آخر ليلة في طهران

وليد كريم الناصري

ليلة موجعة، مكفهرة بسحابها.

ريح هادئة, بلون ذرات الحزن, نسيم بطعم الهجر واللقاء, طنين الأنفعالات يملأ مسامع الجميع, همس يغازل ألأذان, ونظرات تبث حكايات اللقاء, وكأنها ليلة العاشر من محرم, يتبادلون الأدوار, بين راكع وساجد, وقائم وقارئ للقرآن.

في الأفق ضوء مصباح صغير، وسط مقبرة موحشة، يمد خيوطه يداً صفراء، نحو الشجر والحجر والقبور, فيرسم لوحة الاشباح.

ليلة الوداع الأخير, تهز جذع الروح, تساقط دمعاً جنيا.

.

هكذا كان غزير الدمع، يعيش تلك اللحظات مع نفسه.

وما طال الوقت حتى أرخى الظلام سدوله، كجنح طيرا يحتضن ما تحته.

للحبيب موعداً مع وطنه,فراق الوطن، وسنوات الغربة.

.

أخذته الهواجس بعيداً، وبإتجاهات متعاكسة، في كل إتجاه صورة أو لوحة، سيرسمها له من ينتظره بالرجوع.

أهله بالإنتضار.

يا ترى من سَيُقبل أولاً؟ ومن سيحتضن؟

من سيعانق؟ وكيف سيكون اللقاء؟

.

تصورات سرقت النوم من بين محاجر عينه، وراح تلك الليلة يتقلب بجسده على الفراش، بعد إن هجره النوم.

دموع تتقاطر على وسادته..!

فتبتل روحه قبل لحيته، وقلبه قبل عنقه.

راح يمني النفس الجامحة ويروضها بلجام الرجوع للوطن ولكن بلا هوادة!.

مشهد وحال ما كان ليحسد عليه.

موعد اللقاء ينهش قلبه ولُبه، وبالأثر فراق آخر!

ما بين تلك وتلك، جلس يبكي الليل كله.

لا وحيٌ من خيال، ولا نظمٌ من سجع.

قصة عاشق خيرهُ القدر بين عشقين.

وطنٌ مسجى، لشعب يُحتضر!

ورفيق قلبٌ سيهجره بالأثر.

ولمن سيختار؟ وعلى ماذا سيجري القدر؟

.

هكذا كان السيد “محمد باقر الحكيم” ليلة الرجوع للعراق، وهو يودع السيد “الخامنائي” الوداع الأخير..!

.

كان الحكيم متوتر، متحركاً بجسده وروحه، ما بين( قائم, وجالس, وساجد, وشاكر) لدرجة أنه لا يدري ما يفعل ليتخلص من كيد هواجسه، لم يذق طعم الرقود تلك الليلة، وكم يُذكر من حوله، بالليلة التي قضاها “علي ابن ابي طالب” يجول في صحن داره، وهو ينظر في السماء والنجوم، والصوائح من حوله, ويردد قولته: ( هي, هي والله, الليلة التي وعدت بها)

.

أنها الليلة التي طال إنتظارها، ووعده بها الأمام “الخميني” قائلاً للحكيم: (سترجع للعراق)..!

.

للحكيم أكثر من “إثنا وسبعون” روحا وجسد، من أهله ودمه ولحمه، وصالح جيرته, غيبتها قضبان ومقابر البعث، وغداً سيدخل دورهم, كما دخل “علي السجاد” دور آل “عقيل” وقال: ( والله ما مررت على ديار آل عقيل, إلا وخنقتني العبرة, كيف لا والدهر لم يترك لنسائهم رجل في الدار, فكلما طرقت الباب عليهم خرجت لي يتيمة! أدركت إن أباها أستشهد في كربلاء)

وللحكيم غدا بكاء ولقاء مع يتاما اثنا وسبعين شهيدا من أهل بيته ..!

للحكيم وطن جريح، اثخنته سياط الجلادين، الذين كانت معاولهم تنهش كل شيء فيه.

.

للحكيم شعب مظلوم، ما بين أمهات ثكلى، وآباء مفجوعون، وأطفال ميتمون، وزوجات مرملات.

للحكيم أرواح تحوم حول اجسادها، قُبرت وغيبت تحت تراب هذا الوطن.

ولكن بالمقابل، للحكيم رسالة جهاد، ومصير موحد، مع رجل وشعب إحتضنه في محنته.

وقف “الحكيم” تلك الليلة امام السيد “الخامنائي” ودموع الوداع الأخير تتقاطر على لحيته، وهو يخطو بخطوات هادئة وقرة، يخفي خلفها بركان من مزيج قاتل، ما بين فرحة الرجوع للوطن ولوعة فراق الأحبة، تبسم أحدهما للأخر، وأحتضن أحدهما الأخر.

وقال السيد “الخامنائي” للسيد “الحكيم”: إذهب لبلدك العراق مُخَلصاً، فأنت أهلاً لقيادة شعبك وأهلك.

.

تبسم الحكيم وقال: وأني لأرى خروجي الى العراق كخروج جدي الحسين من قبل! ثم بكى رضوان الله عليه، وراح ينصرف من أمام السيد “الخامنائي” وهو يمسح دموعه، ويردد دعاءه المعروف:( اللهم اختر لي شهادة في سبيلك تتذرى بها اوصالي في الهواء)!

فأعطاه الله ما أراد!

فكان الشخص الوحيد الذي لم يدفن في جوار الإمام “علي” بل دُفن فوق قبته، وكأنه القبة هي هامة “علي” (عليه السلام )، والحكيم بلسما ذُريَ في “هامته”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here