في رحاب شهيد المحراب

وليد كريم الناصري

أثقلت الخطى! أم العراق أثقلني؟

حَمِلْتُ الحكيم! أم نعشه يَحملني؟

وما بين ذو الخلد و ذن، أدركت في النعش وطن!

ومذ رأيت النعش منتصبا! أيقنت الحكيم شيعني!

كانت الريح تخفق بكفيها بهدوء، فيصرخ البرق من بين السحاب “أمطري”، روحي ترتعد بشدة، قطرات الغيث أمتزجت بالهواء من حولي، وراحت تهدد أطرافي الرقيقة بالبرد، فأيقضت في جسدي متاريس الوقار، متكاهلاً بأطراف أصابعي، عبلتُ كتفاي بقوة، وأنا أشيع الحكيم في ذكرى شهادته، ما كنت لألوذ بنفسي منطويا عليها، سوى أنني لذت بالنعش الذي على كتفي، فتقاطرت دموعي تسابق قطرات المطر، وراحت هواجسي تحدث صاحب الذكرى، بكلمات ما كنت لأشعر بنظمها، سوى أني وجدتها تخرج من فمي: ( السلام على من يجير حياً وميتا)!

خجلاً؛ لم يتحمل جلدي ولحمي زخات مطر هادئة من أجله، فكيف بجسده عندما تشضى بين السنة النيران من أجلنا جميعاً.

فرحاً؛ أدركت بأن “الحكيم” وطنٌ يُلاذ بحضرته ( حياً كان أو ميتا)!!

“محمد باقر الحكيم” قصة عن واقع مغيب، كانت حياته “رضوان الله عليه” أقرب الى حياة الأئمة منها الى عامة الناس، هو الشخص الوحيد الذي طار بجناحي السياسة والدين بشكل مطلق، كون عمله السياسي متقنن بأصول فقهية وعقائدية ودينية، منشأ قوامها يمتد الى أيام أبيه زعيم الطائفة “محسن الحكيم”، ومشروعه السياسي يبدأ بمباني الشهيدين “مهدي الحكيم” و “محمد باقر الصدر” (رضوان الله عليهم)، أمتطى صهوة الجهاد والسياسة في بواكير عمره، لم يُثنى ولم يَلِن، أمام (إثنا وسبعون) شهيدا من أهل بيته! لأنه ما كان ليختزل مشروعه السياسي، بمصير وحياة عائلته، فيرى أسوته بعدد من أُستشهد مع جده “الحسين” في كربلاء، وما حصل على عائلة “الحسين” من تشريد وقتل وتهجير.

يذكر الشيخ “جلال الدين الصغير” وهو أحد رجالته ومرافقيه سنوات الجهاد، يقول الشيخ: ( قبل خروج الحكيم من العراق، دخلت الى حرم الأمام “علي” (عليه السلام) زائراً ليلة الجمعة، فسمعت وأنا في الصحن الشريف، صوت يقر (دعاء كميل) قرب الضريح، وهو يصرخ ويضج بالبكاء والنحيب، أستغربت من أمر ذلك الصوت، إذ لم نعتد أن نسمع قراءة بهكذا إنفعال واتصال مع “الله” (عز وجل)، اتجهت صوب مصدر الصوت، ولما دخلت وجدت السيد “محمد باقر الحكيم”، وهو غارق بدموعه، منقطعاً الى الله بقراءة الدعاء، وكلما أنهى فقرة من فقراته، أخذ يضرب على فخذه، ويمسك لحيته بقوة، وكأن روحه تخرج مع كل حرف وكلمة ينطقها!.

دائماً تذكرني شهادة السيد” محمد باقر الحكيم” بشهادة ذلك الشاب، الذي أتت به والدته، الى (قائد) أحد معارك المسلمين في الفتوحات الإسلامية، وكان الشاب جميل المنظر حسن الصورة، لم يبلغ الحلم بعد، كره القائد أن يصيب تلك (الدرة البشرية) مكروه في الحرب لشدة جماله، فتفجع به أمه، ولكنها ألحت على (القائد) بالألتحاق به للحرب لأنها غايته ومراده ومطلبه! بعد أستشهاد أبيه، ولما عجز (القائد) عن إقناعه بالرجوع، قال لأصحابه: (أسرجوا لهذا الغلام فرسا تُسايرني أينما حللت، ولا يغب عن ناظركم، وأحرصوا أن لا يشتبك في المعركة، ولما وصل الجيش المعسكر، والغلام لازال بين أنظار (القائد) يراقبه.

إشتبك الجيشان في المعركة، و لما إنتهت الحرب بينهما، وبدأ المسلمون يتفقدون ما تبقى من الجيش، لم يجدوا ذلك الغلام بينهم، فأنطلقوا للبحث عنه بين القتلى، فوجدوه مستشهدا بين القتلى، بعد إن أخذته نشوة الاقتتال والحرب في سبيل “الله”، بكى القائد عليه وحزن حزن شديد، ولام نفسه في مقتله، ولما أراد المسلمين دفن الشهداء، قال (القائد): ( أفردوا للغلام قبراً اكراما لأمه! فأفردوا له قبر، وكلما أرادوا وضعه فيه لفظتها الارض خارجاً! أستبدلوه بقبر غيره وعلى نفس تلك الحالة! تخرجه الأرض من جوفها! فأمر (القائد) بأن يُترك على سطح الأرض، ولما إنصرف الجيش قليلاً عن الجثة، نزلت الطيور الكواسر، والتهمت جسد ذلك الغلام! ولم تبقي من جثته شيئا، فتحير الجميع بأمره!.

رجع الجيش الى المدينة، وخرجت العوائل لأستقبالهم، وكان (القائد) يتخفى من ان لا تراه والدة الغلام فتسأله عنه، فجأة وإذا بها واقفة أمامه تسأله عن ولدها، فنزل عن جواده، وأخبرها وعزاها بأستشهاد ولدها، فقالت له بصوت باكً حزين:” وهل نزلت الطيور الكواسر لتأكل جثة ولدي بعد موته؟!” تعجب (القائد) وقال: نعم والله رأيتها، وكيف عرفتي ذلك؟ قالت إن ولدي كان كثيرا ما يدعوا بهذا الدعاء ” اللهم أحشرني يوم تحشرني في سبيلك من حواصل الطيور و بطونها وأحشاءها”، فكانت تلك الطيور الكواسر، مصداق لاستجابة دعاءه، وقبول شهادته عند الله عز وجل.

السيد “محمد باقر الحكيم” لم يختلف كثيراً عن ذلك، وكما تذكر عقيلته إذ تقول: لطالما كان السيد ” باقر الحكيم” يكثر من الدعاء وهو متعلقا باستار الكعبة قائلاً:” اللهم أختر لي شهادة في سبيلك، تتذرى بها أوصالي الى السماء” ولطالما أخبر “الحكيم” محبيه ومريديه بذلك قائلاً:( وكم يود القلب ان ينفجر اشلاء في الهواء، فيحتضنكم ج

ميعا) فكانت شهادته (رضوان الله عليه) مصداق لدعاءه وإخباره وقبول شهادته في سبيل الله والوطن، وهو الشخص الوحيد الذي استشهد قرب ضريح “أمير المؤمنين” الأمام “علي” ولم يدفن في أرضه، بل دفن على قبته ومباني الصحن الشريف، مع “اثنا وسبعين” شخص من أصحابه

وختاما نقول: السيد “باقر الحكيم” هو مصداق الرجل الصالح، الذي يربطنا بنهج أهل البيت (عليهم السلام)، فكانت حياته نسخة عن حياة الائمة (عليهم السلام)، بما عانوه من صعوبة العيش والحياة والحكم، في ترويض المجتمعات والأجيال الى الخير والصلاح، ولطالما هو باقٍ الى الآن يدفع ضريبة ذلك النهج المحمدي، كما أخبر بذلك الامام “الخميني” رضوان الله عليهم بوصيته له قائلاً له:

( ولدي العزيز؛ إعلم بأن الله سيمتحن قلبك، وقلوب من يلتفون حولك،ليمحص ويختار الأخص منكم! فلا تغرنك كثرة ممن يلتفون حولك، القلوب شتى والنوايا مختلفة! ولا تغرنك كثرتهم وصرخاتهم بالمديح لك، حتى لايدخل الشيطان الغرور على قلبك، عليك بالصبر على آمرهم، وستمر عليكم فتن كثيرة،لا تمر آحدها إلا تأخذ منكم مأخذها، وتجرف معها اصحاب الطمع ومن يتبعك لمصلحة المال والجاه، ولا يبقى معك الا المخلص الذي امتحن الله قلبه بالايمان .. الى اخر الوصية).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here