائمة؛ أمن، وقوانين مشجعة على الإستثمار، وفي خطوة منها لبسط الأمن، ولجم المتجاوزين والعابثين؛ تسعى حكومة بغداد لفرض النظام والقانون فيها، والقضاء على بؤر الجريمة المنظمة، والحد من التجاوز على شبكة الأنابيب الناقلة للنفط، ومصادرة قطع السلاح غير المرخصة، وإلقاء القبض على قتلة، وفض نزاعات عشائرية تُستخدم فيها شتى أنواع الأسلحة، تزهق أرواح بريئة، وتسيل دماء لأسباب لايمكن وصفها هنا إلا بالتافهة؛ وتأريخ البلاد مليء بأمثلة كثيرة تكون فيها القيم القبلية والعشائرية طاغية، عابثة بأمن الناس كلما ضعفت الدولة وعجزت سلطاتها، حتى قوّت شوكة الأخيرة؛ بان خنوعهم وتزلفهم، وتجار مخدرات نشطوا بشكل ملفت في جنوب العراق منذ سنوات عبر تجارة واسعة تدر أموالاً طائلة مع الجارة إيران المصدرة لها ولأدوات تعاطيها، يقول بائع في إحدى المحال وسط المدينة بعد الإطمئنان لنا عن أوضاع المدينة “أنا شيعي، جدي رسول الله؛ إيران دمرتنا، الناس هنا أدمنوا شتى أنواع المخدرات، كيف لدولة بوليسية، تدعي دعمها لنا ولا تستطيع ضبط حدودها معنا؟، لا أحد يستطيع البوّح خشية البطش، هناك من يندفع بشكل هستيري لإبعاد التهمة بشتى الحجج، الجمهورية الإسلامية خط أحمر لايمكن تجاوزه، أو النيل منها، أنا لست ضد إيران؛ شعبٌ محترم، وتأريخ عظيم، لكن حكومتها عمدت إلى إستثمار مظلومية شيعة الجوار مع حكوماتهم السنية لمصالح إيرانية قومية، فأفقدت الكثير منهم إحساسهم الوطني لصالح آراء وتوجهات مرشد ثورتها وتطلعاته”، وعن رغبة سعودية لدخول البصرة، والإستثمار فيها يقول”سوف تُحبط؛ لن تفلح وتخيب، هناك تحشيد كبير ضدها بدعوى مساندة الإرهاب التكفيري وعدوة لاتؤتمن”، مباراة العراق والسعودية الأخيرة؛ كانت محطة جيدة لقراءة أخرى؛ قراءة تكشف لنا جانباً آخراً وهاماً من تفكير سكان العراق غير المؤدلجين فكرياً؛ بسطاء الناس الطامحين بحياة أفضل بعيداً عن أجندات ساستهم، جمهور عريض، تنازعته رغبة رياضية برفع الحظر المفروض منذ عقود على كرة القدم العراقية، وأخرى شعبية واسعة بالإنفتاح عربياً، وهذا ماعبرت عنه فرحة وأناشيد الجماهير الغفيرة التي عجزت مدرجات ملعب جذع النخلة عن إستيعابه، وعربياً؛ والمنظومة الخليجية تحديداً على العراق، لابد من تصحيح الخطأ، التجربة العراقية مابعد نظام حزب البعث أثبتت بأدلة دامغة؛ العراق بمحيطه العربي أكثر منعة، سيادة، إحتراماً، وإزدهاراً، والخطأ الكبير لابد أن يُصحح، وسوء الفهم يُزال، والهوة تُجسَر، بلاد مابين النهرين؛ لايمكن أن تكون رهينة نزوات، شعارات ثورية بلهاء، تصفية حسابات دولية، قراراتها مصادرة، وسكانها مشروع إستشهاد لاينتهي من دمشق حتى صعدة*.

بغداد من جانبها وبعد إلحاح سلطات المدينة المحلية وعجزها على فرض النظام، والإتيان بالمجرمين، والعابثين لينالوا جزاءهم، وخوف عناصر أمنها على حياتهم مع شيوع العشائرية وسطوة الأحزاب الإسلامية المتنفذة، والمدججة بالسلاح، دفعت بقوات إتحادية من كافة صنوف جيشها المتنامي القدرات نحو المدينة، فرصةٌ لا تعوّض لها لإيجاد بيئة جاذبة للإستثمار ورأس المال الأجنبي المنتظر، والمتردد دوماً مع أخبار فقدان الأمن وتهديد سلامة العاملين في الشركات الأجنبية، ناهيك عن محاولات الخطف والأتاوات، لا طاردة له بعد أن أدرك الجميع أن إنهيار المدينة الواقعة في أقصى جنوب العراق، و وقوعها فريسة منظمات إجرام، وإتجار غير مشروع تعني بما لا يقبل الشك إنهيار العراق بأكمله.

“عليكم التعامل بحذر هنا؛ البصرة لا إرهاب فيها، هيّ ليست الموصل التي شاركتم بتحرير ساحليّها، عناصر خارجة عن القانون، تجار سلاح ومواد مخدرة، وأغلب المناطق المُراد تفتيشها وتنفيذ أوامر قبض قضائية ذات طابع عشائري”، بهذه الكلمات بدأ حديث آمر أحد أفواج القوات الخاصة والقتال في المناطق المأهولة مع جنوده الذين شاركناهم أيام قتالهم الشرس في ساحل الموصل الأيمن، قوات نخبة؛ مجهزة بأحدث الأسلحة، ومدربة تدريباً عالياً من قبل خبراء حلف الناتو العاملين في العراق، والمتصاعد إشراكهم في تأهيل القوات العراقية منذ العام 2014 بعد إنهيارها المدوي وفقدانها السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، مع التأكيد على إحترام عادات السكان المحليين وتقاليدهم، مذكرات قبض نفذت بمهنية، ومازالت حتى إعداد هذه السطور، بعضها عبر إنزال جوي، لتعود “أم العراقيين” كما نتمناها، وتتغنى بها طفلتي كل صباح “أحيا وأموت على البصرة”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بعد رحلة الموصل، والبصرة اليوم؛ العراقيون؛ مدنيون، عُشاق حياة، لا علاقة لهم بتشدد ديني، وأجندات الإسلاميين السياسية، وأُمراء الحرب التي تنشط بشكل فعال وبلؤم في مناطق تعاني إهمالاً كبيراً وأمراضاً إجتماعية عبر نبش الأحقاد بين المكونات زائلة مع الوقت بعد أن يدرك الجميع أهدافها الخفية وبعدها عن حماية دين أو مذهب قبل أن تستنزف ماتبقى من شبابهم في محارق لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

للبصريين: شكراً لقلوبكم البيضاء، كلماتكم الدافئة، مشاعركم، ولطفكم…

لا كرم بعد كرمكم؛ منحتم العراق، كل العراق سُبل العيش، بصمت غريب، ورغبة بالعطاء أكثر لايمكن وصفها.

علي السيد جعفر

البصرة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here